26/10/2017 - 15:00

في ذكرى مجزرة كفرقاسم: لن ننسى... لن نغفر... لن نسامح

طبعا، لم يأت في يوم الذكرى نفسه، وإنما في اليوم الذي سبقه. كنت يومها رئيسا لبلدية كفر قاسم (كانت مجلسا محليا حينها)، وكان عليَّ استقباله بصفتي تلك في حينه. سبقت الزيارة اتصالات مكثفة من كبار مستشاريه لترتيب الزيارة

في ذكرى مجزرة كفرقاسم: لن ننسى... لن نغفر... لن نسامح

(1)

أذكر أن موشي كتساف، الذي كان وزيرا للسياحة وفي نفس الوقت وزيرا للشؤون العربية في حكومة نتنياهو (1999 – 1996)، قرر المشاركة في يوم الذكرى الـ 41 لمجزرة كفر قاسم، وذلك في العام 1997. كانت هذه أول مرة يشارك فيها مسؤول بهذا المستوى في حدث له علاقة مباشرة بالمجزرة.

طبعا، لم يأت في يوم الذكرى نفسه، وإنما في اليوم الذي سبقه. كنت يومها رئيسا لبلدية كفر قاسم (كانت مجلسا محليا حينها)، وكان عليَّ استقباله بصفتي تلك في حينه. سبقت الزيارة اتصالات مكثفة من كبار مستشاريه لترتيب الزيارة، وكان مما اقترحوه عليَّ منح كتساف شهادة مواطنة شرف في كفر قاسم لمجرد زيارته تلك.

رفضت ذلك رفضا قاطعا رغم إلحاحه الشديد، فقلت له: بشرط واحد. أن يعتذر (لا أن يبدي أسفه) باسم الحكومة لأبناء وأحفاد وبلد الشهداء الذين قتلتهم إسرائيل بدم بارد، وأن يعترف بالمسؤولية القانونية والسياسية والأخلاقية لدولة إسرائيل عن المجزرة، مع كل ما يعنيه هذا الاعتراف من تبعات مادية ومعنوية وقانونية وحقوقية.

لم يُلَبِّ الوزير هذا الطلب، فرفضت من طرفي مجرد التفكير في منحة مواطنة شرف فقط لمجرد زيارته لكفر قاسم في هذه المناسبة المأساوية، بالرغم من أنها الأولى من نوعها منذ وقوع المجزرة وحتى هذا التاريخ.

موقفنا الثابت في كفر قاسم ارتكز على منطق بسيط؛ زيارة مسؤول إسرائيلي لكفر قاسم في ذكرى المجزرة ليس "معروفا!" تسديه إسرائيل للبلد الذبيح، بل هو الموقف الذي كان على إسرائيل أن تتخذه منذ وقوع المجزرة، تماما كما فعلت ألمانيا بعد هزيمة النازية في اعتذارها وتحملها المسؤولية الكاملة عن جرائمها تجاه اليهود في الحرب العالمية الثانية، واستعدادها لدفع الثمن ماديا وسياسيا وعسكريا مهما بلغ لضحاياها ولدولة إسرائيل، والذي ما زالت تدفعه من خمسينات القرن الماضي وحتى الآن، وستظل تدفعه دائما وبلا انقطاع راضية أو كارهة.

نعم، لم نكن لنقبل أقل من ذلك!

وتمت الزيارة، واحتشد الناس في قاعة البلدية ينتظرون من الوزير كلمة (أعتذر) وكلمة (أعترف)، إلا أن هاتين الكلمتين لم تكونا من ضمن الكلمات الكثيرة التي نطق بها الوزير.

كان أبناء الشهداء يجلسون في الصفوف الأولى في القاعة، وهذا هو عهدنا معهم دائما لما يحظون به من كرامة هي قبس من كرامة آبائهم الشهداء... كانوا هم أكثر من أي أحد آخر ينتظرون كلمتي (أعتذر) و (أعترف) كما ذكرت. أذكر تماما مشهدا لن أنساه أبدا... يبدو أن كتساف، أثناء كلمته، نسي أنه في ذكرى المجزرة وأنه يقف امام أبناء الشهداء الذين قتلتهم إسرائيل قبل سنوات، وما زال جرحهم ينزف.

بدأ كتساف يتحدث عن الأوضاع الأمنية والسياسية التي عاشتها إسرائيل في خمسينات القرن الماضي، الأمر الذي فهمه – وبحق – الحاضرون، وبالذات أبناء الشهداء، أنه تبرير لما وقع من جريمة نكراء. فثارت عاصفة من الصراخ في وجه الوزير مستنكرة حديثه – ولو تلميحا لا تصريحا - عما يمكن أن يُفهم على أنه مبررات أدت ربما لارتكاب المجزرة.

كان الصراخ عاليا، والكلمات قوية والنبرة شديدة فيها الكثير من الإهانة، خشيت بسببها أن تنفلت الأمور، وتكون العاقبة وخيمة، وقد كان. شعر الوزير بورطته، ويبدو أن رجال حراسته أحسوا بحكم وظيفتهم وحسهم الأمني أن شيئا يمكن أن يحدث، فبدأوا باتخاذ إجراءات احتياطية من نوع خاص تتعلق بتأمين خروج الوزير من القاعة.

كان يمكن للوزير أن يُحَوِّلَ الزيارة إلى بداية مرحلة جديدة، إلا أن عمى الألوان الذي تميزت به حكومات إسرائيل مذ قيامها وحتى الآن، كثيرا ما يغلب على خطابهم، (فالطبع غلب التطبع) كما تقول أمثلتنا العربية.

كان دخول كتساف إلى بلدنا سلسا، فما كان ينبغي لنا إلا أن نستقبله بما يليق، إلا أنه وبسبب غبائه خرج منها مهينا ذليلا، لأنه ما استوعب لا هو ولا غيره حتى اليوم - كما يبدو - أن كفر قاسم "لن تنسى، لن تغفر ولن تسامح"، وأنها لن تسمح لأحد مهما كان منصبه أن يضع المجزرة في سياق "ظروف" عسكرية أو سياسية، أو وليدة أوضاع خاصة وَلَّدَت الجريمة.

(2)

مجزرة كفر قاسم كجرائم النازية لا يمكن وضعها في سياقات إلا سياق واحد. جريمة ضد الإنسانية على مرتكبيها دولة وجنودا أن يتحملوا المسؤولية الكاملة عنها، وعليهم أن يدفعوا الثمن غاليا بسببها دون التفات وقح لأي ملابسات مهما كان نوعها.

الرواية الإسرائيلية بما يخص جرائمها ضد الإنسانية وجرائم الحرب التي ترتكبها، تصر دائما على وضعها في سياقات تبرر وقوعها من جهة، وتدفع بها التهم عن إسرائيل من الجهة الأخرى. فالنكبة الفلسطينية مثلا لم تكن وليدة حرب العام 1948 كما تدعي إسرائيل، وإنما هي ثمرة مرة لمخطط صهيوني مبكر (خطة دالت "د") وضع قبل وقوع الحرب بفترة طويلة، نصت حرفيا على أن هدف التنظيمات الصهيونية وبالذات "الهاغاناة" هو تطهير فلسطين عرقيا، والذي يعني إزالة منهجية للشعب الفلسطيني عن أرض وطنه، على أساس ديني وعرقي وقومي، باستعمال وسيلتي القتل والإبادة والتدمير المنهجي للقرى والمدن، بهدف تفريغ الأرض من أصحابها الأصليين والشرعيين تمهيدا لاستيعاب اليهود القادمين من كل أنحاء الدنيا.

نفس اللا منطق الدموي المذكور بما يخص نكبة فلسطين، ظل الحاكم للسياسات الإسرائيلية بما يخص الفلسطيني/ الفلسطينيين، بغض النظر عن الظروف والأوضاع. لذلك لا يمكن فهم مجزرة كفر قاسم إلا في هذا السياق. إنها جريمة حرب وجريمة ضد الإنسانية بكل ما تعنيه الكلمة، كان لها ذات أهداف جريمة التطهير العرقي في فلسطين عام 1948، وهي طرد من تبقى من العرب الفلسطينيين من داخل حدود إسرائيل (ابنة الـ 8 سنوات) إلى خارج الحدود، تحقيقا للحلم الإسرائيلي بدولة يهودية خالصة.

(3)

على هذا الأساس نتعامل مع المجزرة، وبناء على ذلك نخوض نضالنا في سبيل أن يتم الاعتراف بها على هذا النحو. لذلك لا غرابة في أن تصر كفر قاسم ومعها شعبها الفلسطيني وكل أحرار العالم، على إحياء ذكرى المجزرة رسميا في موعدها في كل عام، وأن تعمل على أن تظل راسخة في الذاكرة والوعي الجمعي الفلسطيني والإنساني طوال الوقت.

منذ التاسع والعشرين من شهر تشرين الأول/ أكتوبر 1956، وكفر قاسم تصر على إحياء الذكرى الأليمة كل عام، حيث تحملت الأجيال الشابة في السنوات العشرين التالية للمجزرة العنت والملاحقة والسجون، متحدين عنجهية الحكم العسكري وصلفه وجبروته، في سبيل الحفاظ على شعلة ذكرى المجزرة متوقدة وحاضرة في ذاكرة الأجيال، فانتصر اللحم على الفولاذ، وسطرت أجيال كفر قاسم أعظم مشاهد الصمود والتحدي، حتى أصبحت كفر قاسم نموذجا يُحتذى به في إحياء ذكرى شهدائها.

في كل عام وفي نفس الموعد، تلتحم الآلاف من جماهيرنا الفلسطينية في الداخل على ثرى كفر قاسم الذي روته دماء الشهداء المظلومين، يشاركهم العشرات من اليهود الذين كان لهم حضورهم على امتداد عمر ذكرى المجزرة وعلى رأس الجميع المناضل لطيف دوري، ومعهم كل الشعب الفلسطيني وأحرار العالم، في إحياءٍ مقدس لذكرى الشهداء، والذي يكرر الإدانة لدولة إسرائيل على جريمتها النكراء والوحشية في حق الأبرياء من الرجال والنساء والأطفال، الذين سقطوا غدرا برصاصها الحاقد من جهة، ورفضها الممنهج للاعتراف بمسؤوليتها الأخلاقية والقانونية والسياسية عن المجزرة التي ما تزال دماء ضحاياها طرية وما زال جرحها ينزف، رغم مرور واحد وستين عاما.

(4)

ذكرى مجزرة كفر قاسم هذا العام أبعادا عميقة لتزامنها مع أحداث جسام تقع في إسرائيل وفي المنطقة وحول العالم، تشير كلها إلى أن المجازر والمذابح والإبادة الجماعية والقتل على الهوية التي جاءت لتحقيق أغراض سياسية، أصبحت السمة الغالبة على المجتمعات في القرن الواحد والعشرين (قرن حقوق الإنسان والشرعيات الدولية)، تشارك فيها أغلب الدول والمنظمات سواء انتمت لدول متقدمة أو متخلفة، وسواء نفذت جرائم الإبادة والمجازر مباشرة أو بالوكالة؛ سبب ذلك يعود إلى ظلم الأنظمة الحاكمة من جهة، والاحتلالات المختلفة وعلى رأسها الإسرائيلي من الجهة الأخرى، وإلى غياب منظومة العدالة الدولية الرادعة من الجهة الثالثة.

أما عن أوضاع الشعب الفلسطيني عموما ومجتمعنا العربي الفلسطيني في الداخل فليس أقل سوءا، ولسنا معه أكثر حظا، حيث تأتي الذكرى الـ 61 لمجزرة كفر قاسم أيضا في ظل عاصفة هوجاء من العنف التي تجتاح مجتمعنا العربي في الداخل، حصدت حتى هذه اللحظة نحو 1250 قتيلا بأيد عربية منذ العام 2000، الأمر الذي يضعنا أمام تحديات حقيقية على جبهتين. الأولى، الإسرائيلية التي ما تزال تصر على التعامل الأمني مع جماهيرنا العربية حيث أوقعت نحوا من ستين شهيدا منذ العام 2000 وحتى الآن، قُتلوا برصاص أجهزة الشرطة والأمن لكونهم عربا فقط. والثاني، تهاوي حصوننا العربية الداخلية تحت وطأة العنف والجريمة المنظمة والتي تترك مجتمعنا العربي هشا ضعيفا لا يقوى على مواجهة التحديات الخارجية، إلى أن يقوم المخلصون من أبنائه ليحرروا وعيه ويطلقوا إرادته وينظموا صفوفه ويرتبوا أوراقه ويكشفوا طاقاته ويفجروا مهاراته، فتنفتح بوابات المستقبل لتحقيق الأهداف وبلوغ الغايات.

(5)

ستبقى مجزرة كفر قاسم وإلى الأبد حدثا ليس ككل حدث، وستبقى تجسد بشاعة السياسات الإسرائيلية منذ قيام الدولة وإلى اليوم، وتُذَكِّرُ بالخطر الماثل الذي سيظل مُحْدِقا ما لم تعترف إسرائيل بمسؤوليتها القانونية والأخلاقية والسياسية الكاملة عن المجزرة، وتدفع الثمن المطلوب والذي مهما بلغ فلن يكون بقدر قطرة دم واحدة سالت في ذلك المساء الحزين.

نحن على قناعة أنه ومن أجل تخليد الذكرى وإبقائها راسخة وحاضرة دائما، لا بد من رعاية الذاكرة الوطنية وحمايتها كجزء لا يتجزأ من التوعية الوطنية والسياسية لمختلف الأجيال، واستثمار المدارس والمساجد والمؤسسات العامة والمقاهي بهدف تحويلها إلى محاضن تنوير وقلاع إصلاح مجتمعي يصب في النهاية في تحصين الأجيال من أية اختراقات سلبية، وتزويدها بكل الحمايات الضرورية من حيث التربية الدينية والوطنية الملتزمة والكفيلة ببناء جيل يساهم في بناء مجتمعه وتطويره وتنميته في كل المجالات.

ما من شك في أن للأحزاب والحركات ومنظمات المجتمع المدني دور كبير في تعزيز الوعي الجمعي. أما الأسرة فستبقى الحاضنة الأولى والأهم لإعداد الجيل إذا ما فهم الوالدان أن دورهما يتجاوز تأمين الغذاء والكساء والدواء والتعليم والبناء والزواج، إلى المهمة الأساس وهي إعداد المواطن الصالح في عقله وروحه وأخلاقه والتزامه الديني والوطني.

يبدو أن الطريق أمامنا ما زال طويلا، ولا يمكن التنبؤ بالثمن الذي يمكن أن ندفعه في قابل الأعوام، إلا أننا سنظل على يقين بأن قضينا منتصرة لأنها ببساطة قضية عادلة.

*الرئيس السابق للحركة الإسلامية في الداخل الفلسطيني

التعليقات