05/10/2016 - 16:07

بيرس وذنب أوسلو المغفور

موت شمعون بيرس ليس فقط أهال التراب على أحد قباطنة المشروع الصهيوني وآخر الآباء المؤسسين لدولة إسرائيل، بل فجر مكنونات هائلة من مشاعر "الحب" الغربي/ الأميركي الكامن تجاه الدولة العبرية، الذي عبر عن ذاته بمستوى التمثيل وشموليته.

بيرس وذنب أوسلو المغفور

موت شمعون بيرس ليس فقط أهال التراب على أحد قباطنة المشروع الصهيوني وآخر الآباء المؤسسين لدولة إسرائيل، بل فجر مكنونات هائلة من مشاعر 'الحب' الغربي/ الأميركي الكامن تجاه الدولة العبرية، الذي عبر عن ذاته بمستوى التمثيل وشموليته ومضامين كلمات التأبين، حيث تحولت الطقوس الجنائزية إلى مهرجان تأييد لإسرائيل لم يتغيب عنه حتى العرب والفلسطينيون.

في المستوى الإسرائيلي الداخلي، كشف موت بيرس عن إجماع على 'عشق' الرجل يمتد من اليمين إلى اليمين، ويشمل مختلف التشكيلات الصهيونية، يمينية من العلمانية القومية على شاكلة الليكود إلى الصهيونية الدينية على غرار 'البيت اليهودي'، إلى بقايا الصهيونية الاشتراكية أو العمالية من طراز حزب العمل، الذي انحدر منه بيرس.

كيف تحول الرجل الذي كان أحد أفراد 'عصابة مجرمي أوسلو' التي نفذ بـ'رأسها' (رفيقه رابين) حكم الإعدام بتهمة التفريط بـ'أجزاء من أرض إسرائيل'، إلى عزيز نتنياهو ' الذي أحبه حتى البكاء' وصديق ليبرمان وحبيب نفتالي بينيت الذي أغدق عليه المديح ووصفه بأنه يعتبره 'جهاز تعليم كاملًا في شخص واحد'، ولا يخفى على أحد أن بينيت هذا هو زعيم 'الصهيونية الدينية' التي خرج من مدرستها ( جامعتها) يغئال عمير.

ماذا فعل بيرس وما هي المسافة التي قطعها ليستقر في مركز/ يمين الخارطة السياسية الإسرائيلية ويحظى بكل هذا الحب والعطف من يمينها الاستيطاني والديني؟ وإذا كان صحيح رجل سلام فهل بقي كذلك؟ وإذا ما اعتبرنا صيغة أوسلو المختلف بشأنها 'سلامًا'، فهو بعد مقتل رابين مباشرة تحول إلى صقر وقام كرئيس حكومة انتقالية، بشن عدوان عناقيد الغضب على لبنان وارتكب مجزرة قانا، كما رفض تطبيق اتفاق الخليل، الذي طبقه نتنياهو، ثم شارك، لاحقًا، في حكومة براك، التي كانت سببًا في اندلاع الانتفاضة الثانية وقتلت 13 شهيدا في الداخل الفلسطيني، صادفت ذكراهم هذه الأيام، إضافة إلى المئات في الضفة والقطاع.

بيرس شارك كوزير خارجية في حكومة شارون (حكومة ائتلافية مع حزب العمل)، التي داست أوسلو بجنازير الدبابات وأعادت احتلال مدن الضفة الغربية في عملية 'السور الواقي' الرهيبة، واقترفت مجزرة مخيم جنين ثم قتلت أبو علي مصطفى وحاصرت ياسر عرفات.

كذلك شارك كنائب رئيس حكومة في حكومة شارون الثالثة، التي نفذت الانفصال من طرف واحد عن غزة ورفضت التفاوض مع محمود عباس، بعد أن وصفه شارون بالطير المنتوف الريش.

ووفر بيرس بصفته شريكا كاملا في حكومات براك وشارون الغطاء اللازم لكل تلك الجرائم، التي كانت كافية، على ما يبدو لدى اليمين الإسرائيلي الديني والاستيطاني للتكفير عن 'ذنب أوسلو' الذي كان شريكا به مع رابين ودفع الأخير حياته ثمنا له، ناهيك عن أنّه شكل في إطار منصبه كرئيس دولة الدرع الواقي لإسرائيل وسياسات نتنياهو وحكومات الاستيطان التي كان يرأسها، حيث لم تسجل ولايته أية أزمة في العلاقة مع حكومة نتنياهو الاستيطانية، رغم إدارة ظهرها لعملية السلام، ولم تصل الخلافات بينه وبين رئيس الحكومة حتى إلى مستوى الخلافات والأزمات التي شهدها عهد رئاسة عيزر فايتسمان للدولة.

لذلك، كان من الطبيعي أن يحظى بكل هذا الحب الذي أغدق عليه من نتنياهو وبينيت وليبرمان، وهو ما حجب حتى أصوات اليسار الصهيوني فلم نسمع صوت أمثال زهافا غلئون ويوسي بيلين وأوري سفير وغيرهم من بقايا معسكر السلام، الذي خرج منه بيرس.

حقًا إن آخر ما يمكن أن يقال عن بيرس إنه رجل سلام، كما قال أحد الكتاب الإسرائيليين فقد كان 'رجل أمن بروحه'، كما قال آخر، يبرز في سجله تأسيس الصناعات الجوية والمفاعل النووي ورعاية الاستيطان وإقامة عوفرا ونتسيرت عليت، حتى أن ما حركه في عملية أوسلو كان الدافع الأمني والهاجس الديمغرافي، وبالرغم من ذلك، فقد تراجع عنها في أول محطة بل كفر عن ذنبها بارتكاب مجزرة قانا والمشاركة في مجازر وجرائم حكومات براك وشارون اللاحقة، ويكفي في هذا السياق الإشارة الى ما كتبه روبرت فيسك في مقال في 'الاندبندنت' البريطانية بعد موت بيرس، وهو الذي حضر لموقع مجزرة قانا بعد القصف الإسرائيلي، حيث يقول، 'كان هناك أطفال رضع دون رؤوسهم، ورؤوس رجال مسنين دون أجسادهم. رأيت جسد رجل مقسومًا نصفين ومعلقًا على شجرة محترقة، وما تبقى منه كانت تلتهمه النيران".

وتساءل فيسك كيف يمكن اعتبار بيرس صانع سلام وهو المسؤول عن هذه المذبحة، عارضًا أدلة تؤكد أن إسرائيل كانت تعلم بموقع معسكر الأمم المتحدة وأنه يأوي مدنيين، مؤكدا أنه بعدد ما ستذكر كلمة السلام في الجنازة فإنه سيتذكر قانا.

وسؤالنا للرئيس، محمود عباس، ووزير خارجية مصر، سامح شكري، وغيرهم من ممثلي الدول العربية، ممّن هانت عروبتهم وفلسطينيتهم وآخرهم رئيس اللجنة القطرية، مازن غنايم، ورؤساء مجالس محلية هرولوا لتقديم العزاء، قبل أن يفوتهم القطار، ألم تذكروا أطفال قانا؟

التعليقات