31/08/2016 - 16:39

أَغسطس

في أغسطس، أيضًا، ومنذ العام 2011، صرخ شهداؤنا: "الشعب يريد إعدام الرئيس"، وقضوا في سبيل حريتهم ورسالتهم

أَغسطس

صادفَ، في الحادي والعشرين من أغسطس لهذا العام، مرور الذكرى الثالثة لمجزرة الكيماوي في الغوطة الشرقية، وبفارق يومين عن أغسطس هي الذكرى الثانية لغرق الطفل إيلان، وفي التاسع عشر من أغسطس كانت الذكرى الثانية، أيضًا، لمقتل الولادة سجاح وأختها عائشة على أيدي جبهة النصرة في سراقب، بتهمة ممارستهما للسحر والشعوذة!!!

كان ذلك ما ورد في قائمة الذكريات التي يستعرضها الفيس بوك.

هي الثانية، أيضًا، لاختناق المهاجرين في شاحنة مغلقة في السابع والعشرين من أغسطس العام الفائت، وهي الأولى لذهول الطفل عمران، الذي نجا من غارة على حي القاطرجي في حلب، في الثامن عشر من أغسطس العام الجاري، وتتوالى التحليلات حول أسباب تصدر صورته لكافة وسائل الإعلام العالمية، حيث يغوص المحللون عميقًا في سوريالية الصورة واللون البرتقالي وغيرها من العناصر التي أهملناها في تصوير ضحايانا!

في أغسطس، أيضًا، الذكرى الرابعة والخامسة والسادسة لصديق معتقل وآخر شهيد، وفيه، وفي أحد عشر شهرًا آخر، ذكريات يومية لآلام وآلام حفرت عميقًا فينا، لمدنٍ وذكريات وحتى ذاكرة مدمرة.

بالأحرى هي الذكرى اليومية لقاتل طليق جاثم على صدر وطن، ولمجتمع دولي مغرقٍ في الصفاقة.

إذا استثنينا الستمائة وستة وتسعين شهيدًا في أغسطس 2011، الذين صوروا في غالبيتهم بكاميرا موبايل رديئة، فإن ستة آلاف ومئتين وثمانية وتسعين شهيدًا في أغسطس 2012، قد نالوا تصويرًا أفضل، وربما نصفهم أو ربعهم أو حتى أحدهم قد لقي تصويرًا احترافيًا، يلائم دقة الشاشات الحديثة والصحف العالمية الشهيرة.

بتتبع بسيط للتسلسل التاريخي للأحداث المصدرة إعلاميًا على المنصات الدولية، ستجد أن الفارق بين الأحداث الأكثر تداولًا، وهي مجزرة الكيماوي وغرق الطفل إيلان وذهول عمران، ستجد أن الفارق هو سنة كاملة تزيد أيامًا أو تنقص، رغم أن هذا المشهد يومي سوري مكرر، مكرر بألم أكبر وفاجعة أكثر عظمة ومجازر فاضحة، ولكن، على ما يبدو، فإن ألمنا لا يستحق أكثر من وقفة سنوية واحدة تختارها تلك المنصات القذرة التي تدعي الحياد والمهنية.

وعليه فليس هناك من داعٍ لإجراء تحليلات عميقة لأبعاد الصورة وعناصرها التي يتوجب علينا توفيرها في صور ضحايانا، لتكون مؤثرة وجذابة للصحافة العالمية.

في قضية الطفل إيلان كان مصدر الصورة والخبر تركيًا، وأول من قام بنشر الخبر هي وسائل الاعلام التركية، ومنها تصدرت الصورة كل صحف وشاشات العالم.

وبالمثل، فإن قضية الشاحنة التي قضى فيها واحد وسبعون مهاجرًا غير شرعيين، معظمهم من السوريين، كان مصدرها أولًا وسائل الاعلام النمساوية، وتبعتها عدة جهات غربية وعالمية أخرى.

في كلتا الحالتين يمكن أن نقول إن هناك قضيةً استطاعت الوصول إلى منابر قدمتها كخبر يتحدث عن قضية الموت أثناء محاولة اللجوء، وبناء عليه، كانت هناك بعض التحركات التي قد تمنح بعض التسهيلات لوصول اللاجئين، أو تحدَّ من وصولهم، بما يحقق الغايات السياسية لبعض الدول.

لكن القصة كانت منقوصة، وبدأت خارج الحدود السورية، ولم تبحث في السبب الذي دفع هؤلاء الناس لترك بلادهم معرضين أنفسهم لكل هذا الخطر للوصول إلى بلدان أخرى غير وطنهم، أو حتى إلى مقابر خارج أوطانهم.

ترى هل كان لنا أي دور في كل من القضيتين السابقتين؟ وهل امتلكنا أي تأثير في مسارهما؟ من هو المحدد الأساسي لأبعاد هذه القضايا ومساراتها ونتائجها ونهاياتها أيضًا؟ وهل لا زلنا متمسكين بتلك القضايا ومتبنين لها أفرادًا أو مؤسسات؟ رغم أنه لا مفاضلة بين ألمٍ وآخر، لكن آلاف القضايا اليومية التي تضاهي في آلامها هاتين القضيتين، تبقى قابعة خلف الشريط الحدودي، أو معلقة على أسلاكه الشائكة تتلاعب بها الرياح لتزيد من ألم هذه الجراح.

لعل قضية الكيماوي الذي طال الغوطة الشرقية كانت من أكثر القضايا التي استطاع السوريون العمل عليها، ولكن دون نتائج حقيقية ملموسة. اللون الأصفر الذي اعتمده السوريون كقاسم مشترك هو ما جعلها أكثر تماسكًا وقدرة على الانتشار، ومن جهة أخرى، فإن كمًّا هائلًا من الطرح العشوائي من خلال العبارات أو التصاميم أو شكل الرسائل ولغتها التي حاول السوريون العمل عليها، هو ما جعلها مشتتة وغير قادرة على الرقي إلى حجم ذلك الألم الخانق.

يضاف إلى ما تقدم غياب كتلة سياسية قادرة على التمسك بتلك القضية والوصول بها إلى نتائج مفيدة، ومؤسسات إعلامية أو حقوقية سورية مقيّدة بأطر تمويلها، الذي يمنع عنها في كثيرٍ من الأحيان حتى ترجمة أعمالها، وبالتالي تحديد مسارات رسائلها.

والأهم حواجز سياسية ورقابة دولية لم نستطع اختراقها أو تجاوزها، وبقيت منتجاتنا الإعلامية خاضعة لانتقائية تلك القوى المتداخلة في الشأن السوري والمتحكمة بمصيره.
أعتقدُ أننا ندوّرُ الألم بيننا، وبيننا فقط، ذلك عندما يكون القسم الأكبر من منتجاتنا الإعلامية ورسائلنا موجهةً لمن وقع عليهم الألم أصلًا، ففي مشهد يومي مكرر، ليس من الفائدة بمكان أن نعرض على الضحية صورتها، إلا إن كان ذلك رغبةً منا في إغراقها في الألم فوق غرقها.

لابد لنا من مراجعة حقيقية ووقفة صادقة أمام ما نقوم به من ترديد ببغائي لما يراد لنا ترديده، وأن نكف عن هذا التنقل السريع بين قضية وأخرى دون تركيز مكثف على كل منها، ومتابعة لما يمنع تحولها الى روتين هامشي.

لا بد لمؤسسات ومنظمات سورية تمتلك الإمكانيات، وليس أفرادًا مشتتين، أن تتوقف عن التعامل مع هذه القضايا كسلعٍ موسمية تنتهي بنهاية رواجها الغربي. ولا بد من مسائلة حقيقية لكل الجهات السياسية والإعلامية والحقوقية السورية عن نتائجها بعد ستة أعوام من الموت، فإما أن نصل بهذه الدماء إلى مكان يشابه رقيها وينتقم لها بفعلٍ يوازيه قولٌ صادقٌ وموقفٌ أصدق، وإما أن ندفن شهداءنا بصمت يحترم هذا الموت، ويبعده عن عبث وقذارة تلك المنابر عربيةً كانت أم غربية.

في أغسطس، أيضًا، ومنذ العام 2011، صرخ شهداؤنا: 'الشعب يريد إعدام الرئيس'، وقضوا في سبيل حريتهم ورسالتهم.

التعليقات