22/02/2016 - 18:36

مدسوس برتبة رئيس أركان/ خالد تيتي

كعادته، لا ينفك المجتمع الهاوي نحو الفاشية عن إنتاج وتصدير المفاجآت يوماً تلو الآخر. المجتمع وليس النظام.

مدسوس برتبة رئيس أركان/ خالد تيتي

كعادته، لا ينفك المجتمع الهاوي نحو الفاشية عن إنتاج وتصدير المفاجآت يوماً تلو الآخر. المجتمع وليس النظام. فليست وحدها الأنظمة من يتورط في تدهور إطار الدولة إلى حالات شاذة سلبية، بل ثمة دور للديناميكيات التي يولدها المجتمع والوكلاء الفاعلين فيه، وثمة دور كبير "للإبداعات" المجتمعية في تلقين الناس المعاني والمصطلحات والسياقات الجديدة في عملية التحول إلى حالة سياسية شاذة، كعملية 'إرساء الفاشية'، فلا يكفي إذًا القرار السياسي لكي تنضج الظروف لتغير طابع النظام/ الدولة، إذ لا بد من مرافقة مضبوطة من قبل الوكلاء في المجتمع لتحويل 'كل صغيرة وكبيرة' لكبيرة في الإعلام أولا ومن ثم في الأذهان. 

مجرد اعتلاء رئيس أركان جيش إسرائيل، غادي آيزنكوت، أحد المنصات العامة وتصريحه بأنه "لا يريد مثلا لجندي أن يفرغ ذخيرته على طفلة (يقتلها) فلسطينية في الثالثة عشر من عمرها، لمجرد تلويحها بمقص"، كان كفيلا بإحداث عاصفة افتراضية وجدل واسع في الإعلام والمجتمع الإسرائيلي حول مدى ولاء آيزينكوت للدولة اليهودية، وفيما إذا كان مخولا للاستمرار بمنصبه الرفيع كقائد للمؤسسة العسكرية. حتى أن بعض الساسة من اليمين المتطرف طالبوا بعزله عن منصبة ولم يسلم آيزينكوت حتى من بعض الوزراء. ولكي نضع الأمور في نصابها، قبل الخوض في سياق هذة العاصفة لا بد من تفكيك خلفية تصريحات آيزنكوت، فعندما يتحدث القائد أو المسؤول في العلن عن  قضية داخلية، فإما أن يكون في أزمة داخل المنظمة وإما أنه قصد سلفًا أن يبيض صفحة المؤسسة العسكرية ويتميز في خطابه عن الخطاب السائد عبر تصريحات مُخففَة مثيرة للجدل، تنم عن رأي مفصل من جهة، ورأي قابل للتأويل لعدة جهات. ولا يمكن الجزم إن كان آيزنكوت قد توقع هذه العاصفة حول أقواله، ولا إن كانت تصريحاته تنطوي على تعليمات داخلية جديدة حول قوانين إطلاق النار وحدودها. الأمر المؤكد هو أن سياسة الإعدامات الميدانية والقتل لمجرد الشك التي تنتهجها إسرائيل إزاء الشباب الفلسطيني المنتفض بدأت  تعود بالسلب على من أراد لها الانتشار كرد على العجز في التعامل مع الهبة الأخيرة، بعد ما انتشرت مقولة 'يجب إطلاق النار بهدف القتل'، إضافة إلى المقولة التوراتية 'من عزم على قتلك، قم واقتله' والتي وصفها آيزنكوت في خطابه بالشعار المنافي لتعليمات إطلاق النار وفق العقيدة والتعليمات العسكرية. وفي ذلك اشارة واضحة ونقدية منه تجاه تدخل المستوى السياسي في تعليمات الجيش المهنية عامة وفي مساحة سياسة إطلاق النار عامة.

 ليست هذه العاصفة إلا إحدى إبداعات المجتمع الإسرائيلي الذي يعرف طريقه جيدا نحو الفاشية، فعندما يُصلب رئيس أركان الجيش حول تصريح عادي ومفهوم ضمنا (عن القتل العقلاني!) مفاده أنه لا يتحتم على الجندي قتل طفل فلسطيني لا يشكل تهديد أو خطر فعلي، فيجب الالتفات إلى أمرين: المنافسة بين الهمجية والعقلانية في إسرائيل تنتقل تدريجيًا إلى منافسة على الاصوات والمكاسب الانتخابية (ولهذا السبب لم يدافع نتنياهو عن آيزنكوت واكتفى بالقول أنه أسيء فهمه). وفي جانب آخر يبدو أن ثمة من بدأ يستوعب الرد العكسي للإعدامات الميدانية، التي من شأنها أن تزيد الهبة لا أن تحد منها. 

ولا بد من الإشارة إلى سياق عاصفة آيزنكوت، التي تندرج في أجواء كم الأفواه والملاحقة السياسية، ووسم كل من يخرج عن إجماع  اليمين المتطرف، بالخيانة كحملة “المدسوسون” الأخيرة والتي باتت تعبر عن ثقافة ونهج حياة، وتحويل كل جدل هامشي لعاصفة في محاولة للجم وتحجيم كل من يحاول اختراق أجواء التحريض، حتى إن كان آيزنكوت، رأس المؤسسة العسكرية بنفسه، المقاتل في جنوب لبنان  والسكرتير العسكري لأرييل شارون وإيهود باراك، والذي تدرج في المناصب القيادية في الجيش على مدار أكثر من ٣٥ عاما، أي أنه لم يعرف شيئًا آخر في حياته سوى القتال ضد العرب والفلسطينيين! 

لن يخسر آيزنكوت منصبه نتيجة لاتهامه في التهاون في محاربة الإرهاب، إلا أن هذا الاتهام كفيل في إخضاع مستقبله العسكري (وحتى السياسي) وربما لن تمدد ولايته بعام إضافي كما هو متبع، ولكن السؤال الأهم هو كيف ستؤثر هذه العاصفة على هوج الإعدامات الميدانية من جهة، وهل سيتصرف جنود الاحتلال وفق عقيدة "القتل العقلاني" التي ينتهجها آيزنكوت أم وفق صهيل القطعان المتعطشة لدم الفلسطني؟! حتى اللحظة يبدو أن الأجواء الفاشية تطغى على أي عقلانية، حقيقية كانت أم مصطنعة، ولا تغرنّا هذه العواصف الإعلامية، مشهدية الإعدام اليومي للفلسطينين في باب العامود وحدها كافية لكي تحسم الجدل لصالح إفراغ الذخائر بلاد رادع.   

التعليقات