07/09/2021 - 19:34

أنا لا أكذب ولكنّي أتجمّل

أنا لا أكذب ولكنّي أتجمّل

Spot.Ph

 

لا أحد يستطيع أن يجزم متى بدأ الكذب، هل بدأ منذ الخليقة؟ هل تطوّر مع تطوّر الحضارات؟ مَنْ هو الكاذب الأوّل في التاريخ؟ كيف بدأت الكذبة الأولى؟ كيف تعلّمها الناس وتناقلتها الأجيال لتصبح جزءًا من كينونتنا؟

معجم اللغة العربيّة عرّف الكذب: "كذَبَ الشخص، أخبر عن الشيء بخلاف ما هو عليه في الواقع، عكسه صدَقَ".

لغرض كتابة المقالة؛ نشرت منشورًا على حسابي في فيسبوك، وطلبت من الأصدقاء مرادفات عامّيّة لكلمة "كذّاب"، فجاءت الإجابات كثيرة جدًّا ما أثار استغرابي: "مخادع"، "هشّات"، "منافق"، أفّاق، "فنّاص"، "فشّار"، "حريقة"، "قصقوص"، "سَرْسَري"، "مْلَعَّب"، "طقّاع حكي"، "بلّيف"، "طخّيخ فشك"، "هروفي"، "خرّيط"، "عَوَنْطَجي"، "أبو خراطة"، "هجّاص"، "مهيلِمْ"، "نعّير"، "نفّيخة"، "عجّيق"، "مصّاق"، "كذوب"، "دجّال"، وغيرها من المرادفات؛ فهل هذه الكثرة دلالة على الكذب بات أمرًا شديد الشيوع إلى درجة أنّه يحتاج لكلّ هذه الألفاظ في محكيّتنا الفلسطينيّة؟

أبحاث عديدة أُجْرِيَت عن الكذب وأسبابه، منها القبول الاجتماعيّ، والهروب من العقاب، والتلاعب للحصول على الأهداف بسرعة، والخوف من حكم الآخرين علينا، وغيرها...

ثمّة مَنْ قسّم الكذب إلى أنواع؛ كالكذب الأبيض والكذب المرضيّ. أبحاث عديدة أُجْرِيَت عن الكذب وأسبابه، منها القبول الاجتماعيّ، والهروب من العقاب، والتلاعب للحصول على الأهداف بسرعة، والخوف من حكم الآخرين علينا، وغيرها. وثمّة كمّ هائل من النظريّات والطرق الّتي تُعَلِّمُنا كيف نكتشف الكاذب؛ مثل لغة الجسد، والصوت، ونظرات العينين، وغيرها. عام 1921، اخترع جون أوكستس لارسون جهازًا لقياس الكذب «البولغيراف»، يُسْتَعْمَل في التحقيقات الجنائيّة، أو لمقابلات عمل ومناصب في أماكن حسّاسة.

 

مختار معليا

في طفولتي لا أذكر تحديدًا في أيّ سنّ كنت، لكن كلّ ما أذكره أنّي كنت صغيرة، لربّما في الصفّ الأوّل أو الثاني، كذبت على أمّي كذبة بيضاء، لربّما كانت هذه هي المرّة الأولى الّتي أكذب فيها، ولأنّ كذبتي كانت ساذجة، طفوليّة؛ اكتشفتها أمّي على التوّ، وبّختني وحكت لي هذه الحكاية: "يُحْكى أن كان هناك مختار في قرية معليا، قبل أكثر من قرن، عرف هذا المختار بكذبه وسطوته وحبّه للمال والتملّك وبطشه وظلمه. كان الناس يتوجّهون إليه لحلّ مشاكلهم فكان يقايضهم مقابل حلّ المشكلة، يطلب رأس بقر أو ماعز أو بعضًا من محصولهم. كان يعد الناس بعد أن يستلم غنيمته بحلّ المشكلة، لكنّه كان يكذب عليهم باستمرار، ولا يفعل شيئًا إزاء الموضوع. وعندما كان أصحاب المشكلة يتوجّهون إليه لمراجعته، كان يكذب ويدّعي أنّ المشكلة عويصة جدًّا، وأنّه تحدّث مع الأتراك أو الإنجليز، وهناك تدخّلات عليا؛ حتّى يسأم صاحب المشكلة من مراجعته للمختار، ويرفع يديه.

جاء يوم ومات المختار موتًا طبيعيًّا، ودُفِنَ في مقابر القرية. العادة كانت وما زالت، أنّ النساء لا يشاركن في مراسيم الدفن، وأنّه في اليوم التالي، في الخامسة صباحًا، يذهبن إلى المقبرة لزيارة قبر الفقيد والبكاء عليه والصلوات لأجله. عندما وصلت النساء المقبرة، ورأين المشهد، قسم منهنّ بدأ في الصراخ، صراخ ذعر، قسم منهنّ هرب من المكان. القرية حينذاك كانت صغيرة جدًّا، والبيوت قريبة من بعضها بعضًا، سمع الرجال الصراخ الهستيريّ فهرعوا إلى المقبرة؛ ظنًّا منهم أن وقعت مصيبة جديدة. المفاجأة كانت أنّ قبر المختار الطريّ كان مليئًا بالبراز، أكوام هائلة من البراز، جاء الرجال الّذين ظُلِموا على يد المختار وأفرغوا ما في جوفهم على قبره؛ انتقامًا من نهجه ومن ظلمه وكذبه عليهم"!

حين روت أمّي لي هذه القصّة، روتها بذكاء لأتعلّم عبرة منها، أن ألّا أكذب؛ فالكذب مستهجن وهو خصلة مكروهة؛ لتكون درسًا لي في المستقبل. تعلّمت الدرس جيّدًا، لكن كما يبدو أنّ أمّي لا تعيش في واقعنا، واقع أصبح الكذب جزءًا لا يتجزّأ منه، أصبح الكذب حاجة، وأنّنا بدونه سنُنْبَذ، ولربّما لن ننجح في حياتنا، أو نعاني من الوحدة، أو نجرح الّذين حولنا. الكذب أصبح حاجة ماسّة لننجو من الحياة.

 

أكذب من مُسَيْلَمَة

الديانات جميعًا نهت عن الكذب، بل اعتبرته خطيئة؛ ففي الوصايا العشر في الإنجيل، "لا تكذب" هي إحداها، وفي القرآن الكريم ثمّة غير آية حرّمت الكذب. ببحث بسيط؛ وردت كلمة "كذب" ومشتقّاتها في القرآن الكريم 251 مرّة.

{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَىٰ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ ﴿68 العنكبوت﴾ وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ﴿25 فاطر﴾ إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ ﴿14 ص﴾}.

ادّعى مُسَيْلَمَة النبوّة في عهد الرسول، وكان يطوف الأسواق يحتال على الناس بالسحر والدجل وألعاب الخفّة، وكان له أتباع يؤمنون به؛ لذلك، عندما نريد أن نصف شخصًا بالكاذب ننعته بـ «مُسَيْلَمَة».

لعلّ من أبرز الشخصيّات التاريخيّة الّتي اشتهرت بالكذب «مُسَيْلَمَة»، وأصبح لقبه «الكذّاب». أمّا قصّته فيُحْكى أنّه وُلِدَ في اليمامة، واسمه مسلمة بن حبيب الحنفيّ، كان أصفر البشرة، أفطس الأنف، ومات وهو يبلغ من العمر 150 عامًا. ادّعى مُسَيْلَمَة النبوّة في عهد الرسول، وكان يطوف الأسواق يحتال على الناس بالسحر والدجل وألعاب الخفّة، وكان له أتباع يؤمنون به؛ لذلك، عندما نريد أن نصف شخصًا بالكاذب ننعته بـ «مُسَيْلَمَة».

ليس الدين وحده حرّم الكذب، حتّى في القصص ثمّة عقاب لمَنْ يكذب؛ فلماذا نكذب؟ ولماذا نحتفي بالكذب ونكرمه؟ بل أقمنا عيدًا للكذب وأسميناه «كذبة أوّل نيسان». يعتقد المؤرّخون أنّ أصل هذه المناسبة يعود إلى العصور الوسطى، إلّا أنّها انتشرت في بداية القرن التاسع عشر، وكانت بمنزلة عيد رسميّ.

 

في الأدب والسينما

الكذب تُنُووِل في جميع مجالات الحياة والفنون. مَنْ منّا لا يعرف الشخصيّة الأسطوريّة في طفولتنا، الّتي اشتهرت بالكذب، ودفعت ثمن كذبها؛ «بينوكيو» أو بالعربيّة «ماجد»، اللعبة الخشبيّة الّتي صنعها النجّار على شكل ولد؟ دبّت الحياة بالقطعة الخشبيّة، وأرسله والده إلى المدرسة، وأعطاه نقودًا ليشتري كتابًا. أضاعها لأنّه تعرّض للخديعة، وأوهموه بأنّه إذا زرع النقود في الأرض فستنبت شجرة، ويستطيع قطف النقود عنها. عندما كذب على والده طال أنفه، وعندما استمرّ بالكذب أكثر طال أنفه أكثر وأكثر، حتّى خرج من الشبّاك، وأصبح يؤلمه، وعندما بدأ بالاعتراف بالحقيقة عاد أنفه إلى طبيعته، بل كوفئ على ذلك؛ وأصبح ولدًا حقيقيًّا من دم ولحم.

سينمائيًّا، أذكر فيلمًا من بطولة الراحل أحمد زكي بعنوان «أنا لا أكذب ولكنّي أتجمّل»، يحكي قصّة شابّ جامعيّ طموح، جاء من بيئة فقيرة، وكان يسكن في المقابر مع والديه، ويساعد والده في دفن الأموات وحراسة المقبرة. تعرّف الشابّ على فتاة من الطبقة الغنيّة، أحبّته وقدّمته إلى والدها المستشار على أنّه زميلها في الجامعة. أُعْجِبَ الأب هو أيضًا بالشابّ الطموح المجتهد المثابر، لكنّه لم يخبر حبيبته ووالدها بوضعه الاجتماعيّ، وكذب عليهما بأصله وفصله، حتّى جاء يوم شارك أبو الفتاة في دفن زميل له، وشاهد الشابّ الأسمر (أحمد زكي) يحفر القبر، ويهيل التراب على الجثمان، وعندما واجهه بحقيقته، قال: "أنا لا أكذب ولكنّي أتجمّل".

السؤال الّذي يطرح نفسه: لو صارح البطل حبيبته ووالدها بحقيقته منذ البداية، هل كانا سيفتحان له باب البيت، ويستقبلانه بمثل تلك الحفاوة الّتي استقبلوه بها؟ هل كَذِبُ الشابّ على حبيبته ووالدها كان السبب في طرده من حياتهم؟ ما الحقيقة؟ أثمّة حقيقة واحدة، أم كلٌّ منّا يرى الحقيقة من وجهة نظره هو، ومن مخزونه العاطفيّ والنفسيّ؟

جاء يوم تمنّى فيه ابنه أمنية واحدة فقط؛ أن يكفّ والده عن الكذب ليوم واحد. فعلًا، تحقّقت المعجزة؛ لم يستطع الأب أن يكذب كذبة واحدة، تدمّرت حياته في ذلك اليوم...

فيلمان آخران أذكرهما خلال كتابة هذه السطور «الرجل الّذي اخترع الكذب»؛ فيلم أميركيّ يحكي عن بلدة صغيرة لا أحد يكذب فيها، جاء بطل الفيلم إلى البنك ليسحب نقودًا، لسوء حظّه أو حسنه، تعطّل جهاز الحاسوب، فسألته موظّفة البنك عن رصيده في البنك، كان يملك مبلغًا قليلًا جدًّا لا يتجاوز 200$، لكنّه كذب عليها وسحب مبلغًا كبيرًا، وهكذا بدأ يحصد نجاحًا تلو الآخر، دون أن يبذل أيّ عناء، حتّى اكتشف أنّ آخرين أيضًا تعلّموا فنّ الكذب.

فيلم آخر أيضًا أميركيّ تجاريّ عن أب مطلّق، من بطولة جيم كاري، يعد ابنه الصغير دون أن يفي بأيّ وعد، ويكذب عليه باستمرار، حتّى جاء يوم تمنّى فيه ابنه أمنية واحدة فقط؛ أن يكفّ والده عن الكذب ليوم واحد. فعلًا، تحقّقت المعجزة؛ لم يستطع الأب أن يكذب كذبة واحدة، تدمّرت حياته في ذلك اليوم، فبان تقصيره في عمله وتقاعسه، وتدمّرت علاقاته الاجتماعيّة ولا سيّما مع النساء؛ لأنّها كانت مبنيّة على الكذب والتملّق.

 

صناعة الجمال والتوكيدات

تطوّر الكذب على مرّ العصور، حتّى أنّه وصل إلى «صناعة الجمال»، ولم تقتصر فقط على المكياج، فعمليّات التجميل؛ من حقن الوجه بالبوتكس، وشدّ البشرة، ورسم الحاجبين، وتركيب الرموش، وشفط الدهون، وتكبير الثديين والمؤخّرة، وغيرها، ألا يُعَدّ ذلك كذبًا؟

ثمّة معترضون سيصرخون دفاعًا عن الحرّيّات الشخصيّة؛ هل فعلًا محاولتنا البائسة في أن نبدو أصغر سنًّا، وأن نغيّر ملامحنا وألوان عيوننا وشعرنا، تندرج تحت الحرّيّات الشخصيّة؟ أهي نوع من الكذب على أنفسنا وعلى الآخرين؟

في هذا السياق، لا بدّ من التطرّق إلى قمع النساء التاريخيّ، وتذويتنا نحن النساء للقمع، وتكريس الأفكار المسبقة عن الجمال ومعاييره، وإخفاء السنّ الحقيقيّة خوفًا من رفض الرجال لنا. المعايير وضعها الرجال وأصبحنا نحن عبيدها، والأنكى أنّنا نروّجها بادّعاء حبّ الذات، حبّ الذات الحقيقيّ يكمن في التقبّل للشكل والجسم والسنّ. ليس الـ 7 كيلوغرامات تقف في الطريق نحو السعادة، أو تجاعيد الوجه، وغيرها من آثار السنين. ألمّا يحن الوقت، نحن معشر النساء، بدل إدمان عمليّات التجميل الّتي جعلتنا نسخًا متكرّرة شبيهة بالأخرى، أو دمًى بلاستيكيّة، إلى أن نقف أمام المرآة ونقول «لا»؟

ثمّة معترضون سيصرخون دفاعًا عن الحرّيّات الشخصيّة؛ هل فعلًا محاولتنا البائسة في أن نبدو أصغر سنًّا، وأن نغيّر ملامحنا وألوان عيوننا وشعرنا، تندرج تحت الحرّيّات الشخصيّة؟ أهي نوع من الكذب على أنفسنا وعلى الآخرين؟

في هذا السياق، أذكر تقريرًا صحافيًّا، قرأته في أحد المواقع، عن رجل يابانيّ طلّق زوجته، وقدّم شكوى ضدّها في المحكمة بتهمة الكذب والخديعة. تزوّج هذا الرجل بفتاة فائقة الجمال، وأنجب منها طفلة دَميمَة، الرجل تفاجأ بأنّ ابنته ليست جميلة، ولا تشبهه، ولا تشبه زوجته. بعد ذلك بسنتين، أنجب طفلة أخرى، الطفلة الجديدة كانت هي الأخرى دَميمَة، ثار جنون الرجل، وشكّ في أنّ زوجته تخونه؛ ففحص أبوّته للبنات، وأكّد الفحص نسب البنات إليه. اعترفت زوجته أمامه بأنّها أجرت العديد من عمليّات التجميل، ولم تقتصر تلك العمليّات على الشدّ والنفخ والشفط، بل تغيير شكل الوجه تمامًا والفكّين والحنك. عندما شاهد صورها قبل عمليّات التجميل، توجّه الزوج الّذي شعر بالخديعة إلى المحكمة، ومن الغرابة أنّ المحكمة حكمت على الزوجة بدفع مبلغ طائل؛ تعويضًا للزوج!

الطامّة الكبرى لا تكمن فقط في الكذب على الآخرين بل على النفس، «بِكْذِبِ الْكِذْبِة وبصدّقها»، اليوم أغلب مدارس التنمية البشريّة تحثّ الإنسان على الكذب على نفسه، وهذا الأخير أُطْلِقَ عليه لقب «توكيدات»، تسمية أخرى للكذب تنادي: "قف أمام المرآة، وقل أنا جميل، أنا أحبّ نفسي". وغيرها من العبارات الجميلة الرنّانة؛ بادّعاء أنّه بهذه الطريقة تستطيع إعادة برمجة عقلك الباطنيّ.

في نهاية المطاف، كلّنا كذبنا مرّة أو مرّات لأسباب عديدة ومختلفة. بعضنا اعتاد على الكذب، فاتّخذه نهج حياة، لكنّنا لم نحترف الكذب، ولم نَعُد نعرف معنى الصدق المطلق؛ فسقطنا سهوًا في عالم لم نَعُدْ نجيد قوانينه، وفي الكثير من الأحيان نكون ضحاياه.

لربّما الوحيدون الّذين لا يعرفون الكذب هم الأطفال حتّى سنّ الثالثة، والمصابون بإعاقة عقليّة أو مسّ جنون، هم الوحيدون الّذين يقولون الحقيقة، دون أن يدفعوا ثمنًا!

 

 


سها عراف

 

 

كاتبة ومخرجة وصحافيّة فلسطينيّة. كتبت سيناريو وأخرجت عددًا من الأفلام، من ضمنها "نساء حماس" و"فيلا توما"، وقد حصلت على عدّة جوائز عربيّة وعالميّة، أبرزها جائزة أفضل مخرجة امرأة في "مهرجان المرأة الدوليّ للسينما والتلفزيون - لوس أنجلوس" لعام 2014.

 

 

التعليقات