14/05/2016 - 12:37

نحو المؤتمر السابع للتجمع: "المفهوم ضمنا" الذي لم يعد ضمنيًا

لا يقفز هذا النقد عن معتركات النضال اليوميّ على تفاصيلها وضرورات تقويمها، كما لا يتسم بالوردية السياسية التي تغفل السياق الفلسطيني والعربيّ والإقليميّ الأوسع، إلا أنه يدرك المكانة والثقل الكامن في هذا الدور، ويوليه تكليفًا قياديًا حقيقيّ

نحو المؤتمر السابع للتجمع:

يأتي مؤتمر التجمع الوطني الديمقراطي السابع  مطلع الشهر القادم، وقد وضعت على أجندته قضايا سياسية وتنظيمية عدة، تناولت الكثير وغابت عنها بعض الأسئلة المركزية، التي بات التعاطي معها مرتكنًا إلى خانة البديهيات والمفهوم ضمنا، دون التمعن حقًا في ما تمليه هذه البديهيات، وما هو الأداء السياسيّ المتحتم عنها. ليبقى النقد ومحاولة التجديد والإصلاح مراوحًا لمحدودية تقييم المواقف وتنجيع العمل والتنظيم، دون الولوج، حقًا، إلى سؤال الدور والتأثير، ولأي وعي وثقافة سياسية نؤسّس. ودون الربط، ما بين امتلاك وعي وخطاب يؤمن بالقدرة حقًا على إحراز التأثير، وما بين نجاعة العمل نفسه وسدادة الموقف.

تكون هذه المراوحة أكثر إلحاحًا في ظل واقع سياسيّ قادر على إنتاج فائض دائم من القضايا، يغرق الشعب القابع في منظومة استعمارية شديدة الإحكام والمثابرة ويبقيه عالقًا في موقع ردة الفعل، دون أن يملك متسع البناء والتخطيط، ومراكمة الإنجازات المشتقة من مشروع، قادر على إرهاق المشروع الصهيوني على المستوى السياسيّ والشعبي والاقتصاديّ في حالتنا.

 لا يقفز هذا النقد عن معتركات النضال اليوميّ على تفاصيلها وضرورات تقويمها، كما لا يتسم بالوردية السياسية التي تغفل السياق الفلسطيني والعربيّ والإقليميّ الأوسع، إلا أنه يدرك المكانة والثقل الكامن في هذا الدور، ويوليه تكليفًا قياديًا حقيقيّا، جاء للخروج من الواقع الحاليّ، لا إدارته مع أقل قدر من الأضرار.

لا يكون أي من هذه النقاشات منطقيًا دون الخوض في سؤال الدور أولًا. وهو نقاش نخوضه كحركة وطنية اتخذت الصيغة الحزبية لتخوض الانتخابات البرلمانية الإسرائيلية. قد لا تولد هذه الصيغة إشكالًا مبدئيًا بالضرورة، إذا ما أديرت الأولوية وحسابات الثقل في فهم هذا الدور بالشكل السليم. خصوصًا في حال التجمع، الذي لا يكون حسبه الوجود في البرلمان خيارًا مبدئيًا، بل ضرورة مشروطة بمحاذير الموقع السياسي الخارج عن المحور السياسي الإسرائيلي بكافة مركباته. إلا أن هذه الصيغة باتت تولد توترًا يوميّا، يصل ذروته مع كل معركة لشطب الحزب وشطب مرشحيه، ومع إخراج الحركة الإسلامية – الشق الشماليّ عن القانون بالإضافة إلى إبعاد نواب التجمع عن البرلمان. ولكن، أيضًا، في المواقف السياسيّة الأخرى، وفي الأداء السياسي والتنظيميّ الجاري، الذي بات يشتق تناسبه وشكله من فهم هذا الدور، وإن لم تكن هذه العلاقة شديدة الوضوح. إن كل هذه الحيثيات والتطورات، تجعل من سؤال فهم الدور أكثر إلحاحًا، وتجعل منه ضرورة وجودية ويومية، قادرة على تصويب الموقف  والعمل والمشروع، إذا ما أخرجت من محدودية الإجابات الضمنيّة الجاهزة، وأثيرت بجذرية وجدية قادرة على فرز نفسها بوضوح في الأداء السياسي والتنظيمي الجاري.

وهنا، لا نقصد تلك الأسئلة التي تؤخذ على نسق، ماذا سنفعل لو تم إخراجنا من البرلمان، أو ما شابه من الأسئلة. وهي أسئلة ضرورية، إلا أنها تفترض نقطة انطلاق مسبقة حول فهم هذا الدور. وإنما نقصد نمط الأسئلة التي تطرح جديًا دورنا الحقيقي كحركة وطنية، إذا كان هذا الثقل الأساسي في تعريف دورنا السياسي حقًا،  ما تقدم وما تأخر في هذا الدور. عندها يكون السؤال الأول تجاوزيّا، وتكون إجابته تحصيلًا حاصلًا.

 على هذا النقاش أن يأخذ طابعًا أكثر جدية وجذرية، لننتقل من مرحلة أدت فيها السياسة والفعل الانتخابي المشتق عن دورنا كحزب، إلى حصر النقاش في حيز إدارة وتقييم المواقف. ومن وضع حتمت فيه الممارسة السياسية اليومية وما تفرزه من ثقافة سياسية حزبية إلى فهم الدور بأثر رجعي متأثر ومصاغ حسب ضرورات صياغة الموقف - ديناميكيته وحساباته، لا العكس. هذا لو افترضنا أنه على الرغم من جدلية العلاقة ما بين فهم الدور والموقف، تبقى كفة مركزية فهم الدور هي الراجحة.

ليس النقاش الأول نقاشًا حزبيا داخليًا فقط، بل نقاشا يلقي بظلال مخرجاته على أدائنا السياسي والتنظيمي الجاري، وعلى شكلية علاقتنا المترتبة مع الناس. ينعكس النقاش الثاني حول العلاقة مع الناس في ثلاثة معطيات رئيسية: عدم الثقة بين الأحزاب السياسية وبين الناس، الإحباط السياسي والعزوف عن العمل السياسي، الفرز بين القيادات وبين الناس وعدم صياغة علاقة وطنية عضوية فيما بينهم. لو عملنا، تجاوزًا، على عزل كافة العوامل السياسية والاجتماعية المساهمة في صياغة مثل هذه المعطيات، وهي مهمة تكاد تكون غير جائزة. ولو حاولنا، تجاوزًا، تسطيحها كمعطيات مجردة واضحة، بنيّة فحص مسؤوليتنا وما عليه أن يترتب من أداء ليس من باب التكتيك بل الدور الوطني الواجب.

لو حاولنا القيام بذلك، لوجدنا، أن كيفية تصدير نفسنا للناس مرتبطة أكثر بفهم محدد لدورنا السياسي، وهو الدور المرتبط بكوننا حزبا سياسيا يخوض الانتخابات البرلمانية. هذا الأمر ينعكس في تعريف القائد في ثقافتنا الحزبية، في علاقتنا مع الأحزاب الأخرى، التي يحدد شكلها بالأساس ما تخلفه الانتخابات البرلمانية من رواسب، لا ما يخلفه نقاش بناء المجتمع والحراك الشعبي بالأساس. في لغة الإنجازات، التي تم تسويغها بما نحرزه من إنجازات في البرلمان، وتيرة وتوقيت التواصل مع الناس، حسابات اتخاذ المواقف السياسية، مركزية العمل الأهلي والشعبي، مقارنة بالعمل البرلماني كما يتم ضخه للإعلام والحيز العام. إن كل هذه المشاهد وأمورًا أخرى عديدة، من شأنها أن ترتب علاقة يكون ضمنها القائد الحزبي قائدًا لكونه ممثلا أمام الدولة، لا قائدًا سياسيًا وطنيًا عضويًا تلقى له المسؤولية والثقة لنقلنا من واقع سياسي إلى آخر أفضل. هذا النوع من الثقة ومفهوم القيادة الذي قمنا ببسطه في منظور الناس، كفيل بإعادة إنتاج الإحباط كل مرة من جديد، في ظل محدودية الدور الكامن في البرلمان على إنجازاته. وكفيل، أيضًا، بفرز المجتمع عن قياداته، إذا لم تول الأخيرة لدورها الأساسيّ ثقلا كافيًا، وظلت تستهلك ذات الصورة القيادية والإحباط وتعيد إنتاجه كل مرة من جديد، دون زعزعة هذه المعطيات ومحاولة إنتاج أخرى قادرة على دفع العجلة نحو الأمام.  

إن هذا النقد، على أهميته، فيه الكثير من الافتراء، خصوصًا إذا ما أدركنا مجمل المعطيات الأخرى المؤثرة في صياغة معطيات الحالة وشكلية علاقة المجتمع مع الأحزاب وقياداتها. على ذلك، تبقى مسؤولية القيادة لا في استهلاك الإحباط والعزوف وعدم الثقة القائم كمعطى، ولا بإعادة إنتاجه وتحديد أدوات العمل تماشيًا معه. بل في تحليل هذه المعطيات جديًا والتفكير في كيفية تفجيرها ونفضها دون الانسياب معها ضمن مربعات العمل والمواقف ذاتها.

لو حاولنا سحب النقاش الأخير من باب التخصيص الموجه والمبالغة إلى حيز هموم الناس اليومية، وهي الأمور المرتبطة بالعمل والتعليم والسكن والصحة والخدمات الاجتماعية. وهي كلها مجالات تشكل المسوغات الأساسية لوجودنا في البرلمان، الذي نريد من خلاله وبحق أن نكون عنوان الناس في القضايا التي تمس همومهم اليومية. إلا أن هذه القضايا، التي تجلس في لب خطابنا الذي نجمع خلاله بين الهوية القومية والمواطنة الكاملة، باتت تعنينا بجانبها المطلبي فقط والمتمثل بالدور أمام الدولة. إن هذا الدور، على أهميته ومركزيته، كفيل، أيضًا، بتصدير دور وصورة محددة لنا أمام الناس، فنحن لا نقوم ببناء التعاونيات، تنظيم المجتمع، اللجان الشعبية حسب المجالات المعيشية المختلفة، أو أي مسار عمل قادر على الإجابة على هذه الاحتياجات ببعد آخر غير البعد المطلبيّ أمام الدولة. إن هذا الواقع ليس سقطة تنظيمية، وإن كان في جزء كبير منه ناتجًا عن محدودية تنظيمية فعلًا، إنما هو نتاج أولويات لم نرتبها ولم نقدها، بل انجرفنا وراءها مدفوعين بمجريات دورنا في البرلمان، لتحدد هي أيضا شكل علاقتنا مع الناس، الذي أصبح بدوره تفسيرًا  للدور الذي لم نختره.

إن هذا النقاش، يذكرنا، أيضًا، بمعادلة أخرى عالقة، مرتبطة بثنائية الأهداف والأدوات. ففي الوقت الذي حافظنا فيه على الأهداف على المستوى النظري، لم نلائم أدواتنا لترتقي إلى مستوى الوعيّ والأهداف القائمة، وهي معادلة كفيلة بإنتاج الإحباط، حين لا يستوي منسوب العمل مع الوعي القائم. هذه الوضعية لم تكن محفزًا للوقوف وتقييم الأداء التنظيمي ليستوي مع الوعي القائم، بل لوضع أهداف مرحليّة، تم تحديدها بما يتلاءم مع محدودية الأدوات القائمة الناتجة والمولدة للإحباط في الوقت ذاته. إن هذه المرحلية ليست عيبًا بذاته، إذا ما تم التعامل معها فعلًا على أنها مرحلية، ولم تتحول إلى مساحة المؤقت الدائم، وإذا تم التعامل مع منهجية التراكمية كقوة دفع موجه للأمام لا كمخرج لتصريف الإحباط وتبرير محدودية العمل وكتحصيل حاصل بحد ذاته، بل كمشروع بحاجة لصياغة وبرامج عمل وقوة دفع حقيقية، تخرجه من مرحليّتِهِ وتجعله حلقة ضمن الأهداف الكبرى القائمة.

إن الخروج من هذه الدائرة، يستلزم معالجة حقيقية للوصول لسبل إخراج التجمع من مرحلة بسط الخطاب، وهو ما دأب على القيام به في سنوات التأسيس الأولى حتى يومنا هذا، وما أعطاه بريقه حتى هذه المرحلة. إلى كيفية تحويل الخطاب إلى مشروع قائم عل البناء القاعديّ التحتي وعلى تنظيم الناس وبناء المجتمع بما يشمله من مقومات صمود حاملة للنضال. إن هذه العملية من ِشأنها، أيضًا،  أن ترتبط بتعميق بسط الخطاب بين الناس، وتحويله من تعبير عن فطرة تعبر عن كرامة الناس الأولوية وتوقهم للحرية، إلى خطاب يولد مواقف على مستوى الفرد. هذا لو افترضنا أن الجدليّة القائمة بين اليومي والموقف السياسي، ستكون أكثر إنصافًا مع الموقف الوطنيّ، إذا ما تم ترتيب واقع حياة الناس من خلال بناء مؤسسات لا تجيب على جزء من احتياجاتهم فحسب، بل تعيد لهم الثقة في السياسة. هذا لو افترضنا أيضًا أن ثنائية الواقع والمستقبل ستكون أكثر إنصافا مع الموقف الوطني، إذا ما تم بناء مشاريع قادرة على ترسيم ملامح المستقبل، تحديدًا في ظل غياب مشروع وطني فلسطيني وفي ظل غياب أفق سياسي. مع الوعيّ أن الناس لا تشتق تحركها، مبالاتها وهويتها السياسيّة من التاريخ والحاضر فقط، بل من المستقبل أيضًا.

إن هذه التساؤلات التي تقفز ما بين السياسة والتنظيم وإن بدت تنبيشًا في البديهيات والمفهوم ضمنًا، إنما هي أسئلة قادرة على تأسيس أرضية صلدة وواضحة لخوض الأسئلة السياسية الأكبر، وكذلك لتوضيح مرجعيات وثقافة العمل، من عمل يرى دوره في الصمود فقط ومحاولة استدراك الفائض، إلى عمل يريد بناء الإنسان والمجتمع، ويرى بذلك دفعًا حقيقيًا نحو التحرير.

* نداء نصار: ناشطة سياسية وعضو في التجمع الوطني الديمقراطي.

التعليقات