أكـــــشـــــــــن.../ وليد أيوب

-

 أكـــــشـــــــــن.../ وليد أيوب

بات شتاء بلادنا، كما شتاء المنطقة، كما ربيعها وصيفها وخريفها، غير مستقر لا يمكن معرفة “بطنه من ظهره”. فقد تمرّ أيام صيفية في كانون الأول/يناير فيما تمطر ونضطر إلى حمل “الشماسي” في عزّ آب. حتى أن “مطربا” ذكيا هو وائل كفوري تنبّأ بأن من المعقول أن “تشتي في آب” بل أن “تثلج عالدنيي كلها”!!..

والشتاء ستار نخبئ وراءه نزعاتنا الغريزية وتوقنا إلى تحرير تراكمات من الضغوطات النفسية التي يسبّبها شعورنا بالغبن وبالتمييز، إذ نرى إلى بلداتنا تتأخر وراء ركب الحضارة مسافة ألف سنة ضوئية إذا ما أجرينا مقارنة بين وضعها إزاء البلدات اليهودية الحديثة أو المستحدثة، والتي لا تبعد عن مناطق “نفوذنا” سوى أمتار قليلة، بل إنها بنيت على قسائم أرض صودرت من محمد وأحمد ومحمود وعمر وأعطيت هكذا بدون مقابل إلى ضيوف حلّوا علينا قادمين جددا لا يعرفون آباءهم ولا أصولهم، وكل ما يعرفونه أنهم آتون إلى بلاد السمن والعسل للإستيطان فيها وقلع العرب منها وترحيلهم في ترانسفير جماعي إلى ما وراء الحدود.

فكيف تنطلق غرائزنا إذ ينقطع المطر؟ وكيف نستقبل شهر أبريل /نيسان بعد كذبتنا الصغيرة في أوله؟.. وكيف يصير حال هذه التجمعات السكانية التي نسميها بلدات وما هي كذلك، ونسميها مدنا وهي لا تعرف التمدن ولم تسمع بالمدنية، بل إن شوارعها ما زالت بدون أسماء وبدون أرقام؟..

ففي نيسان، بعد الكذبة، يصير ممكنا فتح شبابيك السيارة، ويصير فتح شبابيك البيت ضرورة لتهوئته ولكي تطلع منه روائح ورطوبة القبر، فينشر الفراش وينظف الزجاج وتنفض السجاجيد وتلفّ واحدة فواحدة وتركن في زوايا البيت حتى الشتاء القادم.

وفي نيسان، وإزاء شبابيك السيارات المفتوحة بالكامل، يعلو ضجيج يصمّ الأذان ويطغى على صوت الباعة المتجولين وعلى صوت ميكروفون المجلس المحلي وعلى صوت أجراس المدارس والكنائس وعلى نداءات الصلاة من المساجد.

وفي نيسان، بعد الكذبة، تطيب “القعدات” في الحدائق نهارا وفي ساحة البيت أمام مدخله ليلا.. فنحن في النهار عاطلون، في الغالب، وليس لنا ما نعمله سوى أن نسجّل حضورنا مرة في الأسبوع في مكتب العمل – أو مرة في الشهر في حالات أخرى - وهو إجراء لا يستغرق أكثر من نصف ساعة، حيث يتبقى لنا كل الأسبوع، ناقص النصف ساعة، لـ “الصياعة” وتمرير الوقت أو قتل السأم. وفي هذه المناسبة، سمعت أحدهم يؤكّد ويقسم بأغلظ الأيمان أنّ طوشة تحدث في البلد تجعل يومه سعيدا، بل يكون يومه أسعد كلما كبرت الطوشة من حيث الوقت ومن حيث النتائج، إذ عندها يصير في البلد “أكشن” وتصير هناك مادة للتباحث فيها!.. بل إن هذا الـ “أحدهم” قال إن “الطوشة عندي أحسن من عرس”.

هكذا يصير حالنا في نيسان مباشرة بعد الكذبة. وقد أسرد عليكم، في هذا السياق، ما حصل لي الأسبوع الفائت، بعد الكذبة..

أعيش مع زوجتي وبناتي الثلاث في بيت مستأجر في منطقة خلت أنها هادئة في إحدى البلدات الجليلية. وبناتي الثلاث هن سلمى التي ستطوي أعواما ثلاثة في الثالث عشر من أيار القادم، والتوأمان سما وشهد اللتان طوتا عامهما الأول قبل أقل من ثلاثة شهور، وبالتحديد يوم الرابع عشر من كانون الثاني.

ولقد مرّ علينا شتاء هادئ، نسبيا، حتى لكأننا نعيش وحدنا في المنطقة فلا شيء يزعج أو يقلق.

لكننا، الأسبوع الفائت، وبعد الكذبة مباشرة، وجدنا أنه قد زجّ بنا إلى سوق أو إلى ملعب كرة قدم أو إلى حديقة لحيوانات جائعة نسي القائمون على العناية بها أن يطعموا نزلاءها.

فقد قرّر جارنا، الذي يبعد عنا مسافة ثلاثة أمتار بحسب القانون، أن يحيي، على الأمتار الثلاثة التي بيننا بحسب القانون، ليلة صاخبة من الشرب والغناء وطق الحنك. وقد بدأت السهرة بضجيج ما فتئ يتصاعد حتى بلغ إلى “جعير” حاول هؤلاء أن يجعلوه غناء.. وتعالت الأصوات المنكرة مع ارتفاع منسوب المنكر، ودخلت إلى بيتنا غير مستأذنة كأنما هي فرض إلهي منزل من السماء.

كان يجب أن تروا إلى شهد التي غلبها النعاس فنامت كيف تجفل وكيف تصرخ، وكان يجب أن تروا إلى سما التي ما إن تغمض عينيها حتى تنتفض رعبا إذ ينطلق جعير أحد الحمير، وكان يجب أن تروا إلى سلمى، التي اعتقدناها تفهم – لأنها الكبيرة – كيف تصرخ وكيف تستجير وكيف تختبئ في حضن أمها.

قلت، في مرحلة بلوغ السيل الزبى، إنه قد حان الوقت، وقد أشار عقرب الساعة إلى الثانية عشرة ودقيقة، لكي أنبّه الجار وأطلب إليه أن يراعي وضع البنات. وخرجت إلى المحتفلين، وتوجهت إليهم بكلمات غصبت نفسي على أن تكون رقيقة وأن تبدو كذلك.. قلت لهم، “ألله يبسطكو وتدوم أفراحكو.. بس لو تعملوا معروف تخففوا شوية، في بنات زغار مش قادرات ينامو”.. ضحك المساطيل ومنهم من انقلب على ظهره، وأشار لي جاري بيده، بطريقة مهدّدة لا تؤول بغير ذلك، دون أن ينطق بكلمة، أن أعود ادراجي إلى بيتي، وأن “أنضبّ”، فهذا أحسن لي..

وعدت ادراجي لأني لم أرغب في أن اكون محرّكا للـ “أكشن”، ولأنني أردت لسلمى وسما وشهد أن يعشن تحت كنف والد سليم بدون إعاقة..

دامت الأفراح في ديارنا ودياركم زاهرة.




التعليقات