23/01/2018 - 23:29

في طويلة البوكر: فصل من رواية "الحاجّة كريستينا"

في طويلة البوكر: فصل من رواية

للفنّان تيسير البطنيجي

"الحاجّة كريستينا"، رواية للكاتب والأكاديميّ عاطف أبو سيف، وصلت إلى القائمة الطويلة للجائزة العالميّة للرواية العربيّة "البوكر"، لعام 2018، ضمن 16 رواية ينتمي مؤلّفوها لـ 11 جنسيّة عربيّة، أعلنت عنها إدارة الجائزة الأسبوع الماضي.

صدرت الرواية عن الأهليّة للنشر والتوزيع في الأردنّ، وتقع في 312 صفحة من القطع المتوسّط، لوحة غلافها للفنّان تيسير البطنيجي.

جاء في موقع الجائزة حول مضمون الرواية: "خلال العدوان الإسرائيليّ على قطاع غزّة عام 2009، تختفي الحاجّة كريستينا بعد أن تأتي سيّارة دوليّة تأخذها وتبتعد خارج المخيّم. يثير اختفاء كريستينا الكثير من الأسئلة وتحاول الرواية أن تجيب عليها. وكريستينا في الأساس هي "فضّة"، الفتاة اليافاويّة التي يضطّرها المرض إلى ترك يافا والسفر إلى لندن قبل عام من النكبة، بصحبة صديق والدها الصحافيّ الإنجليزيّ. وحين تحلّ النكبة وتتعذّر عودتها إلى فلسطين المنكوبة ومدينتها الضائعة، يغيّر الصحافيّ الإنجليزيّ اسمها ويسجّلها ابنةً له. لكن بعد وفاته، وحين تصبح كريستينا في سنتها الأولى في الجامعة، تقرّر أخواته التخلّص من الفتاة العربيّة، فيرسلنها إلى غزّة للبحث عن عائلتها".

تنشر فُسْحَة – ثقافيّة فلسطينيّة فصلًا من الرواية بإذن من صاحبها.

....................

انتشر الخبر بسرعة البرق.

مَنْ يصدّق أنّ شبحًا ضخمًا يظهر في البحر ويختفي، يلتهم الأفق المظلم، تضرب يده الماء ببطء، جاهدةً تحاول أن تنجو من الموج، ينثر رعبًا وقلقًا يأكلان وجوه المارّين جوار الشاطئ. ينتشر الخبر في كلّ غزّة، من بيت لبيت، ومن هاتف لهاتف، ومن شارع لشارع، وعبر الإذاعات وقنوات التلفزة المحلّيّة، وعلى مواقع التواصل الاجتماعيّ، وفي طنين الرسائل النصّيّة التي تصل دفعة واحدة إلى كلّ الهواتف المحمولة في قطاع غزّة. وما إن يدرك الناس الأمر، حتّى تصيبهم مشاعر متناقضة من الخوف والقلق والدهشة وحبّ الاستطلاع.

ترتفع وسط العتمة، تنغرس في كبد السماء، تبعثر النجوم وتطيح بها يمينًا ويسارًا، ثمّ تهوي بيأس فوق خدّ البحر، تصفعه بقوّة وغضب، فينتشر الرذاذ صاعدًا نحو السماء، ثمّ يهبط مثل بقايا مصابيح مهشّمة.

الناس تتدافع على شاطئ البحر، يتناقلون آخر ما سمعوه، أو آخر ما وصلهم من أخبار الغريق الباحث عن النجاة عبثًا. آلاف المواطنين يتجمهرون قرب تخوم الموج، يحملون معهم كشّافات كهربائيّة، وبعضهم مصابيح كيروسين، وبعض آخر يحمل شموعًا يتخاتل ضوؤها من نسيم البحر. رجال الشرطة يدفعون بهم بعيدًا عن الماء. الصحافيّون يتسابقون لالتقاط صورة واضحة للشبح الذي يظنّ بعضهم أنّه سيلتهم غزّة عمّا قليل، ويظنّ بعض آخر أنّه روح حبسها البحر وحال دون وصولها لغزّة، ويقول طرف ثالث: إنّه عذاب من الله لابتعاد خلقه عن الدين.

الطرّاد الإسرائيليّ يطلق النار في الماء محاولًا اكتشاف الأمر. تختفي اليد في بحر الضوء الذي أحدثه كشّاف الطرّاد البحريّ، ثمّ تعاود الظهور مرّة أخرى بكدّ وعناد. صوت مروحيّة عسكريّة تقترب فوق المكان، تعلو وتهبط في السماء، كأنّ يد الشبح تلاحقها. ثمّ تلحق بالمروحيّة ثلاث طائرات أخرى، فيحاصر هدير محركاتهنّ صخب الموج.

باستثناء شاطئ البحر، فإنّ غزّة ظلّت تغرق في العتمة، حيث بدا الضوء الكثيف على الشاطئ مثل خطّ أبيض لامع على طرف لوحة سوداء. التباين الصارخ بين العتمة والنور، بين الخوف والدهشة، بين تذّكر الماضي والعجز عن تبّصر المستقبل، بين الإمساك بالحلم والسعادة الفارّة من أرواح الناس، بين السير البطيء نحو الموت والهرولة في دهاليز الحياة، ما الذي يمكن أن يحدث أكثر من ذلك!

تظنّ أنّ غزّة كلّها خرجت عن بكرة أبيها إلى البحر تستكشف الأمر. الشرطيّ يتوسّل عبر هاتفه المسؤول أن يأتي بنفسه ليستطلع الحدث. المذيعة في إحدى الإذاعات المحلّيّة تقول بغنج مشوب بقلق لمراسل الإذاعة إنّها ستلحق به بعد أن تترك المستمعين مع بعض الأغاني الحماسيّة. الأطفال يندفعون ركضًا نحو الشاطئ غير آبهين لتوسّلات أمّهاتهم اللواتي سرعان ما سيلحقن بأبنائهنّ تاركات المنازل لنسائم الليل تداعب الستائر، وتحنو على أصص النعناع المرصوصة فوق العلّيّات.

مثل عواء يلهث بشراهة خلف فريسة تسابق الريح، يلتهم الخوف وجوه الواقفين، وهم عاجزون عن تفسير ما يحدث. ألسنتهم فشلت في العثور على الكلمات المناسبة، شفاههم تتدلّى من هول الصدمة، عيونهم تقفز يمينًا ويسارًا لا تمسك بتفاصيل المشهد، أرجلهم تصطكّ من الخوف المجبول بقليل من البرد، أيديهم تشير بتردّد إلى جوف البحر حيث رذاذ الموج ينتشر بعنف نحو السماء، ثمّ ترتفع يد الشبح مرّة أخرى وتهوي، كأنّها تهرب من رصاص الطرّاد الحربيّ والطائرات المروحيّة. وكلّما عاد الشبح للظهور في كبد الأفق، يهربون بعيدًا عن الشاطئ، يظنّونه سيركض نحوهم عمّا قليل.

صخب الموج، همهمة الناس وهمسهم، صراخ رجال الشرطة عبر مكبّرات الصوت، فحيح الطرّادات البحريّة، أزيز الرصاص بين فينة وفينة أخرى، هدير المروحيّات، ترانيم وابتهالات الشيخ القلقة من جامع البحر، زعيق سيّارة الإسعاف، الصمت المهيب الذي يرين بين وقت وآخر، الظلام المدقع الذي يسبح في أوصال الناس، دبيب الخوف في أرواحهم، ثقل وقع أقدام المجهول، صوت ارتطام الموت حين ينزل على الشاطئ ببلادة ونزق. كلّ ذلك صورة غامضة عن لحظات لم يَخْبرها الناس من قبل، رغم ما مرّوا بها من مآس، وما ذاقوا من ويلات وآلام، وألِفوا من حروب ونكبات.

غزّة تجلس على الحافّة الجنوبيّة الشرقيّة للبحر. ترتمي، على شاطئه، شريطًا رفيعًا من البنايات والقليل من الحقول، تلهث من التعب والأرق، فَزِعَةً وهي تترقّب الشبح مهول الحجم وهو يحاول أن يصل إلى الشاطئ، لا تعرف ما الذي سيفعله في أوّل ثانية له على الرمل. في كلّ مرّة يرفع يده نحو السماء، يدبّ الرعب في قلبها، وينتفض جسدها، وتميد الأرض تحت مبانيها، وتظنّها ستسقط عمّا قليل إذ هوت عليها يد الشبح مثل مطرقة القدر.

يمكن لغريب أن يظنّ أنّ الأمر مجرد مشهد رعب جديد في فيلم يُعرض في آخر الليل، أو مجرّد إشاعة يميل فيها الناس لتضخيم حدث بدا لهم غير مألوف، لكن المؤكّد رغم ذلك أنّ خروج كلّ سكّان غزّة إلى شاطئ البحر يبحلقون في عتمة جوفه، وهلع الناس وهم يتناقلون الخبر، والإرباك الذي يسري في كلّ كلمة تقال في غزة أو عنها، كلّه يشير إلى أنّ الأمر أكثر من مجرّد خزعبلة جديدة أو هلوسة أخرى أو خبر عاجل في مدينة تُخبز الأخبار العاجلة في فرن حياتها الضخم.

وقبل أن تبدأ تباشير الفجر، ويفترق خيطه الأبيض عن الأسود، اختفى الشبح. لم يعد ما يدلّ عليه إلّا خوف الناس وهلعهم وهم متسمّرون ينتظرون خروجه مرّة أخرى. وقبل أن تبدأ الشمس بالنهوض بخفّة من خلف البنايات والحقول المقابلة للشاطئ حتّى فرغ الشاطئ، كأنّ شيئًا لم يكن.

تناقل الناس تفاصيل الخبر في الصباح. غزّة كلّها تتحدّث عن الغريق الذي يظهر شبحه في البحر. الأطفال في طريقهم إلى المدارس، سائقو سيّارات الأجرة مع الركّاب، أصحاب البسطات والمحلّات في الأسواق، النسوة يجلسن على عتبات البيوت، موزّعو الغاز، الباعة الجوّالة. البعض يظنّ أنّ كابوسًا كبيرًا غزا عقولهم واندمغ في ذاكرتهم ليلًا. كأنّهم جميعًا حلموا نفس الحلم، عاشوا في نومهم نفس الكابوس. لم يحدث شيء. كأنّ الأمر لم يكن أكثر من مجرّد حلم مزعج. في الصباح كان الشاطئ هادئًا، رماله ناعسة، لم يبدُ عليها أيّ أثر لخطواتهم المتزاحمة فوقه، لا يوجد ما يدلّ على وجودهم الكثيف ليلة أمس.

وما إن يحلّ الليل، حتّى تشخص عيونهم نحو الغرب حيث يرقد البحر، منتظرين أن يخرج الشبح من جوفه. وفيما عيونهم تحاول أن تقتنع أنّ الشبح لم يعد موجودًا، وأنّ ما شاع يوم أمس لم يكن أكثر من كابوس مزعج عاشوه، حتّى تصعد يد الشبح تخترق البحر صاعدة نحو السماء، فتتساقط النجوم، وتهوي الكواكب، وتسقط قلوبهم بين أرجلهم، وينهش الخوف والقلق تضاريس وجوههم.

عاد الشبح مرّة أخرى، لم يختف. فقط في النهار، وحين ينشغلون بأعمالهم وينهمكون في حياتهم، يرتاح قليلًا، ثمّ يعاود محاولاته اليائسة، ولكن الحثيثة، للوصول إلى الشاطئ. يختفي الشبح في الصباح ثمّ يعود للظهور بعد المغيب، وبعد أن يكمل الليل لفّ غزّة بسدوله حالكة السواد. لكنّه وحين يختفي في الصباح لا يختفي من حياة الناس، بل يظلّ يهيمن على نقاشاتهم وأحاديثهم، وخوفهم المتبادل، وعثراتهم وخيباتهم المتكرّرة في البحث عن الهدوء، ولو مؤقّتًا.

نشرات الأخبار تتناقل قصّة "شبح" غزّة، ويبرع المراسلون في نسج الحكايات حول الشبح وحقيقته، مستعينين بمحلّلين وخبراء ونفسانيّين وشيوخ ومشعوذين. كلّ إجابة تبدو مقنعة وقتها، وما إن ينتهي المتحدّث ويشكره المذيع، حتّى يعود اللايقين ينهش أجساد المستمعين والمشاهدين. وحيث لم تتوقّف مآذن المساجد عن إطلاق التسابيح ونشرها في السماء، ولم تتوقّف الكنائس عن قرع أجراسها، ولم تتوقّف برامج قنوات الراديو والتلفزة المحلّيّة عن بثّ البرامج التي تحاول الإمساك بالأمر، ولم تتوقّف القيادة السياسيّة عن الاجتماع من أجل البحث عن حلّ للغز الشبح، الذي قال بعضهم إنّ وجوده بات يشكّل تهديدًا لمستقبل البلاد، ولم يتوقّف الناس عن التدافع من أجل الوصول إلى نقطة واضحة يمكن من خلالها رؤية الشبح كاملًا، فإنّ ليل غزّة بات مثل نهارها، وصمتها مثل صخبها، وظلّ الاستقرار المنشود نعمة لم تفلح بالإمساك بها.

كلّ نهار سيركب الصيّادون لنشاتهم ويعبرون البحر يبحثون عن الشبح، أو ربّما يحاولون إخراج الغريق من معدة البحر. يدفعون اللنشات فوق الماء بهمّة وخفّة، ثمّ يبدأ الخوف يسيطر على حركة أيديهم وأرجلهم وهم يشّغلون محرّكاتها حتّى تنطلق في البحر. عيونهم تبحث تحت الماء. لا يجدون شيئًا غير ارتباك نظراتهم، وبعض ظلال أفواج السردين تهرب من الضوضاء.

أيضًا في النهار تقف مجموعة من الرجال بلحاهم الطويلة في دائرة على الشاطئ، يرتّلون أدعية وتسابيح ويهلّلون، ثمّ يتمتمون، ثمّ تشخص أعينهم نحو البحر حيث مرقد الشبح، ثمّ ترتفع نحو السماء تناجي الله. أحدهم يملأ يده رملًا، يقرأ فوق الرمل بعض الأدعية، يتثاءب ثمّ ينثر الرمل فوق الماء، فيهيج الموج، فيعلو التكبير. يواصل الرجال تعاويذهم، محاولين إخراج الأرواح من البحر، كما يقول مراسل إحدى الفضائيّات المحلّيّة.

وأيضًا يجلس مسؤول الشرطة حائرًا مع ضبّاطه، متحلّقين حول طاولة بلاستيكيّة وضعوها في مقرّ الشرطة البحريّة. يفرك ذقنه الطويلة بيده، حائرًا لا يعرف كيف يجيب على أسئلة المستوى السياسيّ. تدخل مجموعة من المسلّحين يشاركون الشرطة جلستهم. يبدأ الحديث عن العدوّ الذي يتربّص بغزّة ويريد بها شرًّا. يزداد قلق مسؤول الشرطة وهو يطالب عناصره بمحاولة حفظ النظام أكثر في الليل؛ حتّى لا يستغلّ بعض العابثين الوضع ويقوموا بتحريض الناس على الحكومة.

ظلّت قصّة شبح غزّة تشغل بال الناس بضعة أسابيع، تلهم الصحافة بعناوين برّاقة وجذّابة. الشبح يختفي في النهار ويظهر في الليل. والناس لا تملّ انتظاره، ولا يجهز عليها قلقها المكبوت.

الشبح ظهر، الشبح اختفى. اختفى، ظهر، ظهر، اختفى. بات الأمر مثل لعبة الغميّضة التي يلهو بها الأطفال في أزقّة المخيّم. وهكذا دواليك حتّى أمسى جزءًا من حياة الناس وتفصيلًا آخر من تفاصيل يومهم.

مع تعرّض غزّة لعدوان شهر تمّوز من العام 2014 نسي الناس أمر الشبح، إذ صارت الحياة والنجاة من الموت همّهما الوحيدين في حرب ضروس استمرّت واحدًا وخمسين يومًا، أكلت الأخضر واليابس. قتلت الحرب من قتلت، وأخذت معها ما أخذت من بيوت ومبان وشوارع ومنشآت وأرواح، وتركت خلفها ما تركت من ألم ورعب وحزن ودموع، وخطوات غير مكتملة، وأحلام ناقصة، وأجساد مبتورة.

الحياة في غزّة تجعل هذا التراكم الكبير من الألم مباحًا للتأقلم وللتكيّف، وتُعمل فيه مبضع جرّاح النسيان الماهر. لكن عميقًا يظلّ طعمه الخفيف لا يختفي، كأنّه روح لا تذهب. مثل كلّ شيء آخر في غزّة، باتت قصّة الشبح شيئًا من الماضي، وطبقةً أخرى من طبقات الأسى والذكريات التي تتراكم في دفاتر الحياة. صار على الناس أن يعيشوا أيّامهم الجديدة ويتكيّفوا مع ما خلّفته الحرب من ألم وفقد جديدين.

في الحقيقة، لم تغب قصّة الشبح عن بال الناس، ولم تختف من دفتر حكاياتهم، ولا هم نسوها. لكنّ للحياة حِكمًا، غير مرغوبة ربّما، لكن ليس لنا أن نتجاهلها. ظلّ شبح غزّة أحد الأشياء الكثيرة الغامضة التي يموج بها المكان، وأحد علامات الاستفهام التي لم تنجح في أن تجد إجابتها اللائقة.

ذهب الشبح كما تذهب أشياء كثيرة، لكنّه مكث كما تمكث أشياء كثيرة في السطور الباهتة لكلّ حكاية، وفي الظلال المائيّة لكلّ لوحة، وفي التقاسيم غير الظاهرة على الوجه.

 

عاطف أبو سيف

 

وُلد في مخيّم جباليا بغزّة لعائلة هُجّرت من مدينة يافا. حاصل على الدكتوراه في العلوم السياسيّة والاجتماعيّة من جامعة فلورنسا، إيطاليا. يعمل أستاذًا للعلوم السياسيّة في جامعة الأزهر بغزّة، ويرأس تحرير مجلّة "سياسات" الصادرة عن معهد السياسات العامة برام الله. له مؤلّفات في الرواية، والقصّة القصيرة، واليوميّات، والبحوث في العلوم السياسيّة، وهو يكتب مقالًا أسبوعيًّا في "الأيّام" الفلسطينيّة.

التعليقات