19/06/2016 - 11:14

سلوكيات القيادة وتأثيرها على الجماهير

لم يعد خفيًا على أحد أن لتصرفات الكثير من القادة ومنتخبي الجمهور، دور مركزي في توعية الناس ومنحهم أدوات كثيرة في تقدير ممثل وتفضيله على آخر.

سلوكيات القيادة وتأثيرها على الجماهير

لم يعد خفيًا على أحد أن لتصرفات الكثير من القادة ومنتخبي الجمهور، دور مركزي في توعية الناس ومنحهم أدوات كثيرة في تقدير ممثل وتفضيله على آخر. 

إن القبيلة والطائفة كانت على رأس سلم الأولويات عندما يقوم الفرد باختيار قيادته، إذ قديما كانت القبيلة أو الطائفة هي الحضن الدافئ والجامع لأبناء القبيلة أو الطائفة الواحدة وحمايتهم من أي اعتداء خارجي. 

في روما القديمة اختير القيصر من طبقة الأعيان patricians والتي لم تسمح بأن يصل أي فرد من الطبقات الأخرى إلى القيصرية مثل عامة الشعب plebs، وكان ذلك خوفا على اختلاط الأعراق، فالطبقة الخاصة رأت بأنها الوحيدة القادرة على تسيير أمور الدولة وأنها من تحمل الحضارة اليونانية على عكس البقية من الشعب ممن لا يستحقون الوظائف العليا ولا يصلحون لتسيير أمور الإمبراطورية، ودورهم هو في الزراعة والصناعة والبناء والانصياع لأوامر أسيادهم الأخيار ورثة اليونانيين من قادة وفلاسفة. حتى في روما القديمة لم ينجح الأعيان بالحفاظ على روما بعيدا عن عامة الشعب الذي قام بالانقلاب على هذه المنظومة والسيطرة على مقاليد الحكم، الأمر الذي حتم على الأعيان القيام بالعديد من التنازلات لإشراك عامة الشعب بالحكم، وهنا بدأت تغلب على المشهد المؤامرات والمكائد التي أهلكت روما وقضت على هذه الحضارة التي دامت لقرون عديدة. حيث لم تقدر روما العريقة على حمايتها من هجمات البرابرة التي كانت من كل حدب وصوب. 

عمل الحكام  والأباطرة على مر العصور جاهدين للمحافظة على شعبهم وناسهم ولم يتوانوا عن التضحية بنفسهم حفاظا على هيبتهم وكيانهم كما فعل سبارتاكوس، الذي قاد سلسلة من المعارك والحوربات مضحيا حتى بنفسه ليرفع اسم شعبه وأمته عاليا. 

سيدنا المسيح الأبدي ضحى بنفسه رحمة وشفاعة للبشرية ولم يتردد بالمضي قدما مع قاتليه لصلبه وحتى مسامحتهم. 

رسولنا الكريم محمد ابن عبد الله أعطاه ربه ما أعطاه، خرج من المدينة وضحى بشخصه وهيبته حفاظا على أهله وناسه. 

العديد من الروايات والقصص القديمة والحديثة تبين لنا دور القيادة في دفع وتوعية الشعوب والأتباع. 

العثمانيون قاموا ببناء إمبراطورية عظيمة التي توسعت شرقا وغربا وأتت بقوانين هامة عديدة، إذ ما زالت الكثير من المحاكم بالعالم تتبناها لدقتها وأهميتها، ولكن مصيبة السلاطين العثمانيين أنهم كانوا نرجسيون ولم ينجحوا بالتواصل مع رعاياهم والشعوب التي حكموها، الأمر الذي ولد أزمة ثقة، فاقتلعتهم هذه الشعوب ولم تأبه لما سيحدث بعدهم. 

أتت الثورة الفرنسية وجلبت معها الكثير من الإصلاحات واهتمت بالأفراد ورفاهيتهم ولعبت دورا هاما برسم معالم الأحزاب، الشعوب والسياسات التي تلتها في العديد من الدول، ونفسها الثورة الفرنسية قدمت لنا نابليون بونابرت الذي استلحم الشعب للقضاء عليه، لأن حتى من تبنته الثورة الفرنسية أقام حكما مطلقا في فرنسا بعيدا عن الشعب وعن مصلحة الدولة بحجة الدفاع عن فرنسا من الاعتداءات الوهمية الخارجية. فخافت فرنسا على شعبها منه ونفته إلى كورسيكا من حيث أتى. 

أتت الحرب العالمية الأولى وأطاحت بالإمبراطوريات والقيصريات والأنظمة القمعية وتبنت الأنظمة الجمهورية والديمقراطية والتي وضعت الشعوب في متاهة تمنت رجوع الأباطرة والقياصرة، فالأنظمة الجمهورية والديمقراطيات لم تكن أقل قمعا وملاحقة من سابقاتها. 

برز في القرن 19 الكثير من المفكرين والفلاسفة والذين كان لهم الدور البارز في رسم معالم السياسة، المجتمع والاقتصاد حتى يومنا هذا، وهم أنفسهم من عانوا من تهميش وملاحقات لدورهم الأساسي بتعزيز موقع الفرد. فنتشه، ديكاردت، روسو وغيرهم من كبار الفلاسفة والمفكرين يستحقون التخليد والشكر.  نشكرهم لأنهم أتوا لنا بالنظام الاشتراكي ولكننا نبغضهم لأنهم أتوا لنا بستالين، نشكرهم لأنهم أدخلوا الديمقراطية اإى ألمانيا ولكننا نبغضهم لأنهم أتوا لنا بهتلر. 

فهتلر وهو في بداية طريقه وضع نفسه فوق ألمانيا، فراقب تردي الأوضاع في ألمانيا وما أن انهارت ألمانيا انقض عليها مستغلا ضعفها بإيهام الألمان بأنه المنقذ وأنهم يستحقون الأفضل، فقام بطريقه إلى سدة حكم الرايخ الثالث بالقضاء على كل معارضيه أو على كل من كان من الممكن أن ينافسه ووضع نفسه القائد الأوحد والوحيد كفيهرور. 

وحول جيش هتلر بغبائه وأنانيته كل العالم ضده وجر ألمانيا إلى التهلكة، فهتلر مات، أما المانيا وشعبها لم يمت فخرج خيرة أبناء الشعب الألماني من بين الأنقاض وبنوا ألمانيا عظيمة تتقدم على العالم بالعديد من المجالات كما نراها اليوم. فهتلر الفيهرور انتهى وألمانيا لم تنته وعادت الديمقراطية الحقيقية لتقود ألمانيا إلى القمم. 

قاد محمد نجيب ثورة الضباط الأحرار وقضى على حكم الملك فاروق ليحل محله، ولكنه لم يرىغير جمال عبد الناصر بمنصب رئيس جمهورية مصر العربية. حيث قام ناصر بالعمل على وحدة العالم العربي بفكره القومي والذي تحداه الكثيرون لأنانيتهم ولبعد رؤيتهم الضيق فبدأت تقسيمات العالم العربي إلى طوائف وشيع حتى يومنا هذا. 

فناصر أتى بفكر ورؤية نشكره عليهما ولكنه أتى بمحمد حسني مبارك والسادات والسيسي الذين تدافعوا للصلح  مع تل أبيب، فمن الناصرية لا نذكر إلا ناصر. 

ولا أريد أن أطيل بمزيد من الأمثلة في التاريخ والحاضر لأنها كثيرة، ولكني سأقوم بتحليل تصرف القيادات في الحاضر ودورها الذي ينعكس على مجتمعاتها. 

أما ما يحسب على البرلمان التركي فهو النقاش العنيف الذي دار السنة الماضية بموضوع زيادة صلاحيات الشرطة، وهو طبعا ما يعكس سياسة تركيز الصلاحيات بيد الرئيس التركي، عمليا التصرف العنيف الذي قام به أعضاء البرلمان التركي قطعًا ينعكس بين الشعب، وهنا تقع مسؤولية ممثلي الجمهور التركي ودورهم في رسم معالم المجتمع التركي وهذا يعد إخفاقا يجب ألا يتكرر. 

خوسيه ألبرتو "بيبي" رئيس الأورغواي يعد أكثر رئيس بالعالم شعبية لفقره وبساطته وبعثه للأمل عند المسحوقين والمضطهدين، ومثالا للإنسان البسيط الذي لم تغره حياة المؤسسات ولا الكراسي ولا العروش. 

نلسون مانديلا، قائد سياسي مناهض لنظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا وثوري شغل منصب رئيس جنوب أفريقيا 1994-1999. وكان أول رئيس أسود لجنوب أفريقيا، انتخب في أول انتخابات متعددة وممثلة لكل الأعراق. ركزت حكومته على تفكيك إرث نظام الفصل العنصري من خلال التصدي للعنصرية المؤسساتية والفقر وعدم المساواة وتعزيز المصالحة العرقية، وترك إرثا نضاليا يبعث الأمل لدى الكثير من الملاحقين والمضطهدين وخاصة السود منهم. 

مالكلوم إكس، قيادي ثوري مناهض للعنصرية البيضاء، برز اسمه وسطع نجمه بين قادة الحركات الثورية السوداء بعد أن أنكر ذاته وعكس الصورة الحقيقية لمعاناة السود عن طريق سرد حياته الخاصة ومعاناته الشخصية.

محمد علي كلاي الذي رحل عنا قبل أسبوعين تقريبا، مثل بعضلاته لا بفكره فقط الشعوب المقموعة وعلى رأسها السوداء بمجرد تغيير اسمه إلى محمد علي، ليعني بذلك أنه يرفض انتمائه الأميركي وبذلك شجع السود ورفع من معنوياتهم في صد ومناهضة السياسة البيضاء العنصرية بعنفوان. 

إن هذا السرد وهذه التجارب لقيادات على مر التاريخ،  تثبت أن كل منها أخذ دوره إن كان قياديا رسميا أو ميدانيا أو جنديا بسيطا في الميدان، ولم يذكر التاريخ لهؤلاء أي ذاتية على مصلحة المشروع أو الوطن، فكثر منهم كان لديه نكرانا لذاته وزهد بحياته وحافظ على شعبه وعلى جمهوره بكل صدق وإيمان من دوافع إنسانية محضة بعيدا عن الانتهازية وتصفية الحسابات، لذا لم تخنهم البشرية ولم ينساهم التاريخ بل أعطاهم حقهم على الرغم من أنهم كانوا يفضلون الانغمار على الشهرة. 

هناك من خلقوا لها وهناك من سيظلون دونها ولن يسعفهم أي شيء، على سبيل المثال، التاريخ القديم لم يذكر كاتالينا الذي بعد أن فشل بمشروع القيصرية خاصته على الرغم من دوره الريادي في الإمبراطورية الرومانية، وبدأ بإحاكة الدسائس لحرق روما ليشبع غريزته،  فالتاريخ لا يحب الدسائس، لذا ذكره كمرور الكرام، وإن تذكره الرومان يتذكرون كحقبة سوداء في تاريخ روما العريق. 

والتاريخ الحديث قد نسي الجلبي الذي حاك الدسائس والمكائد مع الأميركان ودبر بليل ليتربع على عرش العراق، وجد نفسه في مزبلة التاريخ وخارج اللعبة القيادية في العراق، ولا يذكره الشعب العراقي إلا بعدائه للعراق. 

هناك العديد من الأمثلة، فالقيادة هي أمانة ثقيلة ويجب أن يتعامل معها القيادي بنكران الذات والحرص أن يكون مثاليا وليس كالسامري بعد غياب موسى لإحضار الوصايا العشر. 

الشعوب تتطور وتبدع وللقيادة دور أساسي بذلك، وليس خفيا على أحد أن للتاريخ والأشخاص دور في رسم معالم المجتمعات، والطبيعي هو أن يسلم جيل إلى جيل الشعلة، طبعًا بعد أن تشبع الجيل الجديد من إرث أسلافه من القادة والفلاسفة، كما ومن الطبيعي أن يأخذ كل دوره في رسم نهج المجتمعات خاصة عند مجتمعات الأقلية التي تعاني من ملاحقة وقمع الأكثرية التي تحاول طمس معالمها ومحو هويتها. 

الغريب في وضع قيادة الأقليات والتي هي أصلا مضطهدة، أنها تتبع على الأغلب أساليب قمعية لتفرض نفسها ولتحمي موقعها الريادي الذي مع الوقت بدأ يفقد صلاحيته وشرعيته. 

إن ما نراه في مجتمعاتنا هو أننا نعاني من أزمة قيادة، قيادة بالمعنى الحقيقي، حيث اخترق المجموعات القيادية بعض الوصوليين والانتهازيين الذين باتوا عبئا على مجتمعاتهم وأثقلوا كاهل مؤيديهم الذين أنهكوا بمحاولة تلميع القيادة المدعية أمام الجماهير الواسعة التي لم تعد تحتمل وصول مثل هكذا أناس إلى مواقع قيادية، إضافة إلى أن ذلك ينعكس على الكثير من المجموعات والمؤسسات حيث ترى أن هناك الكثير من الوصوليين غير الأكفاء بطرق ملتوية، الأمر الذي يعرقل تطور المجتمعات ودفعها إلى الأمام.

إن أزمة القيادة بأيامنا، ترسل فلاسفة ومفكري العصر للبحث عن ملهمين من العصور القديمة والوسطى، على أمل أن يخرج جيل قيادي حقيقي يعمل للصالح العام وصاحب رؤيا ومشروع حقيقيين.

إن ما يميز الشعوب في القرن الواحد والعشرين هو ديناميكيتها وتفاعلها مع المستجدات وتبني كل ما هو جيد. 

فحرية التعبير وجهاز الديمقراطية لم يضعف بالكامل، بل ما زال له دور أساسي بقذف كل قيادي مقيت لتبحث عن أفضل منه. 

هناك من أتت بهم الطبيعة إلى مواقعهم وصعدوا سلم التقدم بكل فخر واعتزاز من خلال خدمة الناس والمحافظة عليهم وعلى قضاياهم، وبذلك كسبوا محبة الناس واستقوا شرعيتهم منهم. 

وهناك من عملوا جاهدين في “المطابخ” بعيدا عن شعوبهم فحوسبوا في أول محكمة شعبية تلت تصرفهم، والمثال الحي على ذلك أزمة القيادة، حيث أن ما يميز القيادة الحقيقية هو الحس المرهف وتفهم قضايا الناس ومعاناتهم.

التعليقات