"العرب والمحرقة النازية"../ د. عبد الله البياري

-

قراءات:
الكتاب: العرب والمحرقة النازية: حرب المرويات العربية - الإسرائيلية
المؤلف: د. جلبير الأشقر
الناشر: دار «أكت سود» الفرنسية، وصدرت حديثاً ترجمتها العربية عن المركز القومي للترجمة بالقاهرة بالتعاون مع دار الساقي – بيروت.
الكاتب: هو جلبير الأشقر الباحث اللبناني، والبروفيسور في معهد الدراسات الشرقية والأفريقية، في جامعة لندن، والذي غادر لبنان سنة 1983، إلى أوروبا، حيث عمل أستاذا في جامعة باريس الثامنة، ومن ثم باحثا في مركز مارك بلوك في برلين. له العديد من المؤلفات و البحوث التي ترجمت إلى أكثر من 15 لغة. منهم كتاب "السلطان الخطير" بالتعاون مع الكاتب الأمريكي اليهودي نعوم تشومسكي، وكذلك أيضا الكتاب معرض التقديم بين أيدينا، و الذي صدر أولا بالفرنسية، ومن ثم ترجم إلى الإنجليزية ومنها إلى العربية عن طريق المركز القومي للترجمة في القاهرة بالتعاون مع دار الساقي البيروتية، ويقع الكتاب في 560 صفحة من القطع الكبير.
 
وقد قدّم للكتاب كل من:
(رشيد خالدي، أستاذ كرسي إدوارد سعيد في الدراسات العربية المعاصرة في جامعة كولومبيا، نيويورك) بقوله:
"يجمع جلبير الأشقر بين فهم المؤرّخ العميق لآلية الخطاب السياسي العربي والمقاربة الرهيفة للجوانب الصادمة في كلّ منحى من مناحي هذا الموضوع دراسةٌ رصينة".
 
(هنري لورنس، بروفسور كرسي التاريخ العربي المعاصر في الكوليج دي فرانس، باريس) قائلا:
"قراءة هذا الكتاب، بحجمه كما بجودته العلمية، إنما تقدّم عزاءً عظيماً في زمن نرى فيه أناساً، يزعمون أنهم مثقفون أو جامعيون، يستسلمون للهذيان عند إثارة موضوع كهذا".
***************
 
يتوزع الكتاب على فصلين وصفيين لزمنين اثنين:
"زمن المحرقة"، حيث يتقصى فيه المؤلف اليساري التوجه، ردات الفعل العربية على النازية ومعاداة السامية خلال الفترة مابين عامي 1933 و 1947.
و"زمن النكبة"، و الذي يجري فيه تقديم المواقف العربية من اليهود ومن المحرقة ومن الكيان الصهيوني الوليد، منذ 1948 إلى الآن.
 
هناك حالة من السأم المعرفي تنتاب القارئ العربي لدى سماعه بكتاب يتناول المحرقة النازية، ويعزى ذلك إلى الإفتراض المبدئي لدى العقلية العربية، أن مجرد تناول تلك القضية، إنما يصب في النهاية إلى مأسسة الجانب الإسرائيلي من الرواية وشرعنته، مهما ادعت تلك السردية أو المقاربة الموضوعية والحياد، ولو أداتيا بعنوان يفترض الندية أو المقابلة كما هو عنوان الكتاب بين أيدينا.
 
 قبل الدخول في متن الكتاب بفصليه، لا بد لنا أن نتوقف كما أراد الكاتب، أمام تصديره لكتابه بفصل بعنوان درامي: "كلمات مثقلة بالألم"، والذي يستهله الكاتب بالسؤال عن "الاسم الذي يجب أن يعطى لجائحة باقية إلى الأبد، هي من حيث الأخلاق الإنسانيةغير قابلة للتسمية"، لا بد ان يستفز فينا كضحايا مقابلين أولا وكبشر ثانيا، ذلك "العجز عن التسمية" شيئا، ألا يعني ذلك إفرادها دون غيرها من تمثلات المحن الإنسانية، وما يؤسس له ذلك الإفراد من جعلها سقفا أو معيارا أو مقياسا للمعاناة الإنسانية.
 
وهو بالضبط ما أراده "صناع المحرقة" بحسب تعبير نورمن فنكلستين*1 في كتابه "صناعة المحرقة"، وهو أيضا أساس تحويل الهولوكوست إلى الهولوكاش بتعبير د. عبد الوهاب المسيري*2، وهو أيضا ما أشار "أبراهام بورغ"*3، عندما شرط على الدولة الإسرائيلية لكي تصل لـ"الإسرائيلية المشتهاة أو النظيفة" أن تتحرر من الصهيونية في نموذجها الهرتزلي، تلك الصهيونية التي تشكل المحرقة أساس تبريراتها للاستحواذ بدور الضحية والجلاد في آن بلا استفظاع، بجعل بقية المآسي الإنسانية أدنى مرتبة من تلك اليهودية، وهي نفس المحنة التي أشار لها آبا إيبان*4 وزير الخارجية الأسبق قائلا: "إن المحرقة حاضرة في حياتنا أكثر من الله".
 
يتناول الكاتب في الفصل الأول من كتابه، كيف أن معاداة السامية أنتجت الحركة الصهيونية (؟؟؟)*5، حيث عملت الحركة الصهيونية على الاستفادة والتوظيف الأمثل لترحيل يهود ألمانيا، طمعا في "ألمانيا طاهرة من اليهود"*6 بما يتلاءم مع أهدافها، وهي بحسب وجهة نظر بن غوريون وفلسفة الكارثة المفيدة، التي ينسبها إليه المؤرخ شبتاي تيفيت، وينقل عنه توم سيغف (الذي يراه الأشقر صاحب أفضل كتاب عن موقف الإسرائيلين من المحرقة) قوله في 1939:
"لو كنت أعرف أنه يمكن إنقاذ الأطفال اليهود جميعهم في ألمانيا بنقلهم إلى إنجلترا، بينما لا يمكن إلا نصفهم بنقلهم إلى فلسطين، لإخترت الخيار الثاني، لأننا لا نواجه حساب هؤلاء الأطفال فقط، بل الحساب التاريخي للشعب اليهودي أيضا"، وهو ما يثبت إمكانية الحل الأوروبي والأمريكي.
 
"العرب غير موجودين" هكذا يقول جلبير الأشقر في هذا الفصل من كتابه، فهم "غير موجودين كذات سياسية وأيديولوجية متجانسة"، لذا فالكاتب يعود في هذا الفصل ليستعرض بشيء من التشريح الزمني مواقف التيارات الأيديولوجية العربية كالماركسية والليبرالية التغريبية والقومية والإسلامية، مركزا على حقيقة أن رفض النازية والمحرقة تم من دون المساس برفض الصهيونية، اللهم إلا بعض التيارات التي انحسر ذلك الرفض لا عن سبب موضوعي إنما عن آخر لوجيستي – إن صح التعبير- كالماركسية التي تأثرت بموقف الاتحاد السوفياتي لدى توقيعه الاتفاقية الألمانية عام 1941 وموافقته على قرار التقسيم عام 1947.
 
لذا فقد جاء سعي جلبير الاشقر لتفصيل تلك المواقف وتبايناتها باعتبارها جزءا من المروية العربية في تلك الحقبة الزمنية، إنما هو محاولة لمعالجة الصور النمطية التي تحيط بهذا الموضوع، والتي يوظفها الخطاب الصهيوني لنظيره اليمين العالمي، والذي وإن كان له نفس الطرح في خطاب اليمين الأرثوذكسي الإسلامي، واللائي يصبّون في النهاية في مصلحة الكيان الصهيوني بما يسبغونه من استحواذ للضحية من جهة وإنكار لتلك التضحية من جهة أخرى على وزن الفعل ورد الفعل لايختلفون في الجنس. ومن تلك البنى النقدية ما صبّه الكاتب على "دعاة الجامعة الإسلامية الرجعيين و/ أو الإسلاميين" مثل رشدي رضا وشكيب أرسلان والحكم السعودي وغيرهم وصولا إلى الحاج أمين الحسيني، الذي كرس له 66 صفحة من كتابه، مفصلا ما أسماه علاقة الحسيني وهتلر، وكون تلك العلاقة لا تعدو تقاطع مصالح، داعيا إلى وجوب قراءة الحدث ضمن سياقه التاريخي وليس بصورة معممة، فقد كان حدثا محدود التأثير، بل وأدين حينها، بما يمنع إصدار صورة نمطية عن العرب بتأييدهم لجريمة المحرقة، وهو ما تعكسه المقالة التي أصدرها متحف "ياد فاشيم" لما سمي موسوعة الهولوكوست والتي تناولت الحاج أمين الحسيني، وهي المقالة الثانية حجما بعد تلك التي تناولت هتلر، ولذلك قيمته. وهو أيضا ما فشلت محاكمة أيخمان في إثباته انطلاقا من افتراض تورط المفتي تورطا مباشرا في المحرقة.
 
أما في الفصل الثاني من الكتاب، بعنوان "زمن النكبة" فالكاتب يقسم ذلك الزمن إلى زمن عبد الناصر 1948-1967، وزمن منظمة التحرير الفلسطينية 1967 – 1988، ومن ثم زمن المقاومات التي غلب عليها الطابع الإسلامي 1988 – الآن.
 
وفي هذا الفصل يتم تقديم النكبة من خلال "رؤية بني موريس" المؤرخ الإسرائيلي "الجديد" (؟؟؟)، والذي يصفه كاتبنا بأنه صاحب مسار مثقل بالأعراض المرضية، فموريس الذي أظهر وعيا موضوعيا تاريخيا حدثيا كاملا بالنكبة وأحداثها عام 1948، يتناقض مع تبريراته الكاذبة للتطهير العرقي للفلسطينيين، بقوله: "هناك ظروف تاريخية تبرر التطهير العرقي"، حيث يوضح موريس في لقاء مع صحيفة هآرتس عام 2004: "عندما يكون عليك الاختيار بين التطهير العرقي والإبادة – إبادة شعبك أنت – فإنني أفضل التطهير العرقي "، حيث وتأسيسا لتلك النظرية المخلة أخلاقيا، يأسف بني موريس أن بن غوريون لم يطهر أرض إسرائيل كلها، موجدا "الحل الكامل" وأن ذلك كان "خطأه القاتل".
 
في زمن عبد الناصر، يرى الكاتب استئثارا قوميا بالقضية، على حساب التغريبيين الليبراليين والماركسيين وإنشغال الإسلاميين بمعاركهم، والتركيز على عقلية "رمي اليهود في البحر"، وثمارها العكسية التي بنيت على ثقافة "بروتوكولات حكماء صهيون" وما فيها من عوار. وفي زمن منظمة التحرير، يسجل الكاتب مواقفا أكثر إطلاعا ورفعة كذلك الذي سجله خطاب الشاعر الفلسطيني المقاوم محمود درويش بلسان الفصائل الفلسطينية:
"إذا كان من واجبنا الأخلاقي أن نقبل الرواية اليهودية عن الهولوكوست كما هي، من دون التدخل في النقاش حول الجانب الإحصائي للجريمة... فإن من حقنا أن نطالب أبناء الضحايا بالاعتراف بمكانة الضحايا الفلسطينيين وبحقهم في الحياة و الاستقلال".
 
فالمحرقة في واقع الأمر، حدث له من العمر ما يتعدى الستين عاما، وقد ارتكبها طرف غير عربي من دون أن يكون هناك أي تحريض أو مشاركة عربية، بينما النكبة نتاج جريمة تطهير عرقي بحسب تعبير المؤرخ إيلان بابيه، قام بها "ضحايا الضحايا" بحسب تعبير د. إدوارد سعيد، وهي جريمة لا تزال مستمرة، ولا حل يتبدى لها في الأفق، والأنكى أن فاعليها يستكثرون على أصحابها أن يصبح لهم مسمى لسرديتهم الخاصة (بحسب تسيبي ليفني).
 
 في النهاية إذا كنا نوافق د.عزمي بشارة فيما ذهب إليه بقوله: "إن إنكار الهولوكوست يمنح كلا من إسرائيل وأوروبا اليمينية عدوا مريحا"، وكما اعتبر كاتبنا أن حب السامية ومعاداتها وجهان لعلمة واحدة تجعل "اليهود غرباء بالنسبة لمحبي السامية والمعادين لها على حد السواء" كما ارتأت الكاتبة الألمانية إلينورا شتيرلنغ، فإن مبدأ "عدو عدوي صديقي" غير مجدٍ في التعامل مع المحرقة كجرم تاريخي، إلا أن ذلك لا ولن يجعل من عدوي أقل وطأة جرائمية تجاهي من عدوه هو تجاهه.
 
--------------------------------------- 
الهوامش:
* القراءة بين أيدينا هي ورقة قدمها الكاتب لقسم الدراسات الإسرائيلية كلية اقتصاد وعلوم سياسية جامعة القاهرة بتاريخ ديسمبر/كانون أول 2010.
1:نورمن فنكلستين: كاتب أمريكييهودي ومختص في العلوم السياسية، خاصةً في الشؤون اليهودية والصراع الإسرائيلي الفلسطيني. حصل على الدكتوراة في العلوم السياسية من جامعة برنستون. وعمل في عدد من الكليات والجامعات الأمريكية. والدا فنكلستين هما من الناجين من المحرقة. عرف عن نورمان فنكلستين إثارته الكثير من الجدل على خلفية نقده الأكاديمي الحاد للكثير من الكتاب البارزين الذين اتهمهم بتحريف الوثائق بهدف الدفاع عن سياسات وممارسات إسرائيل.  وقد عرف عنه دعمه للقضية الفلسطينيةوخوضه في مواضيع حساسة مثل الصهيونيةوالتاريخ الديموغرافي لفلسطين فضلاً عن آرائه حول صناعة المحرقةحيث يرى أن المحرقة (الهولوكوست) يتم استغلالها لتمويل إسرائيل ولتحقيق مصالحها. ورغم كل النقد الذي وجه إلى آراء فنكلستين، فقد حظي أيضاً بمديح عدد من أبرز المؤرخين من أمثال راؤل هيلبرج (Raul Hilberg) أهم خبير في الهولوكوست وآفي شليم (Avi Shlaim) فضلاً عن المفكر نعوم تشومسكي. وقد صنفته إسرائيل بالعدو اللدود كما هو الحال مع حزب الله.
 
2: عبد الوهاب المسيري: مفكر مصريإسلامي، وهو مؤلف موسوعة اليهود واليهودية والصهيونيةأحد أكبر الأعمال الموسوعية العربية في القرن العشرين.[1] الذي استطاع من خلالها برأي البعض إعطاء نظرة جديدة موسوعية موضوعية علمية للظاهرة اليهودية بشكل خاص، وتجربة الحداثة الغربية بشكل عام، مستخدماً ما طوره أثناء حياته الأكاديمية من تطوير مفهوم النماذج التفسيرية.
 
3: أبراهام بورغ: عضو الكنيست، ورئيسه السابق، عمل مديرا للوكالة اليهودية، صاحب كتاب (فلننتصر على هتلر) و(زمن المحرقة: لنخرج من رمادها)، و الذين اعتبرا وثيقة طلاقه من الصهيونية في صورتها الهرتزلية، معللا ذلك بأنها السبب في لاأخلاقية الدولة الإسرائيلية، وعجزها عن الوصول لحالة الإسرائيلية النظيفة
 
4: آبا إيبان:دبلوماسي وسياسي إسرائيلي، عند اندلاع الحرب العالمية الثانية، انضم إيبان للعمل مع حاييم فايتسمانفي المنظمة الصهيونية العالمية في لندنفي كانون الأول/ديسمبر عام 1939.وبعد بضعة أشهر، التحق بالجيش البريطاني كضابط مخابرات، حيث تمت ترقيته إلى رتبة ميجور. خدم كضابط اتصال للحلفاءفي فلسطين.  في عام 1947، واعتماداً على مهاراته اللغوية، ترجم رواية يوميات نائب في الأريافلتوفيق الحكيم من اللغة العربية.
عاد إيبان إلى لندن للعمل في الوكالة اليهودية، ثم سافر إلى نيويورك، حيث كانت الجمعية العامة للأمم المتحدةتدرس "مسألة فلسطين"، تم تعيينه كضابط اتصال مع لجنة الأمم المتحدة الخاصة بشأن فلسطين حيث استطاع تحقيق الموافقة على تقسيم فلسطين بين العرب واليهود القرار 181.
قام بتغيير اسمه إلى كلمة " أبا " العبرية (إلا أنه نادرا ما كان يستخدم بشكل غير رسمي)، ومعناها "الأب"، حيث رأى نفسه الأب الروحي لدولة إسرائيل. أمضى إيبان عشر سنوات في الأمم المتحدة، وأيضا عمل بمثابة سفير لدى الولايات المتحدة ومن ثم وزيرا للخارجية، وهو صاحب المصطلح الشهير: حدود أوشفيتس (نسبة إلى معسكرات الاعتقال النازي) قاصدا حدود 67.
 
5: وقع الكاتب هاهنا في اختصار مخل لمنشأ الحركة الصهيونية حيث اعتبرها إحدى نتاجات النازية، في حين أن أي قارئ للتاريخ وبالذات الإستعماري والفترة التالية له، لا يمكنه فصل المنشأ الإستعماري والطبيعية المتماهية مع العقلية الاستيطانية الاستعمارية للحركة الصهيونية مع الاستعمار، بل والتي تطورت أكثر إلى ما يمكن وصفه بالإحلال، وهو صيغة متقدمة من الاستعمار وأكثر لا أخلاقية، عملت على تطهير الأرض من شعبها وسكانها الأصليين، وقامت بإحلال شعب مغاير مكانهم بلغتهم وتأويلاتهم وتاريخهم المستورد وأيديولوجياتهم وإنتماءاتهم وحتى بتاريخهم وجغرافياتهم المختلفة والمغايرة لتخلق كيانا هجينا، إن تلك السقطة لتجعل أي مقاربة للكتاب معرض القراءة هاهنا صعبة بوجود هذا العوار المعرفي الحاد.وهو ما في رأيي سبب هذا الكم من التهاني للكاتب من الأوساط الإسرائيلية عندما صدر الكتاب أعلاه.
 
6: إحدى مقولات أدولف هتلر الزعيم النازي.

التعليقات