15/12/2017 - 11:57

القدس... في السّياق السياسي العربي الراهن

تأتي خطوة ترامب هذه في سياق سياسي إقليمي ممزّق، وعربي ساعٍ للتطبيع ولتصفية القضيّة الفلسطينيّة، وفلسطيني منقسم على نفسه، كما ذكرنا سابقا، وبهذا يحاول ترامب تثبيت الرواية الصهيونية من خلال فرض شرعية الاحتلال.

القدس... في السّياق السياسي العربي الراهن

تشهدُ منطقتنا العربية تغييراتٍ جذريّةً في سياق التعامل مع الاحتلال الصهيوني، ولم يعد خافيًا أن ثمة تحرّكًا واضحًا لتعزيز وتطبيع علاقات بعض الأنظمة معها، على ما رَشَح من سعيٍ محموم للمملكة الجديدة لتطبيع علاقاتها مع إسرائيل. تبدّى في شكل زيارات سريّة ودعوات علنيّة لتبادل الزيارات، بالإضافة إلى العلاقات الاستخباراتية والاقتصادية المتنامية.

إيران كلمة السر

تتقاطع السياستان السعودية والإسرائيلية في العداء لطهران، خشيةً من فرض سيطرتها على المنطقة، وتمثّل التقاطع في تعاون استخباراتي يتعلق بالأنشطة الإيرانية جعلتها تعزّز علاقتهما معًا، ولا يمكن قراءة أزمات المنطقة، وآخرها أزمة استقالة رئيس الحكومة اللبنانيّة، سعد الحريري، بعيدًا عن التنسيق السعودي الإسرائيلي بهدف تقزيم العدو المشترك لهما في لبنان، أي "حزب الله".

وهو ما أعلنه صراحةً عسكريّون سعوديّون في أحاديثهم إلى وسائل إعلام أميركيّة، وعبر دخول السعوديّة، رسميًا، في اتفاقيّة "كامب ديفيد"، بعد تنازل الرّئيس المصري، عبد الفتّاح السيسي، عن جزيرتي تيران وصنافير للسعوديّة، وما يعني ذلك من تحول مضيق تيران إلى ممر دولي يتم التنسيق فيه بين السعودية وإسرائيل علنًا، لأول مرّة، بالإضافة إلى مصر. وبهذا بدت السعودية أكثر ارتياحًا بعد أن دعم السيسي "صفقة القرن" وقد سهّل على السعودية التحرّك نحو خطوات فعلية للمباشرة بالصفقة وانجاحها وبدأ ذلك في محاصرة الفصائل الفلسطينية والتضييق عليها.

ولم يخفه كذلك، مسؤولون إسرائيليّون، فقد نقلت صحيفة 'ذا جيروزاليم بوست'، في حزيران/يونيو الماضي، عن المختص بالشأن السعودي في جامعة 'بار إيلان'، يوشع تايتلباوم، أن ولي العهد السعوديّ، محمد بن سلمان، هو "مهندس عددٍ من الخطوات التي تجعل السعوديّة وإسرائيل عند تفكيرٍ واحد"، وأضاف أنه يقصد "الجبهة المشتركة لكبح التأثير الإيراني في لبنان والعراق واليمن" وحول عمليّات "عاصفة الحزم" في اليمن، أوضح تايتلباوم أن "إسرائيل تدعم بشكل كبير العلميات السعوديّة في اليمن، لأن إسرائيل لا يمكنها تحمّل وجود قوات موالية لإيران في مضيق باب المندب، الذي يشكّل نهاية مسار السفن الإسرائيليّة المنطلقة من خليج إيلات، وهو أمر تتفقّ عليه إسرائيل والسعوديّة بشكل كبير"، على حدّ وصف الكاتب.

دور أميركيّ

يشكّل الرّئيس الأميركي دونالد ترامب نموذجا واضحا ومباشرا لتصفية القضية الفلسطينية، وها هو سعيه لمحاصرة السلطة الفلسطينية بات مكشوفًا، رغم تسليمها بالعملية السياسية ونهج التفاوض والإيمان المطلق بعملية السلام إلا أن ترامب لا يرى أي أهمية لذلك.

ولم يكتفِ رئيس الحكومة الإسرائيليّة، بنيامين نتنياهو، خلال زيارته الأخيرة إلى العاصمة الأميركيّة، واشنطن، ولقائه ترامب، بالاعتراض على الاتفاق النووي مع إيران، بل أبدى حماسه لتصفية القضية الفلسطينية عبر " صفقة القرن" التي تشترط بدورها تطبيع العلاقات العربية الإسرائيلية دون الالتفات أو حتى مجرّد التفكير في حسم الصراع الفلسطيني الإسرائيلي. والمفارقة هنا، هي أن هذا يتناقض كلياً مع "المبادرة العربية للسلام" التي بادرت إليها السعودية وشكّلت خطابها الرّسميّ على مدى سنوات عديدة اشترطت حينها حل القضية الفلسطينية قبل إقامة أي علاقة رسمية مع الاحتلال الإسرائيلي.

إعلان القدس عاصمةً لإسرائيل

تأتي خطوة ترامب هذه في سياق سياسي إقليمي ممزّق، وعربي ساعٍ للتطبيع ولتصفية القضيّة الفلسطينيّة، وفلسطيني منقسم على نفسه، كما ذكرنا سابقا، وبهذا يحاول ترامب تثبيت الرواية الصهيونية من خلال فرض شرعية الاحتلال.

وتأتي هذه الخطوة للنيل من القدس ومحاولة تفريغها من مكانتها الحضارية الثقافية والوطنيّة والدينيّة، وتستهدف القدس بشكل خاص، فأي محاولة لتفسير قرار ترامب بالاكتفاء بأن الأخير شعبويّ أو يعاني مشاكل نفسيّة، دون الإقرار أن هناك استهدافا للقدس بشكل خاصّ لا يعوّل عليه.

خطورة الأمر، سياسيًا، تكمن في محاولة ترامب باعتراف ملكية تاريخية إسرائيلية للقدس، تاريخيًا وسياسيا، قد تكون خطوة ترامب أبعد من القرار نفسه، وإلا كيف يمكن قراءة زيارة الوفد البحريني والتطبيع العلني في عزّ أزمة تصفية القضية الفلسطينية، وإجراء جنرالات إسرائيليين مقابلات في وسائل إعلام عربيّة، والتحضيرات الجارية لزيارة وفد إسرائيلي البحرين، الشهر المقبل.

بين الرسمي والشعبي

تعالت حناجر الشعب العربي على امتداد الوطن العربي رفضًا للمسّ بالقضية الفلسطينية والتي لطالما كان شعبنا العربي يقظاً ومدركاً له، بعكس الأنظمة العربية التي تتنافس بدورها على التطبيع مع الاحتلال، فإن كان موقف النظام الرّسمي العربيّ دوما هو الاعتياد على وجود إسرائيل في المنطقة والسعي للتطبيع معها واللجوء إلى المفاوضات معها هربًا من أي أزمة يقع بها أو سبيلا للخروج من عزلة دوليّة، فإن الشعوب عربيّة لطالما كان رفض التطبيع أو حتى الاعتراف بإسرائيل خيارها، ولا زالت ترّد خطابات مؤتمر الخرطوم الثلاثة: لا اعتراف، لا صلح ولا تفاوض، وشاهدنا أمام الشاشات، على الهواء مباشرة، كيف حاصر الشعب المصريّ فور سقوط نظام الرّئيس المخلوع، حسني مبارك، السفارة الأميركيّة في القاهرة باعتبارها جسمًا شاذًا لا يجب أن يُكرّم بفتح السفارات له ورفع أعلامه، وإن كانت قضيّة المصريين الأولى هي "القضيّة المصريّة" وقضيّة السوريين الأولى هي "القضيّة السوريّة"، وهكذا دواليك، فإن قضيّة العرب الأولى هي قضيّة فلسطين. هذا ليس إنشاءً، إنما حقائق ثبّتها الموقف الشعبي العربي في كل استحقاق تمر به القضيّة الفلسطينيّة.

أما فلسطينيًا، نقول إنّه لن تكون هناك فرصة تاريخية وسياسية أفضل من هذه لخلع ثوب المفاوضات المشؤومة، واستبدالها بصوت الشعب الفلسطيني قاطبةً من خلال رفض التسوية السياسية وإعادة تفعيل منظمة التحرير باعتبارها ممثلا شرعيا وحيدًا للشعب الفلسطيني وضم قوى سياسية جديدة فاعلة على الساحة تشمل حراكات شبابية ونسائية.

ويبقى المطلب الأهم في الفترة الحاليّة هو وقف التنسيق الأمني، الذي ساهم في تصفية القضية الفلسطينية وفقدانها هيبتها.

ويبقى القول الفصل الآن هو للموقف الرسمي الفلسطيني وأهمية "احتوائه للشارع الفلسطيني وترشيده" ولكن هذا لن يكون إلا بإدراكها أنها أمام محطة سياسية هامة لا يمكن الاستسهال بها وهذا لن يكون دون التنازل، بالمطلق، عن التنسيق الأمني، بالإضافة إلى العودة للمربّع الأول في إعادة تفعيل منظمة التحرير بضم قيادات شبابية تحاول معًا العودة إلى معنى المقاومة النضال الوحدوي الذي يتجاوز أوسلو والتنسيق الأمني.

وفي ظلِّ ما يمرُّ بهِ اليوم مجمل شعبنا الفلسطيني، علينا أن نقف بشجاعةٍ أمامَ المرآةِ وننظر متسائلين؛ من صنعَ أوسلو؟ هل نعلقُ هذه الهزائمَ على مشجبِ الاحتلال؟ أعتقد أنهُ من الواجبِ علينا كسرَ "البرواز" الذي وضعنا أنفسنا فيه؛ فأوسلو، للأسف، صناعة فلسطينية هذه صناديقنا التي صنعناها بأيدينا، ولا سبيلَ لنا بالخروجِ منها، إلا بالاعترافِ بذلك، وتقبلِ التجربةِ، وعقد مراجعةٍ لتكَ المرحلة، وهذا كلهُ من أجلِ تجاوزِ أوسلو والنهوض بوحدة الشعب وقيادات تاريخية وجديدة تعطي إجابات واضحة حول الأسئلة المعلقة في بناء المشروع الوطني الفلسطيني واستعادة مكانة الحركة الوطنية الفلسطينية التي تحمل مرجعيّة سياسية واحدة وموحدة.

عندها، رغم شعبويّته، يقف ترامب عاجزًا أمام صلابة الموقف الفلسطيني الرسمي ورغم تخاذل بعض الأنظمة العربيّة.

 

التعليقات