06/05/2016 - 16:19

النظام "الرجعي" السوري

إن استعمال هذا المصطلح في مراحل منقضية تعود ربّما إلى أيام جمال عبد الناصر في حرب اليمن، وقيلت آنذاك، مع صحتها، كوصف بالأساس للأنظمة الخليجية الملكية الظلامية المتعاونة مع الاستعمار.

النظام

في السنوات الأخيرة، ومع انطلاق الثورات العربية المباركة وانتفاض الشعوب على أنظمة القهر والاستبداد، استرجع العرب، خصوصا الذين انحازوا إلى الأنظمة العسكرية أو الفلول، عددًا لا يستهان به من شعارات ومؤثرات الثورات السابقة، وعادوا كذلك، لتكريس تقسيمات قديمة، لا تتناسب مع المتغيرات السياسية والاجتماعية والاقتصادية المحلية والإقليمية والعالمية، التي، كما هو معلوم، لا تستمر بوتيرة واحدة من حيث الرؤى أو المواثيق أو الاتفاقيات، بل تتغير وفق تغيير المصالح والمكاسب للقوى المهيمنة.

وحاول أولئك العرب، أيضًا، تركيب واقع سابق لحاضر قائم مستحدثًا سياقات منقضية لم يبقَ منها سوى الغناء على أطلالها أو البكاء على انتكاساتها، وسبب ذلك قد يكون عجز العربيّ عن التحليل أو عدم قدرة على قراءة الواقع أو أنه ما زال عالقًا في أزمانٍ غابرة انقضت، هناك منتصفَ الخمسينيات والستينيات أو في محاولة بائسة لإيهام الناس في صدق مواقفه.

إن اصطلاح "الرجعية العربية" هو الأكثر استعمالًا وانتشارًا في أيامنا هذه، وإعادة تشغيل مفهوم "الرجعية"، ينطلق من منطلق أن الأنظمة الاستبدادية تعتبر نفسها "ثورية تقدمية" أو تنويرية والأنظمة العربية "الجمهورية التقدمية" في غالبها، كما تحب أن تُسمي نفسها، استهلكت تاريخيًا التنديد بالرجعية وتجييش الناس بحسبه؛ لكن، وبالمقابل، لم تبخل الأنظمة أبدًا في تبنيها لمفهوم "الثورة" ورفعته إلى مرتبة قدسية، حيث سترت هكذا على انعدام شرعيتها الدستورية بنشدان "الشرعية الثورية".

إن استعمال هذا المصطلح في مراحل منقضية تعود ربّما إلى أيام جمال عبد الناصر في حرب اليمن، وقيلت آنذاك، مع صحتها، كوصف بالأساس للأنظمة الخليجية الملكية الظلامية المتعاونة مع الاستعمار.

لكن يبقى السؤال هنا، من هو الرجعيّ؟ وهل الرجعية وصم يقتصر على دول الخليج؟ وهل من أفلت من هذا الوصم هو فعلًا ليس رجعيًا؟

إن لمفهوم الرجعية مدلولًا فلسفيًا، ومدلولًا تاريخيًا وهو، بكل بساطة، كل معارضة للإصلاحات الحديثة، والتمسك بالأساليب والمبادئ القديمة في المجال الاقتصادي و الاجتماعي و السياسي، وهو، أيضًا، الوقوف في وجه التطور الحضاري، ووضع التعقيدات والعوائق في طريق عجلة تقدم الإنسانية، والالتفات دومًا إلى الوراء، السلب والاستيلاء وقهر الشعوب، والإساءة إلى كرامة الناس، وكل ممارسات وتصرفات سببها الجهل، وتفشي شعارات طائفية ومذهبية خبيثة ومقيتة، فضلًا عن التقديس والتدليس وإشاعة الخرافات وهي عكس الراديكالية والليبرالية في النظام السياسي وعكس التنوير كثقافة.

وأتساءل حيال هذا التعريف الذي يتسارع مؤيدو النظام السوري إلى استعماله في كل مناسبة للهروب من النقاش على شرعية أنظمة الاستبداد وحجم جرائمها، ألا ينطبق هذا التعريف على هذا النظام، نظام الأسد؟ نظام سلب حريات أبنائه وملء السجون بالمعارضين السياسيين وتفرد بالسلطة لأربعين عامًا، بالإضافة لتحويله البلدَ إلى عزبة خاصة اسمها "سورية الأسد" وارتكب المجازر في سورية ولبنان، ومنها مجزرة حماة وتل الزعتر وقتل الشيوعي قبل الإخواني والسيطرة على الإعلام ومطاردة أبو عمار وضرب منظمة التحرير الفلسطيني وشق صفوفها وتوريث الحكم لابنه، الذي لم يطلق رصاصة واحدة بهدف تحرير الجولان، بينما يستبيح العدو الصهيوني أجواءه ليلًا ونهارًا والعالم يترقب "المكان والزمان المناسبين"، وعندما قرر الشعب الانتفاض على كل ما سبق ورفض الظلم وخرج في مظاهرات سلمية، قتله وحرقه وهدم بيوته؟ نظام تحتله القواعد العسكرية الروسية، تابع لدولة الوليّ الفقيه في إيران وهي دول رجعية في كل مناحي ومفاصل تكوينها، تمارس الاستبداد والقمع والقتل في بلادها، دول نفطية ترى في سورية مصدر رزق وتجارة ويدفع شعبها ثمن هذه المصالح.

أليست كل هذه مظاهر رجعية؟ بل هي الرجعية وأكثر.

وهنا يدفعني للسؤال ايضًا ماذا عن أنفسنا نحن؟ أين نحن الذين نستسهل "رمي" النعوت والمصطلحات الكبيرة بهدف تقسيم العالم، في محاولة فاشلة لإشغال الطرف الآخر عن النقاش الحقيقي، فالتهمة كبيرة وقد ينشغل بها متلقيها؟ نحن لا نقل رجعية عن أي منظومة عربية رجعية، نتصرف بعنف ونقصي المختلف وننعت كل من يعارض النظام الأسدي بالمرتزقة والمدفوع والمأجور، العائلية والطائفية تعشش بنا، المحسوبية والمصالح الضيقة تحركنا.

في خاتمة الأمر، وجب التأكيد أن المحرك الأساسي لغالبية السوريين (سوى قلة من أولئك المشبوهين الذين ارتموا في أحضان طغاة آخرين، كتيّار الغد السوري المشبوه؛ أو المعارض اللبواني الذي زار إسرائيل مصالحًا) في رفض الأنظمة الاستبدادية والثأر عليها وملء الشوارع غضبًا والثأر على جلاديه هو القيم الإنسانية، المطالبة بالحق والعدل، رفض الفساد والمحسوبية، حرية التعبير عن الرأي، رفض الظلم والاستبداد، ورغم محاولة محاصرة الثورة بالهزيمة والفشل ومحاولة شيطنة حق الشعوب ووصمها بأبشع الأوصاف، تبقى ثورة الإنسان أقوى من الطغيان.

بالمقابل، هناك من يعتقد أن من وقف موقفًا معارضًا للنظام واستبداده فهو حتمًا مؤيدًا للحركات الإرهابية المتطرفة المنتشرة في الأراضي السورية، التي تستخدم الدين كأداة للقمع والسيطرة ولكن نحمل النظام الاستبدادي من جديد إلى ما آلت إليه سورية.

لكن من تحركه هذه القيم الإنسانية الحقيقية، لن يرتمي في أحضان طغاة آخرين وسيرفضون حتمًا الجماعات الإرهابية بمختلف مسمياتها  وكل دخيل أجنبي آخر على البلاد، لكن يبقى من الغريب، بل والمستهجن، أن يقوم أي يساري حقيقي مؤمن بالتنوير والحداثة ويسعى إلى إحقاق قيم الإنسان والعدالة الاجتماعية أو قومي عربي، يؤمن بحق الشعوب في تقرير مصيرها ومنحاز طبيعي إلى ثورات الشعوب بتأييد أنظمة رجعية كنظام الأسد، بمسوّغات وهمية، منها القناعة بأن النظام داعم للقضية الفلسطينية، التي استعملتها شمّاعةً للبقاء في السلطة.

في النهاية، إن الضامن الحقيقي لنا ولكي لا تضيع بوصلتنا وسط كثرة القتل والأهوال هو التصرف بديمقراطية، فلا يمكن أن تكون قوميًا حقيقيًا من دون أن تكون ديمقراطيًا، في صلب مطالبه حرية الشعوب وحقوق الإنسان، وإلا فمصيرك سيكون التعصب والتقوقع والارتماء في أحضان أنظمة القتل والخراب.

التعليقات