12/11/2015 - 07:02

الجريمة والسياسة../ د. سهيل حسنين*

ما نراه اليوم حول أسباب انتفاضة القدس وفشل الاحتلال من انتهاء احتلاله من خلال إقرار الحل السياسي، وإدراك الفلسطينيين بالإحباط المرتبط بتواجد هذا الاحتلال، وحول إحساسهم بفقدان السيطرة على حياتهم اليومية... كل هذه المفاهيم ترتبط بالسياسة

الجريمة والسياسة../ د. سهيل حسنين*

ما نراه اليوم حول أسباب 'انتفاضة القدس' وفشل الاحتلال من انتهاء احتلاله من خلال إقرار الحل السياسي، وإدراك الفلسطينيين بالإحباط المرتبط بتواجد هذا الاحتلال، وحول إحساسهم بفقدان السيطرة على حياتهم اليومية... كل هذه المفاهيم ترتبط بالسياسة وليس بعلم الجريمة.

بالطبع تُدرك سلطات الاحتلال أن الفلسطيني هو خارق الأنظمة والقوانين، إنه خارق مئات الأنظمة التي يخلقها يوميا والتي هي بمعظمها غير قانونية وفق القانون المحلي والدولي. هذه ليست جرائم عادية، لسببين: الأول- الأفعال التي نراها تستند إلى أيديولوجيات واضحة في مضمونها والتي تعتبر هذه الأنظمة والقوانين غير شرعية، والثاني- وجود الأنظمة التي تعتبر الفلسطينيين الذين يعيشون في  إطارها كــ 'خارقي الأنظمة' وتحولهم لمجرمين بالقوة، بل لمجرمين أيديولوجيين.

في ظل هذه الظروف، من الضرورة فهم 'التأثير الرادع'.  باختلاف التوقعات المنطقية، لا تتوفر الأدلة التي تقترح أنه يمكن ضبط 'الجرائم الأيديولوجية' من خلال التعديل في القوانين أو التصعيد في أنواع العقاب أو القتل بدون محاكمة. نحن نعرف، بالتطرق للجرائم العادية، أن تأثير التغيير في مضمون القوانين أو فرض أنواع عقوبة أشد قسوة محدود الى حد كبير وفي أحيان كثيرة سلبي بل وعكسي.

في حال توفر مقاومة سياسية والموجهة ضد شرعية القانون والأنظمة، في حينها يصبح 'التأثير الرادع' للعقلية العسكرية عديم الجدوى والأثر. دعنا نفترض أن العقلية العسكرية (بل ما يسمى بالإستراتيجيات العسكرية) لمواجهة هذه المقاومة في محك البرهنة، ويمكن الإقرار أنها صحيحة وتؤدي إلى إنهاء المقاومة ولو لفترة معطاة. هل ضبط المقاومة سيبقى إلى أمد طويل؟ والسؤال الذي نسأله دائما هو 'ماذا يعمل؟' هل يستطيع مجتمع معين، والذي يتظاهر بالديمقراطية والأخلاقية، استخدام طريقة التفكير المستندة إلى 'ما الفعل الأكثر ردعا' كمقياس، وعن طريق إحداث تغييرات في القوانين والأنظمة (مثلا: تغيير سن المسؤولية الجنائية للأحداث 'خارقي الأنظمة' الفلسطينيين)؟ منطقيا، يتم اتخاذ القرارات في إطار القيم والأخلاقيات، وليس في إطار الموارد التقنية. هذه هي الطريقة التي من خلالها نحكم على 'إستراتيجية الاحتلال العسكرية'. قيمنا هي التي تحكم على سوء هذه الإستراتيجيات التي تقتل كل فلسطيني والذي يشك أنه حامل سكين أو مقص أو أداة حادة ولو من بعد، أو التي تواجه إلقاء حجر بكسر ذراع أو رجل ملقي الحجر.

 يوصلني هذا التفكير لطبيعة سياسة إسرائيل نفسها. إن المفاهيم الرسمية (خاصة القانونية) والسيناريوهات والقوالب التفكيرية العسكرية الثابتة في أحيان كثيرة تحجب الحقائق: هذه المفاهيم والقوالب العسكرية لا تستطيع  المساعدة في توضيح الأمر الجلي المستند إلى قيم وأخلاقيات إنسانية ومفادها أن جنود الاحتلال ينفذون الآن خروقات جنائية واضحة. الاستعانة بمعايير محلية أو دولية قد توصلنا للتفكير أن الجندي (بتأثير أوامر مباشرة أو بدونها) والذي يطلق النار ويقتل بدم بارد أو الذي يسطو على البيوت ويكسر محتوياتها أو الذي يعتقل طفلا ويطلق النار على ذراعه أو رجله في أحسن الأحوال هو نفسه خارق هذه المعايير.  هذه جرائم ليست عادية وإنما 'جرائم أيديولوجية'. يُستخدم هذا المفهوم، أيضا، في حال استخدام أساليب التعذيب والتعبير عن ألفاظ عنيفة من قبل ما يسمى بــ 'رجل تنفيذ القانون' خلال التحقيق.

من الأهمية الوعي إلى أن الجرائم هي سلوكيات متعلمة. هنالك تعليمات حول ما يجب عمله، وتعزيزات تعطى في حال الانصياع لها. في كل مرحلة يتم تعزيز السلوك ويتم تغيير مستوى التسامح (لما يتم عمله أو السماح للآخر بعمله) وبالتالي يصبح العنف أمرا طبيعيا، بل يُعزز الإنسان على تنفيذه. نتائج دراسات وأبحاث عديدة في علم الجريمة توضح أن 'مجموعة الأقليات' تصبح عنوانا شرعيا لهذه التصرفات. ليس فقط الجندي أو رجل حرس الحدود أو الشرطي بل الإنسان العادي، الذي يملك القوة كونه يتبع لمجموعة 'الأكثرية المسيطرة'، يستخدم هذا العنف لضبط الآخر الأقل قوة، وهكذا ينتشر العنف في أجزاء في مجتمع 'الأكثرية' التي تعطي لنفسها الشرعية لاستخدام هذا السلوك. تُصبح هذه السلوكيات طبيعية ويتم تعزيزها في حال استخدامها. تتوفر لدينا، في هذه الأحوال، الوصفة الأكيدة والكاملة لما يسمى بلغة السياسة بــ 'التصعيد' أو بلغة علم الجريمة بــ 'تصعيد الانحراف والجريمة'.

الدائرة لم تنته بعد. من المعطيات المُحبطة في أبحاث علم الجريمة أن 'لا شيء يعمل'، لا تتوفر حلول سحرية للتخفيف من مدى الجرائم العادية في حال تصميم قانون أقل أخلاقية، أو فرض عقاب أكثر قسوة وشراسة، أو في حال استخدامنا طرق علاجية فردية لمواجهة المجرمين. في مثل هذه الحالات مقارنة بحالات التي تفرض عليهم طرق تدخل فردية أكثر إنسانية، تبقى النتائج نفسها أو على الأقل متشابهة لحد كبير.

الدائرة قد تنتهي ليس من خلال تحويل مئات بل الآلاف من الفلسطينيين لـــ'خارقي الأنظمة' ولـــ'مجرمين فرديين'، وإنما فقط من خلال تحويل 'المشكلة' لفرصة الحل السياسي الجذري.

التعليقات