29/04/2022 - 00:42

عن حظر الجهر بالإفطار في رمضان

عن حظر الجهر بالإفطار في رمضان

رمضان في القاهرة | أ ف ب

 

ثمّة اتّجاه عامّ في غير بلد عربيّ لحظر الجهر بالإفطار في رمضان في المجال العامّ. تتكرّر الشكاوى ويتجدّد الجدل حول الموضوع كلّ عام، ومن ذلك ما أثارته مؤخّرًا واقعة امتناع مطعم شعبيّ شهير في القاهرة عن تقديم الطعام لسيّدة قبطيّة وطفلتها، قبل موعد الإفطار من نقاش واسع، لم يَخْلُ من اللغط، ومن أخْذ وردّ حول الموضوع.

ترتكز آليّات حظر المجاهرة بالإفطار في رمضان في كثير من الدول العربيّة على حيثيّات قانونيّة أو عرفيّة، أو على تقاطع الاثنين؛ ففي بعض الدول العربيّة، مثل الأردنّ، والمغرب، والكويت، والإمارات، وقطر، والبحرين، وبعض مناطق الصومال، يُعاقَب المجاهر بالإفطار بالتغريم و/ أو السجن[1]. وفي بعض الدول الأخرى، مثل الجزائر وتونس ومصر واليمن، لا توجد نصوص صريحة تُجَرِّم الجهر بالإفطار في رمضان، لكن يُصْدِر بعض هذه الدول قرارات إداريّة بغلق محالّ بيع الموادّ الغذائيّة في نهار رمضان، وتتّخذ دول أخرى بعض الإجراءات القانونيّة ضدّ المجاهرين بالإفطار؛ استنادًا إلى موادّ قانونيّة قائمة بالفعل، مثل ’ارتكاب فعل فاضح في الطريق العامّ’، أو ’الإخلال بالآداب العامّة‘[2].

 

سرديّة متهافتة

في سياق الحديث عن حظر المجاهرة بالإفطار في رمضان، يُقال، مثلًا، إنّ أحد أسباب المنع الجوهريّة أنّ الإفطار العلنيّ فعل يجرح ويمثّل اعتداء على مشاعر الصائمات والصائمين، وأنّ "علّة تجريمه هي درء الأذى"[3]، وتلك حجج واهية لغير سبب[4]، من أهمّها أنّه إن كانت حكمة الصوم أساسًا لتدريب النفس على الصبر، وضبط شهواتها، فإنّ الصائم المنكر لحقّ غيره في الإفطار العلنيّ يبدو إنسانًا هشًّا، يبتغي صومًا سهلًا، مريحًا، لا ينازع فيه شهواته، ولا يجاهد نفسه ويهذّبها من خلاله، بل يريد أن يعينه الجميع على الصوم، وألّا ’يفسده‘ عليه أحد.

وعوضًا عن أن يكون الصوم تجربة شخصيّة، روحانيّة، يصير الصوم وفق هذا التوجّه ممارسة مرتهنة بمحدّدات واشتراطات ومثيرات خارجيّة...

وعوضًا عن أن يكون الصوم تجربة شخصيّة، روحانيّة، يصير الصوم وفق هذا التوجّه ممارسة مرتهنة بمحدّدات واشتراطات ومثيرات خارجيّة، وبدل أن يدرّب الإنسان نفسه، ويختبرها، ويكتشف مكامن قوّتها وضعفها عن طريق الصوم، ينشغل بمنع الآخرين والأخريات من اتّخاذ خيار مختلف، كأنّ الصوم لا يصحّ إلّا أن يكون ممارسة جماعيّة، تعاونيّة، ولا يستقيم إلّا بامتثال الجميع لنفس الشروط. ومن المثير للتأمّل أنّ هذا التوجّه بالنظر إلى الذات باستمرار في مرآة الآخر، ينطوي على الاضطلاع بما هو أصعب وأكثر إشكالًا، وهو الرقابة والضبط والتحكّم في الآخر، بدلًا من الانهمام بالذات والانشغال بشؤونها.

 

مفارقات

فوق ذلك، يبدو أنّ قاعدة احترام مشاعر الآخر ليست بالضرورة ممارسة منهجيّة تنطبق على الأحوال المماثلة كافّة؛ فإذا مددنا الخطّ على استقامته، وأعملنا هذا المبدأ لأقصاه، يصبح السؤال التالي ضروريًّا: هل تُراعى أيضًا مشاعر أصحاب الأديان الأخرى في فترات صومهم؟ وهل نادى الفريق المناهض للإفطار الجهريّ يومًا بعدم الإسراف في استهلاك الطعام والشراب، في المجال العامّ أمام الفقراء والمحتاجين؛ حرصًا على مشاعرهم؟ أليس العوز والاحتياج، وهما أمران يطول أمدهما، ويُغْلَب الناس على أمرهم فيهما، أسباب أقوى وأدعى إلى جرح المشاعر، ومن ثَمّ، وفقًا للمنطق ذاته، أولى بالنظر والمراعاة من الامتناع الطوعيّ والتعبّديّ والمؤقّت عن الطعام والشراب في رمضان؟

يبدو الحديث عن الأذى ها هنا، إذن، حديثًا انتقائيًّا، ويبدو المنع متأصّلًا في رغبة في التحكّم والسيادة على الآخر في الحيّز العامّ. ربّما ينبع هذا النزوع لمساءلة، وضبط ممارسات الآخر؛ ممّا يمكن أن نسمّيه ’استحقاق الأغلبيّة‘؛ أي الرغبة في أن يرضخ الجميع لما تمليه الأغلبيّة العدديّة من شروط، ولما تتمثّله من أحوال. ومن الجدير بالذكر في هذا المقام أنّ بعض الدول العربيّة لا تقصر تجريم الإفطار العلنيّ في نهار رمضان على المسلمين وحدهم، إنّما تفرض هذا التجريم على الجميع، بما في ذلك المنتمين لديانات الأخرى.

كما تتبدّى إشكاليّة توجّه مراعاة مشاعر الصائمات والصائمين من منظور مقارن؛ إذ يمكن النظر إلى هذا التدخّل في خصوصيّة الآخر وشؤونه، بمقارنته بالنكوص عن ردّ الفعل عند تعنيف زوج لزوجته، على سبيل المثال، أو تحرّش رجل بامرأة، في الحيّز العامّ؛ إذ غالبًا ما يُنْظَر إلى هذا الاعتداء الجسديّ والنفسيّ على أنّه شأن خاصّ، لا دخل للنظّار به، وهي مفارقة فجّة لأنّ الإفطار العلنيّ في رمضان لا يتعدّى كونه ممارسة للحقّ في الاعتقاد، وفي حرّيّة الفعل دون المساس بالآخرين أو الاعتداء عليهم، أو التسبّب في أيّ أذًى لهم، بينما في حالة شهادة واقعة عنف علنيّة، حتّى إن كان ثمّة صلة قرابة بين المعتدي والضحيّة، فإنّ تلك ممارسة بيّنة للعنف وللأذى تستدعي التدخّل لمَنْ استطاع/ ت أو الاستنكار والإدانة على أقلّ تقدير.

قد تبدو هذه المقارنة بعيدة الصلة، لكنّها تثير أسئلة واقعيّة حول انتقائيّة مفهوم الأذى والتعدّي على مشاعر الآخرين، لدى الفريق المؤيّد لحظر المجاهرة بالإفطار في رمضان، فبينما يشيح النظّار بأبصارهم عادةً عن العنف اللفظيّ والجسديّ الّذي تتعرّض له النساء في المجال العامّ، بل قد يهوّنون منه، ويطالبون بـ ’الستر‘ على المعتدين، فإنّهم يتشبّثون بترصّد مَنْ يفطرون علانية في رمضان وملاحقتهم، ويؤيّدون حظر الفعل وتجريمه.

ثمّة خلل هنا في تعريف مفاهيم الأذى والاعتداء على الغير، وفي تقدير توابعهما وما يترتّب عليهما، وفي ترتيب أولويّات النظر في قضايا الاجتماع البشريّ المشترك وتصنيفها.

 

التغطية والتخفّي

يتقاطع منطق حظر المجاهرة بالإفطار في رمضان مع النظرة السائدة إلى حجاب المرأة، وإلى كونه في الأصل، طبقًا لما يسود من سرديّات، يهدف إلى درء الفتنة، ومساعدة الرجال على التعفّف. لا عجب في أنّه ثمّة مقاربة رجعيّة سائدة تشبّه المرأة بالحلوى، وغيرها من صنوف الطعام، وتشبّه حجاب المرأة بالغطاء الّذي يحمي الطعام ويصونه، وفي الحالتين ثمّة افتراض بأنّ المرأة كالطعام، ’تُشْتَهى‘ أكثر، وتبعث على ’الفتنة‘ كلّما زال عنها الحجاب/ الغطاء.

ثمّة خلل هنا في تعريف مفاهيم الأذى والاعتداء على الغير، وفي تقدير توابعهما وما يترتّب عليهما، وفي ترتيب أولويّات النظر في قضايا الاجتماع البشريّ المشترك وتصنيفها.

 

ثمّة مماثَلة أخرى تنحدر من السرديّة ذاتها، وتقوم على افتراض أنّ النساء غير المحجّبات في رمضان يُفْسِدن صوم الرجال. وتلك سرديّة تُسْتَدْعى أيضًا كلّ عام، وتثير جدالات إلى جانب جدالات المجاهرة بالإفطار، وكلّها تصوّرات متهافتة تجعل الإيمان محلّه المظهر، لا الجوهر، والتقوى مبعثها أفعال الآخر وسلوكه، لا الإرادة الشخصيّة، والإرادة الشخصيّة مرتهنة بالغير، لا بالنفس، وكلّها سرديّات تحيل إلى إيمان قشريّ، وشكلانيّ، وهشّ، ومتداعٍ، وتجعل من النساء ومن الآخر المختلف موضوعًا للتحديق وللتتبّع والضبط والقمع، ولإسقاط مسؤوليّة الأفعال والممارسات الذاتيّة عليهنّ أو عليهم، وتتضمّن تصوّرًا معيبًا تتمثّل فيه الأفعال الإنسانيّة ضمن إطار سلوكيّ، آليّ، يرتكز على المثير والاستجابة، ولا يرتكز على الإمكانات غير المحدودة للعقل الإنسانيّ، وعلى ما يستطيعه الإنسان من التفكير والاستدلال والتمييز، ومن القدرة على اتّخاذ خيارات أخلاقيّة واعية.

 

الاجتماع الإنسانيّ

من المؤسف أنّ الجهر بالإفطار في رمضان لم يزل موضوعًا للنقاش والجدال، رغم تهافت مسوّغاته، ورغم كثرة القضايا الأولى بالنظر وبالانشغال الفكريّ والاجتماعيّ، ورغم بداهة استحقاق الجميع لحرّيّة المعتقد، وحرّيّة الممارسة أو الامتناع عن ممارسة الشعائر الدينيّة. لكنّ التغيّر المنشود لن يكون ممكنًا، إلّا بتحقّق شروط الاجتماع الإنسانيّ الّذي يراعي مبادئ الحرّيّة والحقّ في المجال العامّ، ويقوم على أسس المواطنة والحقوق المدنيّة، وحماية الحرّيّات وكفالتها، بدلًا ممّا نشهد من أنماط من الاجتماع القسريّ، المنافق، القامع للاختلاف والتعدّديّة.  

 


 

[1] أحمد ولد جدو، «الإفطار العلنيّ في الدول العربيّة: مَنْ يبيحه ومَنْ يجرّمه»، رصيف 22، 20/8/2016، شوهد في 16/4/2022، في: https://bit.ly/3EH2pZf

[2] المرجع نفسه.

[3] «عقوبة المجاهرة بالإفطار في نهار رمضان... مصر تصنّفها ’فعل فاضح‘ وعقوبتها الحبس 3 أيّام وغرامة 100 جنيه... وخبير: مجرّمة في 20 دولة عربيّة»، برلمانيّ، 01/04/2022، شوهد في 16/04/2022، في: https://bit.ly/3Ot5KQn

[4] في معرض الحديث حول الموضوع، على سبيل المثال، عبّرت بعض الآراء على مواقع التواصل الاجتماعيّ عن ضعف حجّة الأذى هذه لأنّه، ببساطة، لا مفرّ من أن يتعامل الناس مع الطعام والشراب في نهار رمضان إن كان بالشراء، أو بإعداد الطعام، أو بغيرهما من طرق. 

 


 

أميرة عكارة

 

 

 

باحثة، مهتمّة بسؤال اللغة وعلومها، وبدراسات التحليل النقديّ للخطاب، وبقضايا ودراسات الجندر والجنسانيّة. تكتب في عدّة مجلّات ومواقع عربيّة.

 

 

التعليقات