30/05/2017 - 13:24

الصدمة الفكرية في نقد صادق جلال العظم لما بعد الهزيمة

لعل أبرز الأعمال الفكرية التي صدرت بعد هزيمة حزيران/ يونيو 1967 هو كتاب النقد الذاتي بعد الهزيمة للمفكر صادق جلال العظم.

الصدمة الفكرية في نقد صادق جلال العظم لما بعد الهزيمة

سهيل كيوان

لعل أبرز الأعمال الفكرية التي صدرت بعد هزيمة حزيران/ يونيو 1967 هو كتاب النقد الذاتي بعد الهزيمة للمفكر صادق جلال العظم.

يقول صادق جلال العظم في مقدمته إن 'هذا الكتاب كتب تحت ضغط نفسي سببه الهزيمة المريعة والطريقة المهينة التي حدثت بها'، ويضيف: 'اتصل بي صبيحة يوم الخامس من حزيران الشاعر أدونيس وأعلمني بأن الحرب قد بدأت وأن طائرات إسرائيل تتساقط والجيوش العربية تتقدم' وذلك وفقا لما سمعه في الإذاعات العربية، تبادلنا الحديث بهدوء ولم نفكر قط بالهزيمة، لم يتخيل أحد أن نهزم ففي أشد الحالات تشاؤما فكرنا أن نخرج متعادلين مع إسرائيل.  

تأتي أهمية كتاب صادق جلال العظم بأنه الرد الفكري المدروس الأول على الهزيمة في بحر من التخبطات الفكرية التي سعت لتبرير ما حدث وليس للتعلم مما حدث، والمحزن أن الدروس التي كان يجب أن يتعلمها العرب من هزيمة حزيران/ يونيو 1967 لم تستوعب وما زال واقع العرب كما هو ولم يتغير، بل ربما صار أسوأ بعدما تبين بأن الأنظمة التي ظننا أنها تقدمية وتتجه للاشتراكية سعت إلى تثبيت سلطة دكتاتورية شمولية بل وسعت لتوريث الحكم وضرب أسس الفكرة الاشتراكية التقدمية من جذورها.

عقلية تبرير الهزيمة ما زالت موجودة فنبرر ما نراه من انهيارات وجرائم ترتكب باسم الوطن تارة والدفاع عن النظام التقدمي تارة أخرى بل وزدنا عليها المذهبية والقبور المقدسة ومحاربة الإرهاب والمؤامرات الأجنبية لتدور كلها في فلك واحد هو قمع المواطن وتقييده وتحويله إلى شيء فلا يفكر ولا ينتقد ولا يطمح لتغيير، ويتحول الجميع إلى قطيع يدور تحت حجري الرحى الذي يديره الحاكم الذي لا هم له إلا السلطة.

يُجري العظم في بداية كتابه مقارنة بين الحرب التي نشبت بين اليابان وروسيا عام 1904 حيث ساد الاستهتار الروسي بقوة اليابان وانطلقت السخرية من اليابانيين وقدراتهم المحدودة أمام روسيا العظيمة وقدراتها ومساحاتها الشاسعة، وبأنه مهما كانت قوة اليابان فسوف يدفنهم الروس في البحر، ولكن اليابان قامت بضربة مفاجئة وسريعة للأسطول البحري الروسي شلت عمله وسيطرت على البحار، وهذا يشبه في تلك الحقبة الضربة الجوية والسيطرة التامة على سير الحرب، هذا أدى لإعادة الحسابات لدى الروس فحدثت ثورة 1905 الروسية التي أخفقت، ولكن تبعتها اضطرابات أوصلت فيما بعد إلى ثورة أكتوبر 1917 ونهاية الحكم القيصري.

الأجواء في روسيا الإمبراطورية عام 1904 وبين أجواء العرب عام 1967 كانت متشابهة. كتب الصحفي المقرب من جمال عبد الناصر، محمد حسنين هيكل، في الثاني من حزيران عام 1967 في الأهرام أي قبيل الحرب بثلاثة أيام 'مهما يكن وبدون محاولة لاستباق الحوادث فإن إسرائيل مقبلة على عملية انكسار تكاد تكون محققة سواء من الداخل أو من الخارج'.

وكتب مراسل صحيفة الجمهورية في 21 أيار 1967 'في ساعات ممكن أن نسحق إسرائيل بغير استخدام كافة أسلحتنا'. وأكد أحد القادة العسكريين الكبار أن القضاء على إسرائيل لن يستغرق أكثر من أربعة أيام.

الفرق بين الروس والعرب أن الروس ثاروا على أنفسهم، بينما راح العرب يبحثون عن أسباب الهزيمة من خارجهم فاتهموا أمريكا وبريطانيا بأنهما منحتا إسرائيل غطاء جويا وساعدتاها في قصف المواقع العربية، وكأن الدعم الأميركي والبريطاني لإسرائيل جديد، والبعض اتهم الروس بالتقصير في تسليح العرب، وذهب البعض إلى الغيبيات وذلك بالقول إن العرب ابتعدوا عن الله فتخلى الله عنهم.

وقال مفتي الأردن في صحيفة الدستور في 22 كانون الأول 1967 عن اليهود 'ليس فيهم من القوة ولا الشجاعة ما يستطيعون معه أن يفعلوا فعلتهم تلك، ونحن أعلم الناس بهم، ولكن الله أراد أن يسلّط علينا هذه الفئة نتيجة بعدنا عن الله'.

ولكن بعد أشهر من التفسيرات الغيبية بدأت تظهر معالجات لما حصل بالفعل وكتب محمد حسنين هيكل: 'إننا أمام عدو متعلم وعصري وليس أمام الطرف العربي من حل إلا أن يكون متعلمًا وعصريًا'.

ويتساءل العظم: 'هل نحن مستعدون للتنازل عن كل ما كنا نعتز به سابقًا إذا تبين أنه يتعارض مع العلم والعصرية؟' فالعلم والعصرية يعني مثلا الدولة العلمانية وفصل الدين عن الدولة. ثم يقول العظم إن العرب وصفوا ما حدث بأنه عدوان صهيوني غادر، فكيف يكون غادرا بينما نحن نعلن طيلة الوقت بأننا في حالة حرب مع إسرائيل! وكيف نسميه عدوانا فهل توقعتم حسن الجوار من إسرائيل؟

يستعرض العظم بعض الخرافات التي انتشرت بأن اليهود مسيطرون على العالم واقتصاده في أميركا وكذلك في الاتحاد السوفييتي وأنهم مؤسسو الشيوعية وسيطرتهم على الماسونية وبروتوكولات حكماء صهيون تشهد بذلك وغيرها لتبرير ضعف العرب وتفوق إسرائيل العلمي وبالتالي العسكري عليهم، هكذا يتهربون من معالجة صحيحة لواقعهم.

ودحض العظم ما يروّج بأن أصوات اليهود في أميركا هي التي تحسم سياسة أميركا تجاه إسرائيل ويرفض هذا ويقول بإن أيزنهاور مثلا رغم عدم رضى اليهود عن موقفه خلال عدوان 1956 على مصر، إلا أنه اكتسح شعبية عالية في الانتخابات رغم اليهود، ويخلص بهذا إلى أن مصالح أميركا لا تقررها أصوات اليهود بل هنالك عوامل كثيرة أخرى، وأن النخبة البروتستانتية الأميركية هي المسيطرة على أكبر المصانع والبنوك وغيرها وهي تنظر بعنصرية وفوقية إلى اليهود والزنوج والهنود وحتى للكاثوليك، والحقيقة أن الاقتصاد الأميركي بيد هذه النخبة البروتستانتية رغم عدم إنكار وجود وحضور اليهود القوي في قطاعات معينة مثل الإعلام وإنتاج السينما.   

يوجه العظم نيرانه إلى الشباب العربي الثوري فيرى بأنه ثوري فقط على الصعيد السياسي، ولكنه على الصعيد الاجتماعي ما زال محافظا دينيا وثقافيا وأخلاقيا واقتصاديا إلا فيما ندر، مما يبقي الموقف الثوري مبتورا وسطحيا وعلى مستوى ضعيف من الفعالية.

وينتقد الفكر الذي ما زال ينظر إلى الحرب باعتبارها فروسية ومواجهة وجها لوجه على الفرسان، بينما الحرب خدع وتكنولوجيا حديثة، صحيح أن الجندي العربي أظهر بسالة كبيرة عندما كانت مواجهات وجها لوجه في بعض المواقع، ولكن مرونة التحرك والخدع وتغيير الخطط كانت بمبادرة إسرائيل، فالحرب لم تعد وجها لوجه فماذا يستطيع الفارس النبيل أن يفعل في مواجهة القصف الصاروخي البعيد مثلا؟ ويتطرق إلى الخوف من اتخاذ القرارات السريعة في ساحة المعركة وفق التطورات الميدانية وانتظار القرارات من أعلى وهذا يشبه قصة 'ماكو أوامر' التي رددها ضابط عراقيون عام 1948 أي أنه لا يوجد أوامر للرد أو للهجوم، وهذا يعني أن الضباط محرومون من الإبداع خلال المعركة في اتخاذ القرارات وينتظرون موافقة جهات عليا، وهي تربية ليست فقط في ساحة المعركة بل في حياتنا اليومية، وفي الوقت الذي كانت طائرات إسرائيل تقصف المطارات كان الجنود المصريون ينتظرون الأوامر العليا للرد.

كذلك انتقد العظم عدم وجود مراكز للأبحاث في كل مجالات العلوم ودعا لإنشائها والعمل على إعادة العقول العربية المهاجرة، مقارنا مع إسرائيل التي تجند الحد الأقصى من الأدمغة والإمكانيات اليهودية وغير اليهودية لمصلحتها.

كذلك انتقد تهميش دور المرأة حتى في الدول العربية التي قالت إنها تتجه نحو الاشتراكية مقارنة بالمرأة في المجتمع اليهودي حيث دافعت عن المستعمرات وتعمل في الكيبوتس ومراكز الإنتاج فإن المرأة العربية لا دور يذكر لها خارج البيت.

نقد صادق جلال العظم ما لا زال ساري المفعول حتى يومنا هذا، بل ويمكن القول إنه أصبح أكثر إلحاحا. 

التعليقات