08/03/2018 - 12:10

التخطيط الهيكلي كأداة تحد ومقاومة مدنية

مازال هناك من ينظر إلى التخطيط الهيكلي كأداة لمنح رخص بناء. هذه النظرة صحيحة ولكنها لا تكفي. فالتخطيط الهيكلي هو فكر، ذهنية وسلوك يحدد الأهداف ويصيغ الآليات لتحقيقها. وعلينا تبني خطاب وذهنية وسلوك منهجية تخطيط متحدٍ ومقاوم لسياسات التخطيط

التخطيط الهيكلي كأداة تحد ومقاومة مدنية

ربما لا يمر يوم علينا إلا وذكر فيه النقص في المخططات الهيكلية لقرانا ومدننا العربية، أو أن هناك عملية هدم لمبنى أو تهديد بهدم مبنى سكني في إحدى البلدات العربية. والسؤال الذي يطرح ماذا وراء هذه الظاهرة التي يشار إليها بنقص في التخطيط الهيكلي لبلداتنا العربية. هذا النقص يُشكل سببا رئيسيا في نشوء ظاهرة البناء غير المرخص وهدم المباني العربية، وهو جزء من صراع ليس فقط على البيت بل على الطابع والحيز العام والموارد بين المواطنين العرب والدولة. تحاول هذه المقالة الموجزة إلقاء الضوء على واقع واتجاهات التخطيط الهيكلي لدى المواطنين العرب الفلسطينيين وإسقاطات هذا الواقع والاتجاهات على سلوك وتنمية المجتمع العربي داخل بلداته وفي الحيز العام. تدعي هذه المقالة بان تقليص النقص في التخطيط وما يرافقه من وقف عمليات الهدم وفرض الغرامات المالية يتطلب تغييرا جذريا في الخطاب والسلوك التخطيطي المؤسساتي وتطوير أدوات مواجهته من قبل المواطنين العرب، من خلال المشاركة التخطيطية المتحدية والمقاومة.

إطار عام

التخطيط هو إطار منظم مترجم لفكر وذهنية وسلوك، ننظم من خلاله رصد وصرف مواردنا من أجل تحقيق أهداف نجمع عليها أنها لصالح المجتمع حاليا ومستقبلا. أي أن التخطيط هو ليس عملية ميكانيكية، بل هو نتاج فكر، ذهنية، ثقافة وسلوك يتم ممارسته في الواقع من أجل التغلب على ندرة الموارد وتوفير استدامة هذه الموارد لمستقبل الأجيال اللاحقة. التخطيط هو كذلك عملية اجتماعية وسياسية تسعى إلى رصد وتوزيع الموارد بين مجموعات السكان في مواقعها المختلفة. توزيع الموارد متأثر بشكل مباشر من علاقة القوة داخل المجتمع ومنالية أفراده للموارد. وهذا يعني أن التخطيط متأثر بشكل مباشر من علاقة القوة عادة بين الأفراد والمجموعات. والذين يسيطرون على الموارد ويمتلكون القدرة والهيمنة يحظون بموارد أكثر من أولئك الذين لا يملكون. ومن خلال التخطيط يمكن ترشيد استخدام الموارد، إعادة توزيعها وخلق عدالة توزيعية ومحاصصة بين مجموعات وأفراد المجتمع؛ هذا الترشيد والعدالة يتم فيما لو كانت أيديولوجية وسياسات عامة تسعى لتحقيق العدالة المُجتمعية والحيزية. ولكن في واقع يوجد فيه علاقة صراع بين أغلبية مسيطرة وأقلية مسيطر عليها؛ وأن الأغلبية تسيطر على الموارد (القوة، الأرض، القرار السياسي، الحيز العام)، فإن منالية الأقلية لهذه الموارد تكون محدودة وتعاني من التخطيط (Forester , 1989). لا أريد أن أسهب في وضع الإطار النظري لهذه المقالة الموجزة، بل أود أن أضع ما أعرضه لاحقا في إطار يمكننا من فهم ما وراء خطاب وواقع النقص في المخططات الهيكلية داخل بلداتنا العربية ومعاناتنا من مسألة هدم المباني والغرامات الباهظة التي يدفعها أهلنا لمؤسسات التخطيط بادعاء تجاوزات تخطيطية.

لا شك أن التخطيط الهيكلي يمكن أن يقوم به الأفراد والمؤسسات؛ ولكن عادة فإن التخطيط الحيزي الذي يشمل المدن، القرى والمناطق تبادر إليه وتنجزه المؤسسات التخطيطية الحكومية والمحلية والتي تشمل السلطات المحلية. ودور المواطنين هو رد الفعل أو مواجهة هذا التخطيط. هذا الواقع يمكن أن نغيره إذا نظمنا أنفسنا كمجتمع مجند لتحقيق أهدافه كما سأحاول اقتراحه في نهاية المقالة.

لا بد أن نعي أن التخطيط في الأصل جاء لخدمة المجتمع؛ ولكن سوء إنجازه واستخدامه من قبل المؤسسة كأداة سيطرة وضبط، دون ملاءمته لحاجات ومتطلبات المجتمع تحوّل هذا التخطيط إلى نقمة مع أنه في الأصل يجب أن يكون نعمة. وتحويل هذا التخطيط من نقمة إلى نعمة يجب أن يتم من خلال تغيير توجه المجتمع للتخطيط، وتطوير أدوات منبثقة من مفاهيم، أعراف وقيم المجتمع ملبية احتياجاته الآنية والمستقبلية؛ بالمقابل، وقبل ذلك، رفض وتعديل استخدام التخطيط كأداة سيطرة وتمييز تمارسها المؤسسات الرسمية الحكومية المسيطرة عليها من قبل الأغلبية اليهودية. وتستخدم هذه المؤسسات التخطيط الحيزي لرصد موارد أكثر لليهود حتى على حساب العرب وتؤدي إلى معاناة العرب من التخطيط، لذلك لا بد للمواطنين العرب من مواجهة تحدي ومقاومة هذا التخطيط المُمَيِّز واستبداله بتخطيط عادل يوفر الموارد المناسبة والمنالية الحيزية والوظائفية للمواطنين العرب. والسؤال كيف نشأ هذا التخطيط المميز وما هي التحولات التي جرت داخل المجتمع مما أدت إلى معاناة المواطنين العرب من هذا التخطيط.

تطور التخطيط الهيكلي في البلدات العربية

تطورت نوى القرى والمدن العربية بشكل عضوي وبدون تخطيط رسمي موجه حتى بداية القرن العشرين. هذا التطور نشأ وشُكِّل بموجب الأعراف والنظم الاجتماعية التي سادت المجتمع، متأثرة من تقنيات البناء، البيئة وأدوات الاستهلاك والإنتاج به. مع دخول الانتداب البريطاني واحتلاله للبلاد، جلب معه نظم إدارية وتخطيطية تطورت في المجتمع الذي عبر الثورة الصناعية وفرضها على المجتمع العربي. بدأت عملية تخطيط المدن في البلاد عام 1921 بإعداد مخططات هيكلية رسمية لمدن مثل حيفا، القدس، الناصرة، بئر السبع، نابلس. وبعد عام 1936 بدأت عملية تخطيط إقليمية شملت إعداد مخططات هيكلية لبعض القرى الفلسطينية. وسعى التخطيط الانتدابي إلى وضع الأسس للتخطيط الهيكلي المقونن والذي استخدم من قبل السلطات الإسرائيلية بعد إقامة دولة إسرائيل، مع بعض التعديلات. لقد وضعت الأنظمة التخطيطية البريطانية وجوب استصدار رخصة بناء لكل مبنى يقام؛ وأن هذا البناء يجب أن يقام بالاعتماد على تعليمات مخططات هيكلية مصدقة للبلدة/المدينة/القرية وللمنطقة. ومن أجل فرض سيطرتها على التخطيط، فرضت تخطيط مركزي شمل تقسيم مؤسسات التخطيط إلى ثلاثة مستويات؛ القطري، اللوائي والمحلي. هذه المركزية في مؤسسات التخطيط وضعت السلطة التخطيطية وتوزيع الموارد التخطيطية بيد الحكومة المركزية. خاصة وأن هذا المبنى الهرمي التدرجي جاء مطبقا لمفهوم أن المصلحة العامة؛ أي مصلحة الدولة أفضل وغالبة على مصلحة الفرد المواطن.

لا شك أن هناك منطق وراء تغليب المصلحة العامة وتنظيم الحيز العام على المصلحة الخاصة والحيز الخاص. ولكن من الجدير بالذكر أن هذه المفاهيم والمنطق مقبولة في حالة طبيعية تتوفر فيها جدلية تآزر وتكامل بين المصلحة العامة والخاصة، وأن توفير المنفعة العامة وتنظيم الحيز العام جاء لخدمة الأفراد وتوفير الفرص للحيز الخاص. ولكن في حالة الصراع الذي دار منذ ثلاثينيات القرن العشرين وحتى اليوم بين الانتداب البريطاني والحركة الصهيونية من جهة وبين العرب الفلسطينيين أهل هذه البلاد من جهة أخرى، خلق تناقضا وصراعا بين الحيز العام والخاص. حيث أن الانتداب البريطاني والحركة الصهيونية ولاحقا دولة إسرائيل سيطرت على الحيز العام وعلى المصلحة والمنفعة العامة وجيِرتها لصالحها، بينما عاني العرب الفلسطينيون من الإقصاء المبرمج والممنهج لإدارة وامتلاك الحيز العام. حالة الصراع الذي نشأ بها التخطيط الهيكلي واستيراده وتطبيقه على البلدات العربية بموجب معايير ونظم مفروضة، وفي بعض الحالات مغايرة ومناقضة لأعرافه وسلوكياته المجتمعية، خلق حالة من العداء بين التخطيط وبين المجتمع والأفراد.

بعد النكبة وإقامة دولة إسرائيل عام 1948، وما رافقها من عملية طرد تهجير وهجيج معظم العرب الفلسطينيين، تحول المجتمع العربي الفلسطيني إلى أقلية ضعيفة مركزة في مناطق الأطراف مسيطر عليها من قبل السلطات الإسرائيلية بواسطة ذراع الحكم العسكري. معظم العرب الفلسطينيين الذين بقوا في وطنهم سكنوا القرى وكانوا يعيشون في مجتمع تقليدي محافظ. وصادرت السلطات الإسرائيلية، بواسطة أذرعها المختلفة، معظم أراضي العرب وأقصتهم من المشاركة في إدارة الحيز العام أو امتلاكهم له (جريس، 1967). بالمقابل سلك العرب الفلسطينيون تجاه هذه السياسات الإسرائيلية، التي سعت إلى الضبط والحصر الحيزي، نهج مدافع ومقاوم يسعى إلى صراع البقاء وحفظ الحيز الخاص ولمنع مصادرة الأرض وتفريغها من ساكنيها (كريتشمر, 2002). حالة الصراع، مقاومة سياسات وأدوات مصادرة الأرض ونقل وتركيز سكانها كما حدث لعدد كبير من السكان الذين يعرفون اليوم باسم العرب البدو في شمال وجنوب البلاد (فلاح, 1993)، طورت لدى المواطنين العرب الفلسطينيين مفاهيم وردود فعل تتلخص، بأن أي عمل تقوم به السلطات الإسرائيلية يتعلق بإدارة، تخطيط امتلاك الأرض، يقابله المواطنون العرب بشك وريبة وتخوف من هذا العمل. وثمة ما يبرر هذه المفاهيم وردود الفعل، خاصة وأن السلطات الإسرائيلية سعت إلى السيطرة على الموارد وخاصة الأرض بقوة القانون والسلطة والموارد المالية، وسخرتها في سبيل انجاز مشاريع الدولة التي جاءت لخدمة اليهود وعلى حساب العرب (بشير، 2004). حالة الريبة والشك والتخوف ما زالت سائدة لدى المواطنين العرب تجاه التخطيط الهيكلي القطري اللوائي والمحلي، مما ساهم في تطوير مفاهيم عداء للتخطيط المحلي والذي يحتاجه المواطنون العرب أنفسهم. وفي بعض الحالات يستخدم من البعض ككلمة حق أريد بها باطل لأجل حفظ المصلحة الشخصية على حساب المصلحة العامة داخل البلدة العربية.

خلال العقد الأول من إقامة دوله إسرائيل صيغت سياسات التخطيط تجاه المواطنين العرب والتي شملت الضبط المكاني الفردي والجماعي، التعلق التبعية والارتباط الاقتصادي والسيطرة السياسية الفردية والجماعية (ח'מאיסי, 1990; בוימל, 2007). هذه السياسات انطلقت من أيديولوجية تسعى إلى السيطرة على الحيز العام وامتلاكه من قبل الدولة والأغلبية اليهودية، وهما اللذان يقومان بصياغته وتصميمه متجاهلين الواقع والاحتياجات والموروث العربي الفلسطيني، بل مبدلين له ومحتلين مكانه. هذه الأيديولوجية تم تطبيقها بواسطة التخطيط الحيزي الذي سعى إلى تهويد الحيز، تقطيع التواصل الحيزي وحصره داخل البلدات العربية (ח'מאיסי, 2003 ). من أجل ذلك بادر الحكم العسكري إلى إعداد مخططات هيكلية للقرى العربية آنذاك سميت مخططات هيكليه ل-"تحديد مجال البناء"؛ أي تحديد وتحجيم المنطقة المسموح البناء بها (ח'מאיסי, 1990). هذه المخططات كانت أداة بيد سلطة الحكم العسكري ولاحقا سلطات التنظيم والبناء التابعة لوزارة الداخلية والعاملة بموجب قانون التنظيم والبناء لعام 1965 لمنح رخص بناء، بالمقابل حصر المناطق التي يمكن استصدار رخصة بناء فيها داخل منطقة جذر البلدة، وأبقت مبان وحتى قرى ومواقع عربية كثيرة خارج هذه المخططات؛ هذه المباني التي لم تشملها المخططات أطلقت عليها السلطات تسمية "مبان غير قانونية" والتي تشمل قرى بأكملها أصبحت تعرف حاليا باسم القرى غير المعترف بها خاصة في منطقة النقب. وأقامت الدولة لجان رسميه وحكومية لدراسة كيفية معالجة ظاهره أطلق عليها اسم "المباني غير القانونية"، مثل لجنة كوبرسكي 1972، لجنة جرايسي 1976، لجنة ماركوفيتس 1986؛ ولاحقا لجنة غازيت عام 2000؛ ولجنة غولدبرغ عام 2008. أي أن الدولة ومؤسسات التخطيط تخلق المشكلة من خلال تصديق تخطيط غير ملائم، يسعى إلى تحقيق أهداف وسياسات مغايرة ومناقضة لحاجة ومتطلبات المواطنين العرب، وبالمقابل تقوم باتهامهم، بأنهم مخالفون للقانون.

في موازاة إعداد هذه المخططات وتصديق تعديلات لها، ازداد عدد السكان العرب من حوالي 156 ألفا عام 1949 إلى حوالي 1,3 مليون نسمة حاليا. كما ازداد عدد السكان داخل هذه البلدات والتي تحولت من قرى صغيرة إلى بلدات كبيرة. فمثلا عدد سكان كفركنا كان 2900 نسمة عام 1949 ووصل إلى 20 ألف نسمة. كذلك حدثت تحولات اقتصادية، اجتماعية وثقافية وحيزية. كما حدثت تغيرات وتحولات في تقنيات البناء ووجوب توفير حيز عام داخل البلدة يلبي احتياجات السكان الذين يمرون في عملية تمدّن وتمدين سريعة داخل هذه البلدات. هذه التحولات لم يواكبها تعديل سريع في مضامين التخطيط الهيكلي المحلي، الإقليمي والقطري. وأدى هذا الواقع إلى نشوء عدم تجانس بين الواقع والتخطيط، ونشأ واقع ربما يوجد مخططات هيكلية مصدقة للبلدة، ولكن هذه المخططات تختلف عن الواقع، بل تضبط وتعيق تطوره وتوجيهه. ويمكن أن نوجز هذا الواقع بأنه ربما يوجد مخططات مصدقة، ولكن لا يوجد تخطيط مُطَوِر (خمايسي, 2004). واستمرت معظم البلدات العربية تنمو وتتطور ليس بموجب تخطيط بلدي عام موجه، بل بموجب خليط من الدوافع والعوامل التي شوهت المبنى الحيزي والوظائفي للبلدة العربية.

لقد أدت النكبة عام 1948 إلى نكبة المدينة العربية أيضا؛ وما بقي داخل الوطن ضمن حدود دولة إسرائيل مدن وقرى صغيرة. هذه المدن والقرى كبرت وتطورت معظمها بدون تخطيط مبرمج وموجه؛ بل صارعت من أجل البقاء ونمت بالرغم من السياسات الحكومية تجاهها التي نلخصها بالتجاهل، التمييز والإقصاء (Lustick (1980,. ولكن حاليا لا يمكن استمرار هذه السياسات ولا يمكن استمرار نفس طرق رد الفعل لها، وذلك لأننا تحولنا من حالة صراع على البقاء وحفظ الذات والحيز الخاص إلى حالة تتطلب البناء والتنمية، تطوير الذات ومواكبة العصر والاستعداد للمستقبل، واستخدام الحيز العام والاستفادة منه والمشاركة في صياغته. صحيح أن آثار وإسقاطات وتبعات النكبة والسياسات الحيزية الحكومية التي تبعتها كان وما زالت كبيرة وملحوظة على مجمل حياة المواطنين العرب، ولكن السؤال هل نستمر في التعامل مع هذه الأحداث كما تعاملنا في الماضي، أم يجب أخذ الدروس والعبر منها والانطلاقة إلى المستقبل غير متجاهلين لهذا الماضي الذي صمم وصاغ حيزنا وعلاقتنا مع الدولة، مؤسستها والأغلبية اليهودية بها؛ ولكننا يجب أن نلبي احتياجات الحاضر والاستعداد للمستقبل.

لا شك في أن التخطيط الهيكلي المصادق عليه للبلدات العربية لا يمكّننا من توفير احتياجاتنا ومتطلباتنا الحالية ويمكن أن يوجه تطويرنا للمستقبل مما هو نافع لنا متجاوزين ومتغلبين على المعوقات والحواجز الخارجية والتي تشمل شح وندرة تخصيص الموارد الحكومية؛ وفي شأننا موارد التخطيط إعادة توزيع الحيز، توفير فرص إدارة وصياغة واستخدام الحيز العام داخل البلدة وخارجها. أما المعوقات الداخلية تشمل ذهنية ماضوية وثقافة تقليدية حاجزة للنمو والتطور متخوفة من مواجهة الحاضر والاستعداد للمستقبل، بل تعتمد على اجتهادات مفادها أن الماضي لم يتغير ولا يمكن أن يتغير. وبذلك تصبح هي معيق ذاتي يسعى إلى إبقاء الإقصاء الذاتي محققا أهداف وسياسات حكومية تسعى إلى إقصاء العرب الفلسطينيين من امتلاك وإدارة الحيز العام بالمقابل مع توفير زيادة الفرص التنموية على المستوى البلدي والإقليمي والقطري.

الانتقال من رد الفعل التخطيطي إلى المبادرة التخطيطية

ما زال الخطاب والسلوك التخطيطي لدى معظم المواطنين العرب متهمٌ للمخططات الهيكلية المصدقة بأنها سبب رئيسي في حصر البناء العربي ونشوء ظاهرة البناء غير المرخص، زيادة عبء المخالفات والغرامات التي تدفع وتعاني منها كثير من الأسر العربية، بالإضافة إلى عدم تنظيم البلدة العربية وتوفير المرافق العامة والبنى التحتية والتي تشمل الطرق والمناطق الخضراء. إنني اتفق مع هذا الخطاب وكنت من المبادرين لصياغته، ليس من أجل صيانته وإبقائه؛ بل من أجل تغييره وتبديله. لقد صيغت منهجية تخطيط مدافعة (Davidhoff, 1973) , تجاه المخططات الهيكلية ومنهجية التخطيط التي مورست تجاه البلدات العربية. منهجية التخطيط المدافعة هذه جاءت كجزء من رد الفعل للتخطيط المعمول به وطالبت بتعديله وتغييره. جزء من منهجية التخطيط المدافعة على مصالح ومنافع المواطنين العرب في مدنهم وقراهم ومواقعهم جاءت من خلال المشاركة في مؤسسات التخطيط وإنجاز العملية التخطيطية، بالمقابل مع إعداد مخططات بديلة على المستوى القطري، الإقليمي والمحلي. هذه المخططات البديلة جاء كجزء من عملية الدفاع وتحدي التخطيط الرسمي لأجل تعديله وإعداد مخططات هيكلية أخرى تساهم في توفير الفرص لتنمية البلدات العربية واستجابة لمتطلباتهم واحتياجاتهم. لا يمكن أن ندعي بأن فترة مواجهة المخططات الهيكلية المعمول بها وتلك التي تمر بمراحل تصديق من قبل مؤسسات التخطيط بواسطة منهجية التخطيط المدافع قد انتهت، بل يجب أن تستمر من أجل إعداد مخططات هيكلية تلبي احتياجات المدن والقرى العربية وتوفر الشروط والفرص التنموية للمجتمع العربي بما في ذلك تغيير سياسات التخطيط المحلية والقطرية. ومع ذلك هناك حاجة إلى تطوير منهجية تخطيط متحدية ومقاومة لمنهجية التخطيط الرسمي الضابط ومع ذلك متحدية ومقاومة للمعوقات المحلية والداخلية داخل المجتمع. منهجية التخطيط المتحدي والمقاوم مدنيا تسعى إلى إعداد مخططات وتطوير ذهنية وسلوك تخطيطي داخل المجتمع العربي وخاصة داخل السلطة المحلية العربية. منهج تخطيطي معتمد على المبادرة ومواجهة الواقع والاستعداد للمستقبل، وليس معتمد على وصف الماضي بما يشمله من مآسي ومعوقات. منهجية تخطيط تسعى إلى ترشيد استخدام الموارد المحلية ولا تقف عند ذلك بل تطالب وتقوم بالمشاركة الفعالة ليس فقط بالمطالبة في إدارة الحيز العام، بل تُطور خطاب، مفهوم وإحساس وممارسة تدخل مفادها أن الحيز العام، حتى خارج منطقة البلدة العربية، وهو ملكها ولها دور وتقع عليها مسؤولية إدارته وإعداده لما هو في مصلحتها ومنفعتها.

لا شك أن العقود الستة التي مرت بها بلداتنا العربية ومحيطها الإقليمي والقطري رافقه سياسات حيزية جائرة حرمت العرب الفلسطينيين في البلدات العربية من ممارسة حقوقهم الشرعية، وخلقت معاناة وضائقة سكنية وتنموية وشوهت المشهد العام؛ ولكن السؤال ما هي الدروس والعبر المستفادة من ذلك وكيف يمكن تغيير هذه السياسات بواسطة تعديلها وبالمقابل إعداد المجتمع لكي يكون جاهزا ومستعدا لنهج سلوك تخطيطي مبادر ومتحدٍ ومقاوم لهذه السياسات ولذهنية اعتماد الذريعة والاتكالية والانتهازية.

إن الراصد للتحولات التي نشأت داخل المجتمع العربي بشكل عام وداخل البلدة العربية المدنية والقروية بشكل خاص، يشهد أن خطاب التباكي والتمنيات لا يكفي. ربما يمنح تبرير ومصداقية لدوافع ومسببات نشوء هذا الواقع والذي شمل إعداد مخططات ونهج منهجية تخطيط هيكلي ما زال يعاني منه معظم المواطنين العرب. ولكن السؤال المطروح هل التفتيش عن التبريرات والمصداقية لنشوء هذا الواقع تكفي. لا شك في أن جواب العاقل لهذا التساؤل هو بالنفي. والسؤال ماذا علينا أن نعمل لمواجهة وتحدي ومقاومة الخطاب والسلوك التخطيطي المؤسساتي، الذي خلق مبررات لسلوك ذاتي ومجتمعي محلي غير تخطيطي.

ومن أجل تغيير التخطيط الهيكلي الحالي لا بد من أخذ المسؤولية والمبادرة من خلال المشاركة الفعالة في مواجهة الواقع بواسطة مقاومة التخطيط الضابط واستبداله بتخطيط متحدي ومقاوم يلبي احتياجات البلدة العربية آخذا بعين الاعتبار المحيط الحضري المديني والقروي. هذا لا بتم من خلال التخطيط المدافع فقط، بل يتطلب تطوير مضامين أدوات آليات تخطيط تتناسب مع واقع احتياجات ومستقبل المواطنين العرب كجزء من الحيز العام القطري والعالمي. جزء من هذه المضامين والأدوات يمكن إنجازها بالممارسة التخطيطية داخل السلطة المحلية، التي يجب أن تتحول إلى جسم إداري مبادر ويدير التنمية والعملية التخطيطية داخل البلدة. بالموازاة مع ذلك لا بد من دور يأخذه المجتمع المدني والأهلي في التخطيط والتنمية المحلية، بواسطة خلق جو من التضامن والتكافل داخل المجتمع العربي، من أجل تحويله من أشلاء مجموعات مصلحيه إلى مجتمع لديه أهداف مرغوبة مبنية على رؤية مستقبلية لواقع البلدة وكجزء من مجتمع ووطن نسعى لبنائه وتطويره.

خلاصة

مازال هناك من ينظر إلى التخطيط الهيكلي كأداة لمنح رخص بناء. هذه النظرة صحيحة ولكنها لا تكفي. إذ أن التخطيط الهيكلي هو فكر، ذهنية وسلوك يحدد الأهداف ويصيغ الآليات لتحقيقها. ولا شك في أن الوهن الذي حل بنا والتحضر المشوه والتنمية المعاقة التي نعاني منها نتيجة لمسببات خارجية بالأساس تتطلب منا نحن صياغة إرادة تسعى إلى التغيير، وأن نتبنى خطاب وذهنية وسلوك منهجية تخطيط متحدٍ ومقاوم لسياسات التخطيط، أدواته وآليته وكذلك لسلوكنا اليومي نساهم به في إعداد مخططات وإدارة عملية تخطيط توجه مستقبلنا كمجتمع يسعى إلى الانتقال من الماضوية إلى الحضور والمشاركة الفعالة في تنمية الحيز الخاص والعام وامتلاكه وأن التخطيط الهيكلي يشكل أداة كجزء من أدوات أخرى يجب تغييرها.

 

التعليقات