09/06/2017 - 19:37

هزيمة 1967 فتحت أبوابًا موصدة في الإبداع...

لم يُكتب على جبين هذه الأمة الهزائم بعد تاريخ كان مشرقا. إلا أننا نستطيع القول بأن القرن الماضي كان قرن الهزائم المتتالية بالنسبة لأمتنا العربية بامتياز، والتي لا يؤدي تعدادها كبير فائدة، إلا مزيدا من الحسرات والندم والقهر.

هزيمة 1967 فتحت أبوابًا موصدة في الإبداع...

لم يُكتب على جبين هذه الأمة الهزائم بعد تاريخ كان مشرقا. إلا أننا نستطيع القول بأن القرن الماضي كان قرن الهزائم المتتالية بالنسبة لأمتنا العربية بامتياز، والتي لا يؤدي تعدادها كبير فائدة، إلا مزيدا من الحسرات والندم والقهر. ومما لا شك فيه أن أقسى تلك الهزائم كانت هزيمة 1967 التي قلبت موازين المنطقة رأسا على عقب. وأحدثت زلزالا ما زالت رداته تتوالى حتى يومنا هذا، ولا أظنها سوف تنتهي قريبا بالرغم من مرور نصف قرن على تلك الهزيمة.

لقد شكلت هزيمة عام 1967 ما يشبه إلى حد كبير الهستيريا الجماعية، ولكنها بقيت صامتة. فانعكست تفاعلاتها على دواخل أفراد المجتمع العربي، مسببة حالة من التمزق الداخلي. إذ كانت قبلها الأحلام كبيرة تطاول النجوم، فغدت في لحظة وبعد سماع نشرة الأخبار هباء منثورا. وأصبحت الحقيقة علقما تجرعه كل من عاشوا تلك الأيام، بل سكاكين فرت أرواحهم.

وبدأت بعدها عملية جلد للذات على كل المستويات، فدخل النتاج الأدبي عامة في حالة من الجلد والبكائيات ذكرتنا بما حدث في بغداد خلال اجتياح المغول لها. وبدأت بعض الأصوات من هنا وهناك تطلق بصوت عال يشبه الصراخ بعدما كانت باهتة وغير مسموح لها بالتعبير، طارحة إجراء مراجعة في الموروث التاريخي والديني والفكري لكل المنطقة، وتطالب أيضا بالنقد الذاتي، وبمراجعة حقيقية لما حدث، ولكل الطروحات السياسية والاجتماعية.  في الوقت الذي انطوى فيه كثيرون على أنفسهم، وانغلقوا في قوقعة الدين كما في كل مرة تتعرص فيها الأمة للخطر الخارجي ولهزيمة. فتغلق عندها أبواب العقل من جراء الصدمة ويشكل الدين والغيبيات سفينة نجاة...

وكان من الطبيعي أن تتأثر أقلام المبدعين ونتاجاتهم بتلك الهزيمة الشنعاء بشكل مباشر، لأن الكتابة بحد ذاتها ما هي إلا فيض عن تلك الدواخل الممزقة. فانفتحت الأبواب أمام كثير من المبدعين ليدلوا بدلوهم عبر سطورهم في الأسباب والمسببات، معبرين من خلال قصائدهم ونثرهم عما يجول بخاطرهم حول ذلك، متحررين إلى حد بعيد من قيود النص الأدبي والواقع والمجتمع.

 وبدأت كثير من الأعمال الأدبية تتفس بعضا من الحرية الغير معهودة دينيا وسياسيا وإنسانيا. فصدرت مجموعة لا بأس بها من الروايات ودواوين الشعر والمسرحيات التي تناولت تلك الفاجعة في عدة بلدان عربية ومن عدة جوانب.

والذين حاولوا الغوص في الأسباب والمسببات من الكتاب والأدباء وضعوا أصابعهم في المكان الخطأ، لأنهم صبوا جام غضبهم على العادات والتقاليد والموروث الديني والثقافي، معتبرين أنها جميعا السبب المباشر للهزيمة... بينما لجأ آخرون إلى التاريخ يبحثون فيه ليستحضروا منه بعض العبر والخلاصات دون النظر بشكل موضوعي، وتحليل منهجي علمي معمق في الأسباب والمسببات.

وفي اعتقادي فإن طروحات بعض الأدباء والمفكرين كحلول جاءت مجتزءة كونها تناولت بعض جوانب المأساة فقط، ولأن كثيرًا منها كان عبارة عن شعارات لا أكثر ولا أقل، سمح الرقيب بها لامتصاص الصدمة والنقمة...

ومع ذلك فإن هذه الهزيمة أعطت المبدعين في شتى المجالات مساحة أكبر من الحرية. وفتحت الباب أمام المارد الفلسطيني ليخرج من قمقمه ويرفع صوته، ولكي ينتزع بعض المكتسبات، ويصبح قراره ملك يديه إلى حد كبير، ويتحرر من الوصاية التي فرضتها الأنظمة العربية عليه في مرحلة ما قبل الهزيمة. مما سمح للأدب الفلسطيني بكل أشكاله بأن يتنفس الصعداء، وأن يصبح صنو البندقية، ويشكل معها أملا جديدا بالنسبة للمواطن العربي يبني عليه أحلامة. وبدأت بالتالي البوصلة بالتحول باتجاه فلسطين بعدما كان كل التركيز على مصر، وخصوصا بعد معركة الكرامة التي ألهبت المشاعر والأقلام. ليكون في انتقال المقاومة فيما بعد إلى بيروت التي كانت مؤهلة لاحتضانها فكريا وثقافيا لأسباب وظروف كثيرة، فشكلت عندها رحما لأدب حر من كل أنواع القيود شكلا ومضمونا، وجيدا بل ممتازا وجديدا من حيث طروحاته ومضامينه وقوالبه الأدبية وأساليبه.

وغدت القصيدة والرواية والمسرحية الفلسطينية ظاهرة متفردة استدعاها الحدث، وجعل منها المثقفون العرب متراسهم الذي يتفيؤون بظلاله بعدما كان الأدب الفلسطيني بصفة عامة شبه محاصر، ومُعتَّم عليه. ليغدو هذا الأدب القاطرة في إحداث التحولات الأدبية على أنواعها في تلك المرحلة بلا منازع. كون تلك الظاهرة استطاعت ترجمة الصدمة والحدث ونتائجه، إلى جانب التعبير بحرية عن مكنونات نفوس شريحة كبيرة من العرب. مستوعبة في الوقت نفسه مشاكل كل أبناء العروبة من الماء إلى الماء. بل نستطيع القول إنها غاصت في مشاكل بعض المجتمعات العربية أكثر من التجارب المحلية نفسها أحيانا، وذلك من خلال إسقاطات وتداخلات بين القضايا والمشاكل المجتمعية التي بلا شك تتوحد في مجتمعاتنا جوهرا وموضوعا. فأصبح كل مواطن عربي مثقفا كان أم لا، يقرأ ويرى في الكلمة الفلسطينة معاناته الخاصة، ونافذة تُفْتح أمامه نحو مستقبل يعتقد جازما أن فوهات البنادق هي الوحيدة القادرة على بلورته وصناعته...

وهكذا انطلقت قاطرة تجربة تجديد في الأدب بصورة عامة من نوع آخر، إن كان على مستوى القصيدة من حيث بنيتها وتفعيلتها ومواضيعها، أو من حيث طبيعة القضايا التي تحملها وشحنت بها. وعلى مستوى الرواية فقد أسقط الكتاب فيها كثيرا من المحرمات التي حوتها قواميسهم وذلك بتطرقهم إلى تابوهات وكثير من خبايا المجتمع وعالم السياسة والدين. ولكن بقيت الهزيمة حاضرة من خلال الصور الأدبية المختلفة وفي العناد والتأكيد على الانتصار.

وكمحصلة لما سبق، فإن الكتابات والنتاجات الأدبية حول هزيمة حزيران ودورها على الساحة الأدبية والفكرية سلبا أو إيجابا كثيرة جدا. ولكنها بقيت في اعتقادي وحتى يومنا هذا مسطحة وأفقية. وأن كل تلك النتاجات وللأسف ما زالت وإلى يومنا هذا لم تُدْرس جيدا كوحدة متكاملة، لا من الناحية البنيوية، والفكرية، والمؤدى، وتركيب الشخصيات، ولا من ناحية الأسلوب، واللغة الصرفة. ولم تدخل في غربلات النقاد بشكل علمي ومنهجي، ولم تُقم حولها ندوات وحلقات دراسات أكاديمية تحليلية متخصصة، اللهم إلا بعض المقالات الصحفية هنا وهناك، والتي في معظمها لا تُكوِّن في محصلتها إطارا علميا وأرضية نقدية يُعتمد عليها.

وبصريح العبارة فإنه لولا ذلك الضوء الفلسطيني الثقافي والأدبي الرائد الذي انبثق بعد هزيمة 1967 وفتحه لأبواب كانت قبلها موصدة، لكنا ما زلنا غارقين مستغرقين في المناحات والبكائيات، وفي أنماط أدبية تكرر نفسها، وخجولة في العبور إلى الحداثة بكل أشكالها. بل لربما كنا نراوح في مكاننا ونسير باتجاه الوراء ونحو التلاشي كما حصل في بغداد بعد اجتياح المغول...

التعليقات