04/05/2016 - 15:48

مانديلا.. أهلا بك في فلسطين

مانديلا يدعونا للتأمل في تجربته ونضال شعب جنوب أفريقيا البطل، ولعله فأل خير وبركة على رام الله وشعبنا وفلسطين، التي تزهو باحتضان نصب مانديلا، وتتطلع أيضا لاحتضان أمثاله من قادة الحرية

مانديلا.. أهلا بك في فلسطين

لا أدري كيف أصف مساء  يوم  الثلاثاء القائظ  في السادس والعشرين من أبريل الفائت، حيث تقاطر الفلسطينيون من رام الله والضفة والقطاع ومناطق 48 بشتى ألوان طيفهم السياسي والاجتماعي من النساء والرجال والشبيبة، وحتى الأطفال، بشكل عفوي إذا استثنينا المدعوين الرسميين، إلى حي الطيرة غرب مدينة رام الله،  حيث انتصب بعد رحلة عناء في موانئ وعلى حواجز جيش الاحتلال، واقفا كعملاق ذلك المجسم الشامخ للقائد الثوري والرئيس الجنوب أفريقي الأسبق، نيلسون مانديلا، في موقع متوسط بين دوار الشهيد ياسر عرفات ودوار الشهيد بشير البرغوثي شرقا، ودوار الشهيد  د. جورج حبش غربا، مكللا  بستار من قماش شفاف تداعبه الرياح في انتظار إزاحته، إيذانا بتدشين ميدان نيلسون مانديلا وبانتهاء حفل الاستقبال البهيج الذي أقامته بلدية رام الله مشكورة.

وكالعادة أصابنا النحس الذي لا يفارقنا منذ فترة طويلة، والمتمثل في ترددنا المزمن وتذبذبنا المستدام، بما يحول دون استكمال عمل نبدأه حتى النهاية، فنفسد في دقائق ما جهدنا فيه شهورا وربما سنينا، إذ عمت المكان فوضى مفاجئة، وأوقفوا الضيف رئيس بلدية مدينة جوهانسبرغ، توأم مدينة رام الله، عن استكمال وإنهاء كلمته التي جاءت بعد كلمة رئيس بلدية رام الله  المضيف، نوعا من تبادل  الود والاحترام والعزم على التعاون والعمل المشترك، وتوقفت أجهزة الترجمة عن العمل للضيوف الأجانب الذين أصابتهم الحيرة في فهم ما يجري، واقتيد  الضيف المغلوب على أمره  نحو  ساحة النصب الكبير، ومعه دعيت الصفوف الأولى لاستقبال الرئيس القادم على حين غرة، ومن ثم لحق بهم الحضور دون أن يدعوه أحد، ومثله هرولت جموع الصحفيين والمصورين يحملون كاميراتهم كي لا تفوتهم اللحظة الأهم، وفي دقائق معدودات أزاح الرئيس الستار وذهب وسط تصفيق من الحضور، الذي علت وجهه ابتسامة ساخرة، وهو يسمع من يدعوه للعودة من جديد للجلوس من أجل الاستماع إلى بقية كلمة ضيفنا العزيز، فيما أحاطت الناس بمجسم المناضل الرمز نلسون مانديلا يلتقطون الصور التذكارية ويرفعون قبضاتهم في محاكاة مؤثرة لقبضته، تماما كما يفعل السياح والضيوف، والمواطنون والشبيبة في مناسباتهم الجميلة في مدينة جوهانسبرغ الجنوب أفريقية، شغفا بالقائد الأممي وبالقيم الإنسانية الكونية التي جسدها.

ورغم أنني كنت أتمنى أن يولي وجهه وقبضته الواثقة شطر الغرب المطل على الساحل الفلسطيني بدلا من الشمال الذي يطل على الشارع العام، ولربما كان وضع المجسم بهذا الشكل والاتجاه ينطوي على حكمة نجهلها، وهي في الحقيقة لا تغير شيئا من جمال و مغزى ومعنى أن يحط أول تمثال لمانديلا خارج بلاده في فلسطين، راجيا أن لا أكون مفرطا في الاندفاع إذا ما قلت: إن هذا اليوم الذي بدا حدثا ليس رسميا بما فيه الكفاية وافتقر إلى بروتوكول رفيع يجاري هيبته، هو يوم مشهود في تاريخ الشعب الفلسطيني بوصفه مؤشرا ورمزا يمثل إيذانا بانتقال مركز ثقل النضال الإنساني العالمي ضد العنصرية من جنوب أفريقيا إلى فلسطين، باعتبار الصهيونية الشكل الأكثر قبحا للعنصرية والأبارتهايد.

حقا، حري بنا أن نشكر بلدية رام الله ورئيسها على هذا العمل المميز ونظيرتها بلدية جوهانسبرغ ورئيسها وشعب جنوب أفريقيا البطل وقادته الأوفياء، فلقد زين المناضل الأممي الجنوب أفريقي ديارنا ومدينة رام الله المدللة، فما أن أزيحت الستارة عن هذا النصب الشامخ حتى تبدت تلك الابتسامة المشرقة والوجه الأسمر المشع ومن تحته ربطة عنقه الحمراء التي تزين قامة طويلة بستة أمتار تعلوها قبضة جبارة واثقة  تعكس إرادة الشعب الموحد المنتصرة التي لا تقهر ولا تعرف الهزيمة، وتذكرنا بشاعرنا الكبير معين بسيسو في نشيده : نعم قد نموت ولكننا .. سنقتلع الموت من أرضنا، أرى قائد الثورة المنتصر.. يلوح لي بيد من حديد وأخرى تطاير منها الشرر.. أنا الآن بين جموع  الرفاق أشد إلى قبضاتهم قبضتي.. أنا الآن اشعر أني قوي وأني سأهزم زنزانتي.

لقد كان رفاقنا الجنوب أفريقيون بحضورهم  الظريف خفيف الظل والمتعاون يضفون مزيدا من التضامن والألفة على تلك اللحظة التي قال فيها رئيس بلدية جوهانسبرغ: إن إقامة النصب سيشكل انعكاسا لفترة من الأمل عاشتها جنوب أفريقيا وأعرب عن أمله بأن يتمكن شعبنا من الانتصار كما انتصر شعب جنوب أفريقيا على العنصرية. هذا فيما بدا فيها الحضور مغمورا بنوع من الفرح والعفوية والطاقة الإيجابية التي أشاعها الحدث، فضلا عن الفخر باحتضان نصب المناضل الأممي القائد نيلسون مانديلا، ولسان حالهم يقول: من أجدر من فلسطين ومدنها وساحاتها باحتضانه وباحتضان نصب قادة النضال الثوري والإنساني من أجل الحرية والعدالة، فلقد تقاسمنا أخوة وشرف شراكة النضال منذ مطلع القرن الماضي ضد الاستعمار والاحتلال والعنصرية والاستغلال، وما زلنا وسنبقى على الدرب.

نيلسون مانديلا الذي قضى سبعة وعشرين عاما في سجون العنصرية رافضا أن يدين الكفاح المسلح الذي بدأه، متوّجا وحدة شعبه ونضاله المتنوع الأشكال بهزيمة التمييز العنصري، ومخلفا إرثا تفخر به البشرية جمعاء، وقيما كونية تبعث على التأمل والأمل والإلهام لكل الأحرار، يدعونا للتأمل في تجربته ونضال شعب جنوب أفريقيا البطل، ولعله فأل خير وبركة على رام الله وشعبنا وفلسطين، التي تزهو باحتضان نصب مانديلا، وتتطلع أيضا لاحتضان أمثاله من قادة الحرية، أليست فلسطين الثورة والمقاومة "وطن حر لشعب من الأحرار".

التعليقات