26/05/2017 - 22:04

إضراب الأسرى، الفرصة التاريخية التي ضيّعها الفلسطينيون

أعطانا الأسرى فرصةً تاريخية، فقد أوجدوا لنا قضيةً من المفروض أنها غير مختلف عليها، من المفروض أنها تكشف نوايانا باتجاه قضايانا الوطنية، وقد كنت من بين السذّج الذين اعتقدوا أن قضية الأسرى يمكن أن تساهم مثلًا في حل مشكلة الانقسام

إضراب الأسرى، الفرصة التاريخية التي ضيّعها الفلسطينيون

كما عرّفها غسان كنفاني في روايته غير المكتملة الأعمى والأطرش، فإن "المعجزة ليست أكثر من الجنين الغريب الذي ينمو في رحم اليأس، ثمّ يولَد على غير توقّع من أحد ليضحي جزءًا من الأشياء، تبدو، ثمة، ناقصة دونه"، وهذا التعريف العبقري للمعجزة، إنما يفسر الضرورة التاريخية للمعجزة، وليس فقط القدرات الخارقة التي تقوم بها، فإن كان ثمة معجزة، فإنها بالضرورة لا تتبع منطقًا علميًا، أو توقّعًا جاهزًا، فهي دائمًا تبدو وكأنها تأتي من خارج سياق العالم المفهوم.

عشنا حالةً من التردي خلال عشر سنوات وأكثر، تمثلت في الانقسام بشكل رئيس، وفي ثلاثة اعتداءات على غزة حصدت أرواح الآلاف، وأعاقت عشرات الآلاف، وهدمت منازل قضى أصحابها أعمارًا في بنائها حجرًا حجرًا، وتمثلت حالة التردي كذلك في انسداد الأفق السياسي، وحالات من الفردية وصلت إلى حد الجنون، وتدني المستوى الأخلاقي في التعاملات الإنسانية، والاعتداء السافر على المناهج الفلسطينية، وامتداد المستوطنات، وقتل المواطنين على الحواجز، واستشراء ظواهر مثل اللامبالاة، والرغبة في الهجرة، وحتى العنصرية الداخلية في أحيان كثيرة، وغير ذلك الكثير من الظواهر، وبدت حالة التردي هذه لا نهائية، غير أن فعلًا واحدًا جماعيًا غير متوقع، جاء ليهدينا الفرصة للخروج من حالة الإحباط هذه.

هذا الفعل، بدأ بمقدمة، بيان للأسرى في شهر آذار/ مارس، قالوا فيه إنهم سيعلنون الإضراب عن الطعام في السابع عشر من نيسان/ أبريل، يوم الأسير الفلسطيني، لكي تستجيب الحكومة الإسرائيلية لمجموعة من المطالب الإنسانية التي كانت أصلًا بحوزة الأسرى قبل سنوات، قبل أن يتم سحبها تدريجيًا نتيجة توغل حكومة إسرائيل في يمينيتها، ليس فقط الحكومة، بل الشارع كذلك، وأخذ الوقت يقترب من التاريخ المحدد، ولم يكن هناك أي رد فعل يقول إن الشارع الفلسطيني يأخذ تهديد الأسرى على محمل الجد، ولا المستوى السياسي الفلسطيني كذلك.

وبدأ إضراب الأسرى، ويعلم الجميع ما حدث خلال أربعين يومًا، ولم يكن أحد يعتقد أن الإضراب سيستمر إلى هذا الوقت، لعدة أسباب، أهمها، أن كثيرين تصوروا أن الإضراب سيحقق بعض مطالبه في وقت أقل بكثير من هذا، وكذلك أن هناك تدخلًا بشكل ما من المستويين الشعبي والسياسي، لكي يساند الأسرى ويعطي دفعةً لإضرابهم، لكن هذا لم يحدث، وإن حدث هنا أو هناك، فبشكل متواضع لا يرقى لأن يحدث تأثيرًا في مجريات الأمور.

لقد أعطانا الأسرى فرصةً تاريخية، فقد أوجدوا لنا قضيةً من المفروض أنها غير مختلف عليها، من المفروض أنها تكشف نوايانا باتجاه قضايانا الوطنية، وقد كنت من بين السذّج الذين اعتقدوا أن قضية الأسرى يمكن أن تساهم مثلًا في حل مشكلة الانقسام، ويمكن كذلك أن تجعل الشارع والقيادة الفلسطينية في صف واحد باتجاه قضية الإضراب، ويمكن كذلك أن تغير من سلوك الشارع الفلسطيني باتجاه نفسه وقضاياه، لكن كل هذا لم يحدث إلا بشكل أقل من البسيط، وحتى في الأيام التي استجابت فيها المدن للإضرابات المساندة للأسرى، جلس الجميع في بيوتهم، وكأنه يوم إجازة.

لقد كشف إضراب الأسرى الكثير من مواطن الخلل في الروح الفلسطينية "الجديدة"، هذه اللامبالاة العظيمة تجاه القضايا الكبرى، لقد امتلكنا فرصةً عظيمةً، وما زلنا نمتلكها ما لم ينته إضراب الأسرى، تتيح لنا أن نتوحد تحت شعار واحد بعد أن فرقتنا الحياة، بعد أن أصبحت شعاراتنا أكثر فرديةً، واهتماماتنا أقل وطنية.

بالطبع لا يمكن لوم أي شخص على أنه يرغب في تحسين مستوى حياته والارتقاء بها اجتماعيًا وماليًا... إلخ، لكن هؤلاء الأسرى الذين يجلسون لليوم الأربعين في سجون إسرائيل، ومستشفياتها الميدانية، لم يدخلوا السجون لأنهم سرقوا بقرةً أو اعتدوا على فتاة في الشارع، لم يدخلوا السجون لأنهم سطوا على بنك، أو اقتحموا بيتًا آمنًا، بل هم هناك من أجلنا، من أجل قضيتنا الوطنية، بغض النظر عن الأسلوب الذي اتبعوه، سواء اتفقنا مع بعضه أو لم نتفق، فهذا ليس هو المهم في الأمر، ما يهم في الحقيقة أنهم هناك بسبب فلسطين، التي كانت تسمى فلسطين، وصارت تسمى فلسطين، وإذا كنا نعتبر أنفسنا فلسطينيين، إذن هم هناك من أجلنا، إذن جزء منا مدين لهم، فرضًا، لا مزاجًا.

إنهم لا يأكلون الطعام منذ أربعين يومًا، وهذا رقم من خيال، فأطول إضراب جماعي خاضه الأسرى كان بتاريخ 11/12/1976، والذي انطلق من سجن عسقلان؛ واستمر لمدة 45 يومًا، وفيه سمحت إدارة السجن بإدخال القرطاسية وتسلّم الأسرى مكتبة السجن، وتم تحسين نوعية وكمية الطعام واستبدال فرشات الأسرى المتهرئة، والإضراب الحالي لم يتبق له سوى خمسة أيام لكي يكسر الرقم القياسي للإضرابات الجماعية، ويبدو أن أربعين يومًا لم تكن كافية للشعور بأن هناك مشكلة كبيرة تحدث، تتمثل في شرخ أصاب الروح الفلسطينية.

لا أناقش ما تفعله إسرائيل في موضوع الأسرى، لسبب واحد وبسيط، هو أن إسرائيل هي قوة احتلال، وبالطبع فهي لن ترضخ بسهولة لمطالب الأسرى الفلسطينيين الذين هم في عرفها "إرهابيون"، فقد نجحت إسرائيل في نقل صورة للعالم عن الإضراب، تتلخص في أنه إضراب يخوضه مروان البرغوثي لتثبيت موقعه مقابل رئيس دولة فلسطين محمود عباس، وبالتالي فهو غير موجه ضد إسرائيل، فاقتنع الشارع الإسرائيلي أولا، والمأساة أن بعض الفلسطينيين بدأوا يرددون هذه الشعارات، وكأن اللحم الفلسطيني الذي يطير في الهواء كل يوم، ليس لحمهم، والدم ليس دمهم، والأولاد ليسوا أولادهم.

كنا نردد عبارة "وين العرب، وين المسلمين"، حين يتم اعتداء إسرائيلي على أي مدينة فلسطينية، ولم أتصور أن يومًا سيأتي ونردد عبارة "وين الفلسطينية"، تلك الصرخة التي أطلقتها أخت أحد الأسرى حين وجدت خيمة الاعتصام فارغة، فأصيبت بحالة من الهستيريا وهي تصرخ في الشارع حاملةً صورة أخيها: "وين الزلام، وين فتح، وين حماس، وين شباب فلسطين، بدي أخوية، أخوية في المستشفى بديش إياه شهيد"، وبدأت معزوفة الناس المعروفة تعليقًا على الإضراب: إننا نخجل من أنفسنا، إننا نستحق ما يحدث لنا... إلخ، ولم يعرف كل من يقول ذلك أن كلمة واحدة كفيلة بأن تغير الميزان باصطفافها إلى جانب كلمات أخرى، لكن الفردية الطاغية ما زالت طاغية.

نجحت إسرائيل في عشرين عامًا في خلق حالة غير مسبوقة في الشارع الفلسطيني، هذه الحالة تتجلى في الاستفراد بالمدن الفلسطينية كل مدينة على حدة، وتجلس المدن الأخرى في مجلس المتفرج، وسقوط الشهداء على الحواجز أصبح عاديًا لا يثير أي نوع من المشاعر، إلا إذا كانت مشاعر آنية تنتهي بانتهاء فورة الغضب، ولطالما قلنا إن الغضب ليس هو المطلوب، لأنه ينتهي بانتهاء السبب، لكن كثيرين لم يفهموا ماذا يعني ذلك.

لسنا بحاجة إلى مقالات تبكينا على الأسرى، ولسنا بحاجة إلى من يقول لنا ماذا يحدث للأسير بعد أربعين يومًا من الامتناع عن الأكل والشرب في ظروف صحية هي أصلا تسبب المرض، فالكل بات يعرف ذلك، والكل صار يعرف تفاصيل التفاصيل عن الإضراب وأسبابه، وعما يحدث للمعتقلين الفلسطينيين، بل يمكن لكثيرين أن يكتبوا رسائل ماجستير في هذا الموضوع، بل المهم ماذا يمكن أن نفعل لهم، ولا أظن أن هذا الفعل بات ممكنًا الآن، لأن كل فعل يبدأ بمقدمات، ولا أظن المقدمات تكفي لأن نقول إن هناك فعلًا قادمًا.

ربما يستشهد بعض الأسرى، وربما لا، لكن المؤكد عميقًا، أنهم لن يعودوا بعد الإضراب مثلما كانوا قبله، ستتآكل الكثير من أعضائهم بسبب الإضراب، تآكلًا لا يمكن علاجه لاحقًا، لأنه يصيب العمق الوظيفي للعضو المعني، فلا تعود الأعضاء إلى طبيعتها حين يبدأ المضرب بتناول الطعام، لكن هذه المعلومات أيضًا أظنكم بتّم تعرفونها، وترديدها ما هو إلا من باب الإشارة لا أكثر.

لم نستغل، كفلسطينيين، تلك الفرصة التاريخية التي منحها لنا الأسرى، لم تقف التنظيمات المهترئة لتستعيد جزءًا من حيويتها بهذه الفرصة التاريخية، لم تفهم التنظيمات والأحزاب أن التاريخ هو عبارة عن موقف، إما أن تكون فيه على قدر المسؤولية أو لا تكون، وهم لم يكونوا، ومن الواضح أنهم لن يكونوا.

عذرًا غسان كنفاني، فعلى قدر ما يبدو تعريفك للمعجزة رائعًا ودقيقًا، ولكن من الواضح أنه لا يكفي أن تحدث المعجزة لكي يستغلها الناس ويدخلوها في نسيجهم الحياتي، وعلى ذلك، فكم من معجزةٍ حدثت وتركتها الشعوب تذهب أدراج الرياح، لتعض أصابعها لاحقًا وتقول:

ليتنا كنا نعي وقتها أنها معجزة...

التعليقات