وقفة مع "اللاساميّة الإسرائيليّة"

الاستخدام الصهيوني للاساميّة التي تُعرّف تاريخيًا كمظاهر من العنصريّة ضد اليهود واتّهام كل من ينتقد إسرائيل بها، يُحولّها بحسب المنطق الإسرائيلي هذا، إلى شكل من أشكال العنصريّة الجديدة بحق المؤيدين لنضال الشعب الفلسطيني الساعي للحريّة والعدالة والعودة.

وقفة مع

تحاول إسرائيل ولوبيّاتها حول العالم على مدار عقود، ربط منتقدي سياساتها الاستعماريّة في فلسطين مع تهمة اللاساميّة، بهدف لجم أي صوت معارض للاحتلال، إذ يُصبح كل من ينتقد ويفضح سياسات إسرائيل معادٍ للسامية بشكل "أتوماتيكي" بحسب المنطق الصهيوني. هذا الاستعمال السياسي للمحرقة ليس جديدًا لكنّه تحوّل إلى إستراتيجيّة في السياسة الإسرائيليّة الخارجيّة.

ما زاد من هذا الاستعمال السياسي الإسرائيلي في اتّهام المنتقدين وفاضحي سياسات الاحتلال الإجراميّة هو تصاعد حركة مقاطعة إسرائيل عالميًا. وباتت تهمة اللاسامية الحل الأبسط والأنجع بالنسبة لإسرائيل والملاذ الأخير في مواجهة حركة المقاطعة وداعميها والمستجيبين لها حول العالم، خصوصًا في أوروبا وشمال أميركا حيث حساسية هذا الموضوع تختلف عن أي مكان آخر، إذ تلعب إسرائيل دومًا دور الضحية وتسعى للابتزاز السياسي من خلال موضوع اللاسامية، مع أن شكل العنصريّة الأكثر انتشارًا في الغرب في أيامنا هو ليس العداء للسامية بل العداء للمسلمين.

لم تعد الإستراتيجيّة الإسرائيلية تقف عند حد الاتّهام الكلامي والإعلامي، بل امتدت نحو التغلغل لقوننة هذا الخطاب ومحاولة الحصول على اعتراف رسمي به من خلال الحكومات أو البرلمانات في دول عدّة أو ملاحقة شخصيّات ومؤسسات، بهدف تجريم المقاطعة التي تحاول إسرائيل من خلالها ربط فكرة مقاطعة إسرائيل الصهيونيّة مع العداء لليهود على أساس عنصري. هناك أمثلة عديدة على محاولات جرت في هذا السياق من خلال البرلمانات أو الحكومة، مثل سويسرا وإسبانيا وكندا، لكنّها فشلت ومنها ما ينجح مثل ما يحصل في فرنسا مؤخرًا وبعض الولايات الأميركية المختلفة.

التحالف السياسي على حساب التاريخ

ولعل الجدل الحاصل هذه الأيّام داخل إسرائيل جرّاء الإعلان المشترك بين رئيس الحكومة الإسرائيليّة، بنيامين نتنياهو، والرئيس البولندي أندريه دودا، حول القانون البولندي لتجريم متهمي بولندا بالمسؤولية عن قتل اليهود إبّان الحقبة النازيّة، واعتراض شرائح إسرائيليّة واسعة على البيان وخطوة نتنياهو، أكبر دليل على أن القيادة الإسرائيليّة لن تتوان في المتاجرة بالمحرقة واستعمالها خدمة لأجندات سياسيّة آنية.

هذا ما أثبته نتنياهو الذي فضّل قانون بولندا المعدل بشأن المحرقة، وما يحمله من مغالطات تاريخية بحسب مؤرخين إسرائيليين عدّة عن المحرقة وما تعرّض له اليهود في بولندا خلال تلك الحقبة التاريخيّة، كي يبني تحالفًا مع بولندا ضمن مساعيه لبناء تحالفات مع دول في وسط وشرق أوروبا، كانت تنتمي للمعسكر الشرقي الذي انهار في بداية تسعينيات القرن الماضي، وتحولت الأنظمة في هذه الدول إلى أنظمة يمينية – قومية.

يمضي نتنياهو في هذا التحالف رغم الهجوم الحاد الذي تعرّض له لدرجة أن هناك عدة مؤرخين وسياسيين وصفوه بالخائن بسبب الاتّفاق مع بولندا والتحالف مع قيادات من هذه الدول لها تفوهات وتاريخ متعلّقة باللاسامية ضد اليهود، سعيًا من نتنياهو محاصرة النقد الموجّه لإسرائيل في الاتحاد الأوروبي بسبب سياسات حكومته في الأراضي المحتلة، التي من الممكن أن تتخذ أشكالاً متقدمة مثل مقاطعة بضائع المستوطنات، مستغلًا التحديات التي يعيشها الاتحاد الأوروبي بتراجع وحدته بعد البريكست البريطاني وانتخاب الحكومة الإيطالية الجديدة المعارضة للاتخاد، وصعود قوى اليمين الجديد في عدّة دول أوروبيّة تسعى للخروج من الاتحاد بعد محنة اللجوء إلى أوروبا في السنوات الأخيرة.

لا مشكلة لليمين الأوروبي الذي يكن العداء تاريخيًا لكل ما هو ليس "أبيض" في التحالف مع "اليهود" ما داموا لا يعيشون على الأراضي الأوروبيّة، بل سيقف هذا اليمين إلى جانب الصهيونيّة التي تسعى لجلب اليهود من أوروبا وتوطنّهم في إسرائيل. ولا مشكلة لإسرائيل بالتحالف مع اليمين الأوروبي ما دام سيوفّر لها دعمًا ودفاعًا داخل الاتحاد الأوروبي. خصوصا أن قاسما مشتركا يجمعهما وهو العداء للعرب والمسلمين.

يهود ضد إسرائيل

لم تتخلص أوروبا نهائيًا من مظاهر العداء للسامية رغم كل القوانين والاجراءات التي اتخذت من أجل ذلك منذ الحرب العالميّة الثانية، وتسجل جرائم معادية للسامية بين فترة وأخرى، لكنها قليلة نسبيا وتلقى أعلى مستويات الشجب أو الملاحقة، كما تعمل العديد من المؤسسات والشخصيّات في مواجهة هذه الأحداث وترسيخ ذكرى المحرقة على أكثر من مستوى. لكن ما تسعى وتعمل من أجله إسرائيل هو ربط منتقديها مع اللاسامية (مع أن اللاساميين الحقيقيين مستعدون للتحالف مع إسرائيل)، مما يثر بلبلة في الرأي العام ويخلط الواقع لصالح إسرائيل وهو ما تريده إسرائيل بالضبط، على الرغم من رفض ذلك من قبل العديد من اليهود الذين يعيشون في أوروبا ولديهم هم أيضًا نقدًا شديدًا تجاه سياسات إسرائيل ومنهم من هو ناجٍ أو ابن لعائلة نجت من المحرقة كالمحامية الإسرائيليّة التي رحلت الشهر الماضي، فليتسيا لانغر، التي كانت في مقدمة من دافعوا وترافعوا عن الأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال.

هذا الخلط الجاري، دفع مجموعة من الشخصيّات البريطانيّة اليهوديّة من مثقفين وأكاديميين، إلى إصدار بيان الشهر الماضي دعوا فيه إلى تحديد تعريف واضح لللاساميّة، ووقّعت عليه 27 شخصيّة اعتبرت أن التعريف الواضح لللاساميّة هو الشرط المسبق لمحاربتها. وأكد الموقعون أيضًا أن انتقاد قوانين ووصف سياسات إسرائيل على أنها عنصرية وتعريفها تحت فئة الفصل العنصري ليست معاداة للسامية، كما أن الدعوة للمقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات ضد إسرائيل لمعارضة تلك السياسات ليست معاداة للساميّة.

في ألمانيا، بدأ العديد من الناشطين اليهود اليساريين اللاصهيونيين، الذين قرروا مغادرة إسرائيل والعيش في ألمانيا، بتنظيم أنفسهم تحت اسم "يهود ضد الفاشيّة" للتعبير عن تضامنهم مع الفلسطينيين والوقوف ضد الاحتلال الإسرائيلي وقضايا إنسانيّة متعلّقة بالحرية والعدالة والمساواة حول العالم، وأصبحوا يشاركون بالعديد من الفعاليات تحت هذا الاسم، ويدعون لمقاطعة إسرائيل من قلب البلد الذي يحمل الحساسيّة الأعلى تجاه موضوع اللاساميّة.

تدّعي هذه المجموعة، أن معاناتهم بالأساس هي مع اليسار الألماني المتحالف مع إسرائيل الذي يحاول شيطنتهم وإقصائهم من بيئة العمل والمجتمع بسبب آرائهم المنتقدة لإسرائيل. يأتي تأييد قطاع واسع من اليسار الألماني لإسرائيل من باب تضامنهم مع الشعب اليهودي ونتاج عقدة الذنب الألمانية من المحرقة. ولكن، هذا اليسار لا يفرّق بين معاداة الساميّة وبين معاداة الاحتلال الإسرائيلي، ويتبنى الخطاب الإسرائيلي ولا يرى الشخصيّات اليهوديّة اليساريّة مثل مارك إيدلمان، يوئيل تايتلباوم، حنة أرندت، أفراهام سفاري، ناعوم تشومسكي، أريك ميهازم، جوديث باتلر، إيما غولدمان وغيرهم كثير ممن كانوا وما زالوا معادين للصهيونية أو انتقدوها بشدّة.

تُهم جاهزة ولاسامية معاكسة

أمّا في الولايات المتحدة، فتهمة معاداة السامية جاهزة لكل من ينتقد إسرائيل خصوصًا السياسيين منهم، كما يجري هذه الأيّام بحق المرشّحة لعضويّة الكونغريس إلهان عمر، التي تخوض الانتخابات في ولاية منيسوتا سعيًا لخلافة النائب الديمقراطي كيث أليسون، الذي كان أول مسلم يُنتخب للكونغرس. وتتعرض عمر لهجوم في وسائل التواصل الاجتماعي والإعلام بسبب تغريدة لها على التويتر تعود لعام 2012 أثناء العدوان الإسرائيلي على غزّة، ووصفت فيه إسرائيل بأنها شريرة بسبب ما تقترفه، ليتم اتهامها باللاسامية.

لكن في الوقت ذاته، يبرز وجه آخر من نشاط يهودي ناقد لسياسات إسرائيل ورافض للصهيونيّة أو الانتقال للعيش في إسرائيل. يبرز هذا الصوت في السنوات الأخيرة من خلال حركة "يهود من أجل السلام" التي يغلب عليها الطابع الشبابي، والتي لها فروع عدة في الولايات المتحدة وجامعتها، كما لها تحالفات مع مجموعات فلسطينيّة وعربيّة ناشطة، وتُعبّر بشكل صريح عن تأييدها للحق في المقاطعة، إلى جانب شرائح من يهود أميركا الذين لا يتحمسون لممارسات إسرائيل التي تظهرها وكأنها المتحدّثة الحصرية باسم اليهود حول العالم، اعتقادًا وتخوفًا منهم أنه أمرٌ يُظهرهم كوكلاء لدولة أجنبيّة خارجية مما قد يؤدي لظهور ممارسات لاساميّة بحقّهم. مع ذلك، تستمر إسرائيل بالتصرّف على هذا النحو، وتسعى لاستجلاب اليهود في الولايات المتحدّة وتخصص لذلك برامج ومؤسسات، تحت مسميات مختلفة، تُنظّم زيارات ممولة من الولايات المتحدة لإسرائيل بهدف تعريفهم على البلاد. قبل أيّام، انتشر على وسائل التواصل الاجتماعي خلال إحدى هذه الزيارات، حيث انشق خمسة مشاركين يهود من الرحلة المنظّمة مع إحدى المؤسسات الإسرائيليّة احتجاجًا على برنامج الرحلة الذي يخفي سياسات وواقع الاحتلال الإسرائيلي، وقاموا بالانضمام لجولة مع منظمة "يكسرون الصمت" الإسرائيليّة المناهضة للاحتلال.

في جولته الشهر الماضي للولايات المتّحدة، عبّر رئيس المعارضة الإسرائيليّة ورئيس معسكر اليسار الصهيوني الذي انتخب حديثاً رئيساً للوكالة اليهودية، يتسحاق هرتسوغ، عن التحديّات الكبيرة التي تقف أمام دولة إسرائيل للتعامل مع اليهود في الولايات المتّحدة خصوصًا الجيل الشاب. وحذّر هرتسوغ "العلماني" خلال مقابلة معه مما أسماه بـ"الوباء" المنتشر بين الشباب اليهود الأميركيين، قاصدًا بذلك ظاهرة زواجهم من غير اليهود، واضعًا نُصب عينه كرئيس جديد للوكالة اليهودية بمحاربة هذه الظاهرة. ولو أن تصريحًا مماثلًا صدر عن شخصيّة سياسيّة غير يهوديّة، حذّرت من الزواج من اليهود، لقامت الدنيا حتّى تراجع واعتذر.

الاستخدام الصهيوني للاساميّة التي تُعرّف تاريخيًا كمظاهر من العنصريّة ضد اليهود واتّهام كل من ينتقد إسرائيل بها، يُحولّها بحسب المنطق الإسرائيلي هذا، إلى شكل من أشكال العنصريّة الجديدة بحق المؤيدين لنضال الشعب الفلسطيني الساعي للحريّة والعدالة والعودة.

التعليقات