11/11/2016 - 09:07

الجسد المؤنث بين البداوة والاستعمار والعسكرة: الأردن نموذجًا

في النهاية، لا يمكن أن يكون مقالًا كالمذكور أعلاه إلا امتدادًا لمنظومة العنف الممأسسة ضد الأنثى، بإعادة قتلها.

الجسد المؤنث بين البداوة والاستعمار والعسكرة: الأردن نموذجًا

يقول الصحافي الأردني طارق مصاروة في جريدة 'الرأي' الأردنيّة في مقال بعنوان 'جرائم أشنع من الجرائم' وقد نُشر يوم الأحد الماضي (611) على خليفة  جريمة القتل المروّعة الأخيرة في عمّان:
'أن يقتل المجرم أمه: جريمة غير مبررة، فالسيدة المغدورة قطعت الخمسين من عمرها حتى لا يقول قائل إنها شوهت سمعة العائلة، لكن أن يقتل المجرم أمه ويقطع رأسها فذلك أكثر من جريمة اذا كان هناك ما هو أكثر من الجريمة'.

ما الذي يريد أن يقوله الكاتب عندما يشير إلى أن 'المغدورة قطعت الخمسين من عمرها'، 'حتى لا يقول قائل إنها شوهت سمعة العائلة'؟ هل يبرر مصاروة للقاتل والقائل معًا، أم أنه في أقل الأحوال سوءًا يلتمس لهما منطقًا يمكن للقارئ حينها أن يخفف من وطأة القتل والقول بالقتل إذا كانت المغدورة أقل عمرًا؟!  ليست التهمة هاهنا 'جريمة شرف'، فهنا يتحدث الكاتب عن عمر المغدورة حصرًا، وليس عن فعلها أيًا يكن (بمنطقه والقائلين)، بلفظ آخر وبشكل مباشر جدًا وفج: في بلد كالأردن الإناث في عمر أقل من خمسين عامًا (لنقل في جيل العشرينيّات والثلاثينيّات، مثلًا)، هن ضحايا محتملات، لا لشيء سوى أنهن أناث - أولًا وأقل من خمسين عامًا - ثانيًا، بحسب الكاتب والقائل والقاتل.

فذكورة الكاتب هاهنا تتحد وفحولة الثقافة المجتمعيّة الذكوريّة والمؤسسة/الدولة والعُرف والقانون والقاتل، الفحول وفضاءاتهم، ضد الجسد الأنثوي ضمن وسمٍ يتحدد عمريًا وجندريًا، وليس شخصيًا أو فرديًا أو سلوكيًا (وأعيد التأكيد أننا لا نزال نتحدث عن العمر وليس السلوك أو الفعل، جدير بالذكر أن الأردن هو الأعلى في 'جرائم الشرف' عربيًا، بعدد وصل بحسب بعض الإحصائيات لما يزيد عن الثلاثين ضحية هذا العام غير المنتهي بعد!).

 يكمل الكاتب ويقول: 'لم تقل لنا الأخبار فيما إذا كان المجرم أردنيا بالفعل، أو على رأي المطالبين ابن أردنية... فهذا النمط من الجرائم لا نعرفه، ولا يمكن لشعبنا أن يقبلها، فمن أين جاءت؟!'. يستحضر الكاتب بقية ذكورته وفحولته بسؤال استنكاري يعلم هو و'المطالبين' بواطنه ودلالاته، ليهجم على الجسد الأنثوي ذاتًا وموضوعًا، ضمن فضاء الهويّة الأردنيّة الشخصي والقانوني، فيعتبر أن ابن الأردنيّة لديه ميلٌ ما لجرائم لا يمكن أن يرتكبها إبن الأردني، بلفظ آخر، فإن دونيّة الجسد الأردني المؤنث أمام الجسد الأردني المذكر، هي التي دست في 'شعبنا'، 'هذا النمط من الجرائم لا نعرفه'.

لماذا هذا الكم من العنف الجندريّ الفرديّ الممأسس ضد الجسد الأنثويّ، بداية من القتل الماديّ المباشر، الذي قام به القاتل مرورًا إلى موّضعة جريمة القتل ضمن معايير عمريّة، يمكن أن تخفف من وطأتها من حيث الفضاء العام وتداول فكرة القتل وتفهمها، وصولًا إلى تعميم دونيّة الأنثى (الأردنيّة) أمام الذكر (الأردني) كأفراد قانونيين يملكون حق 'الجنسية' وككيانات بيولوجية تتناسل لتلد أفرادًا آخرين يخضعون لنفس الوسم؟ وكأن هذا الوسم الدوني لابن الأردنيّة هو مطبوع في الجينات الوراثية الأنثويّة، وهو غير قابل بما ينتجه من أفراد للإندماج في مجتمع أردني أنتجت جينات الذكور الأردنيين فيه أفرادًا جينيًا غير مجرمين (أو ميالين للـ'جرائم البشعة' بحسب الكاتب والقائل). هنا يسوقنا هذا النسق العنصريّ والجندريّ إلى مآلٍ واحد، وهو أن دونيّة ابن الأردنيّة كفرد يقيم في دولة عليها أن تدير شؤونه العامة وعلاقاته بالأفراد الآخرين بعدلٍ وشفافيةٍ ومساواة ضمن المؤسسة (المجتمع والدولة)، هي دونيّةٌ ممتدة من الأنثى الأردنيّة كذات إنسانيّة وكفرد مواطن أمام المؤسسة، وهذه الدونيّة مفتوحة على كل فعلٍ واحتمالٍ دونيّ لا يمكن أن يصل إليه ابن الفرد/الجسد الأردنيّ المذكر: وصولًا إلى 'جريمة القتل'، وبالتالي فإن القول إن القاتل فعل فعلته لأنه ابن أردنيّة (وهو ما ينتظره مصاروة أن يؤكده له الإعلام) هو عنف ممارس تجاه الأنثى 'الأردنية'، أولهن 'المغدورة' وليست آخرهن كل الإناث.

وبالعودة لفكرة المجتمع الأردني، لنا أن نقتبس عن جوزيف مسعد في كتابه تأثيرات كولونياليّةColonial Effects (2001)  التالي عن خلق الهويّة الوطنيّة في الأردن : 'كان على الأمة أن تُخلق بمساعدة أسمى مؤسستين، الجيش و القانون الوطني. اعتمدت صياغة القوميّة الأردنيّة على الثقافة البدويّة، والتي تمّ الاحتفاء بها ورسمها بخيال شاعري يذكرنا بتمجيد الفلاحين الهنود، وهي في حد ذاتها كوكبة مجزأة ومتعددة الأشكال. وكان الهدف من تمجيد الثقافة البدويّة هو تجانس الشظايا، والأهم من ذلك نقل الولاء من زعماء القبائل والهويّات التقليديّة القائمة بشكل نسبي وأولي إلى الملك المُثبت حديثًا والأمة الأردنيّة المُخترعة. فكان تاريخ القبائل المكتوب والمُصنع من خلال مفكري القبائل والمنتج بشكل تأريخي وأدلة موضوعة للحصول على مكان في السرد الوطني بوصفه إدعاءات شرعيّة تؤكد على ماضٍ قبلي ومستقبل مرتبط بالأمة المعاصرة، ويذكرنا آندرو شيروك في كتابه 'القوميّة وتوهم الأنساب: التاريخ الشفهي والسلطة النصيّة في الشعائر الدينيّة' بعلاقة تناسب عكسي بين الاستعمار الذي اخترع سيناريو ملكي قومي يعتمد على التراث البدوي، وبين التصور التصاعدي للشظايا التي تشكل الأمة.

إن الجسد الأنثويّ الأردنيّ، بحسب ما سبق، لا يمكنه إلا أن يكون خاضعًا لوسوم ثلاثة مؤسسات وإرثها المشترك في المجتمع والدولة الأردنييَّن وفضاءاتهما، وهم: البداوة، التاريخ الاستعماري والثقافة العسكريّة ، وكل منظومة من هذه تقوم في أساسها على عنفٍ جسديٍ ذكوريٍ ما، فالثقافة البدويّة ثقافة الذكر الفرد/المالك لما فوق الأرض وتحتها مالك الأنعام المترحل بكل قبيلته وراء الماء والكلأ ، رئيس القبيلة أفرادًا ذكورًا ومالك الإناث أفرادًا متاعًا، وتاريخنا العربي البدوي مليء بنماذج امتلاك الجسد الأثوي كمتاع ومنحه كعطيّة أو ثمن، وأما التاريخ الاستعماريّ، فهو ينبني من ضمن ما ينبني عليه: أفضلية جسد على جسد، الذكر على الأنثى، الجسد الأبيض على الملوّن، المكشوف (ضمن المركزيّة الأوروبيّة، وصورها) على المحتجب (ضمن المركزية العربية - الإسلامية وصورها)، ولنا أن نرى كيف تعامل الاستعمار مع أجساد المُستعمَرين عمومًا والإناث منها تحديدًا بعنفٍّ ماديٍّ ورمزيٍّ شديد (سارة باتمان 1877 - 1815، نموذجًا، وهي التي قتل وشوَّه النظام الاستعماري الأوروبي جسدها في حياتها وبعد مماتها حتى العام 2003) ، وكيف أسس لدونيّتها وملكيّتها وانتهاكها، ووسم الأنثى المستعمرة بأوسام الدونية دائمًا؛ وأخيرًا، الفكرة العسكريّة متمثلة في الجيش، فهي تقوم في ذاتها على أكثر أنماط العنف الجسديّ، فالجيش كمؤسسة وفكرة تقوم في أساسها على انتصار جسد بإفناء جسد آخر، وإذا استعرنا مقولة كارل فون كلاوشفيتز في كتابه 'عن الحرب'، أن 'السياسة استمرار للحروب بشكل ما أو بآخر '، يمكننا تفهم حزمة القوانين التي تواجه حق المرأة كفرد مواطن، من أمثال ذلك قانون منح الجنسية الأردنيّة لأبناء الأردنيّات، وكيف تحايلت الحكومات المتعاقبة على هذا القانون، وقانون تجريم الاغتصاب وجرائم الشرف وغيرها.

في النهاية، لا يمكن أن يكون مقالًا كالمذكور أعلاه إلا امتدادًا لمنظومة العنف الممأسسة ضد الأنثى، بإعادة قتلها.

التعليقات