16/07/2010 - 15:33

غسان كنفاني..اسم عن أسم بفرق أيضاً../ مروان عبد العال

-

غسان كنفاني..اسم عن أسم بفرق أيضاً../ مروان عبد العال
لرواية غسان كنفاني " عائد إلى حيفا" طعم أخر عندما تولد بعد ثمانية وثلاثون عاما على رحيله. في ظل ازدحام الكلام عن اللجوء وأثمانه على الإنسان وحملة الموضة السائدة ضد التوطين وهواجس الهوية. لتبدو ذاك التلازم بين خط "دوف" الذي كان أسمه خلدون عندما ترك طفلا في مهده أثر حرب عام 1948 وخط اللاجئ "عرب" الذي صار أسمه "أيفان". لما عاد سعيد بطل الرواية مع زوجته صفية كي يتفقد بيته في حيفا، ليبدأ حوار مع ابنه خلدون عندها اكتشف أنه أصبح مجندا في جيش الدفاع الإسرائيلي. عن معنى الوطن والهوية وأن الإنسان في نهاية الأمر قضية. وهو السؤال ذاته الذي حضر في أخر نسخة من كلفة اللجوء مع صديقي "أيفان" وبينهما وقائع جديدة وتحولات وأمكنة وأزمنة مختلفة ولكل أسبابه المتعددة.

مثل تلك المرارة المجبولة بالخيبة، أنتظر المفاجأة ذاتها، التي كتبها غسان كنفاني في روايته عائد إلى حيفا، عندما أدرك أن الطفل الذي بقي منسيا في البيت عند وقوع النكبة كان أسمه خلدون وصار "دوف". وأن الشخص الذي انتظرته في الفندق، بدل اسمه بمعرفته وليس بإرادته كما قال، وهو غير "دوف" الذي أعطوه اسمه مرغما يوم كان صغيرا وترعرع في كنف عائلة يهودية وصار جنديا في جيش الدفاع الإسرائيلي، كما تقول رواية عائد إلى حيفا.

"أي خلدون يا صفية؟ أي خلدون؟ أي لحم ودم تتحدثين عنهما؟ وأنت تقولين إنه خيار عادل! لقد علموه عشرين سنه كيف يكون. يوماً يوماً، ساعة ساعة، مع الأكل والشرب والفراش.. ثم تقولين: خيار عادل! إن خلدون، أو دوف، أو الشيطان إن شئت، لا يعرفنا! أتريدين رأيي؟ لنخرج من هنا ولنعد إلى الماضى. انتهى الأمر. سرقوه".

سرقوه.... هكذا قالها سعيد بحسرة في عائد إلى حيفا.... لكن مفاجأتي أن أيفان المنتظر هذا، هو ليس ذاك المعروف بالرهيب، وليس شابا ألمانيا، كما اعتقدت، أنه صديق من المخيم أسمه "عرب"، كنا زملاء في الزقاق والمدرسة أطفال زمن اخترعناها في حدود الرواق السري، عندما استفقنا من غفلة زمن غليظ، في حضن مكان أليف، يتكور كجنين من طين، يتحول إلى بيت مهما يكبر لن يتحول إلى وطن، الخيمة مهما كبر عامودها ستبقى خيمة، ونحن نفتقد إلى موطئ قدم كي نسابق عظمة الاحلام. يومها كان شاباً واختفى في مواسم الهجرة إلى ألمانيا. في رأسي حضر ذات المشهد في رواية غسان.

"تعال يا دوف، يوجد ضيوف يرغبون برؤيتك".
وانفتح الباب بشيء من البطء، ولأول وهلة لم يصدق، فقد كان الضوء عند الباب باهتاً، ولكن الرجل الطويل القامة خطا إلى الأمام. كان يلبس بزة عسكرية، ويحمل قبعته بيده.

وقفز سعيد واقفاً كأن تياراً كهربائياً قذفه عن المقعد، ونظر نحو ميريام وهو يقول بصوت متوتر:
ـ "هذه هي المفاجأة؟ أهذه هي المفاجأة التي أردت منا انتظارها؟".

نظرت بوجه عرب أو أيفان، مدركاً أنك لن تستطيع أن تكون بطلاً أو اسما ما لم تعيد قراءة نفسك ولو خارج الرواية حتى تخلقها وتحيا وتحلم. ومرغما تفتح نافذة الأسئلة من السطر الأول إلى لغز الاسم الجديد، كيف ؟ ولماذا؟ تستهجن وتهيج وتبرر.

في الحارة الساحلية، آخر بيت على حافة الشارع، حيث تفصل عيادة الأنروا بينه وبين رمل الشاطئ، والطفل يجفل من اقتحام الريح وطعمه المالح، وإن كان يسامر أجفانه، يداعب خياله في هسهسة ليلية يعزفها فوق وسادته كي يغط في نوم يضبط على منبه يقرع مع آذان الفجر، والبحر يرمي أمواجه، مطمئنا وديعا تحت أبط الدنيا.
"عرب" الولد الأسمر، بعينين تكتحل بالسواد، وبشعره الفحمي الداكن، يسوح بخصلة تتدلى على يمين الوجه. تصدح قهقاته الساخرة، فتخترق جدار المدرسة، يفيض بالنكات والقصص والنوادر والأغاني.

كرسي القش الصغير، شاهد صامت على ضجيج الأزقة المعتمة، وفي الزاوية الرمادية الحادة التي احتجزت نصف الزاروب كي تصير ملحمة، تقبع على طرف باب سوق الخضار، يستخدم السكين الصغيرة في تشقيف اللحم فوق طاولة خشبية، ويدندن كي يؤنس وحدته راقصا، وينتظر حضور المصغي النجيب، كي يروي على مسامعه نزوات المراهقة الشقية والشيقة أيضا، ومغامرات ممتعة في سيرة أول الحب، متباهيا بأن خط شاربيه بدأ بالظهور، معلنا موسمه الشبابي، هناك مرآة بحجم الكف معلقة على زاوية الحائط. يرمقها رافعا غرته للأعلى كلما كانت في مرمى النظر، ويلقى بأنفاسه على جمال نسائي معلق أمام ناظريه، على جدار يحتفل بميلانه، وبصور مقصوصة من مجلات الفن، وبشغف للتصوير والتمثيل والغناء..
تربى هنا تحت الزينكو في زواريب المخيم، ولم تربه مريام ولا أيفرت، ولكنه انتهى إلى دوف!

"أنا لم اعرف أن ميريام وايفرات ليسا والدي إلا قبل ثلاث أو أربع سنوات. منذ صغرى وأنا يهودي. اذهب إلى الكنيس والى المدرسة اليهودية وآكل "الكوشير" وأدرس العبرية. وحين قالا لي ـ بعد ذلك ـ إن والدي الأصليين هما عربيان، لم يتغير أي شيء. لا، لم يتغير. ذلك شيء مؤكد.. إن الإنسان هو في نهاية الأمر قضية".".
أنت لست أيفان القديم ولا الجديد، أنت عرب الحقيقي الذي تغير في كل مرة فكيف يكون خارج اسمه؟ يعني ماذا نسميه؟ اسمه أيضا قضية.... هو صراع على الأسم كما المعنى.

يوم كان يساعد والده في الدكان، لم يجرؤ أن يبالغ بمزيد من صور الإغراء، حتى لا تكشحها سكين الوالد الوقور، يدمن الحركة في مسرح سردابي يسمى الملحمة، لا يكاد أن يتسع لشخصين، اضيق من سرير نوم مزدوج، يستطيع الزبون أن ينحشر معه في مساحة ضيقة وان كانت امرأة، فتكتفي بالوقوف خارجا وتتناول البضاعة من الشباك.

عزف وخبيط منظم تتناوب في الحانة سن السكاكين وتبديلها بطريقة تقنية في تنعيم عالسكين أو فرم القطعة رأس عصفور حسب رغبة الشاري، ويردد مع الكاسيت الذي يدور في مسجلة صغيرة أغنية "زاي الهوى يا حبيبي..." مع المطرب عبد الحليم حافظ قبل أن يرمي ما بين يديه على كف الميزان.

طقوس يمارسها "عرب" في أيام الضجر. يخرج من عباءة الملل نحو البلاطة الخارجية للملحمة. ذكرني كيف كان يردد مع فيروز أغنية:" صرلي شي مية سنة مشلوح بهالدكان عافتني الحيطان". ولأن قضية الاسم المستعار بقيت تحتل عقلي... أتمتم أغنية "أسامينا... شو تعبو أهالينا".
"وسأل نفسه فجأة: ما هو الوطن؟ وابتسم بمرارة، وأسقط نفسه، كما يسقط الشيء في مقعده، وكانت صفية تنظر إليه قلقة، وتفتح في وجهه عينين متسائلتين، وعندها فقط خطر له أن يشاركها في الأمر، فسألها:
ـ "ما هو الوطن؟"
وارتدت إلى الوراء مندهشة وهى تنظر إليه كمن لا يصدق ما سمع، ثم سألته برقة يكتنفها الشك:
ـ "ماذا قلت؟".
ـ " سألت: ما هو الوطن؟ وكنت أسأل نفسي ذلك السؤال قبل لحظة. أجل ما هو الوطن؟ أهو هذان المقعدان اللذان ظلا فى هذه الغرفة عشرين سنة؟ الطاولة؟ ريش الطاووس؟ صورة القدس على الجدار؟ المزلاج النحاسي؟ شجرة البلوط؟ الشرفة؟ ما هو الوطن؟ خلدون؟ أوهامنا عنه؟ الأبوة؟ البنوة؟ ما هو الوطن؟ بالنسبة لبدر اللبدة، ما هو الوطن؟ أهو صورة آية معلقة على الجدار؟ إنني أسأل فقط".

"دياسبورا" ليست الوطن ولا حتى الخيمة التي نلتحفها من السلك إلى السلك، الوطن لا يحده الأسلاك، يضيق السرير أكثر كلما كبرنا، فيكتب سيناريو جديد لغربة أشد مضاضة. كان الهوس بالصورة إلى درجة الدخول في الصورة. وحينما تتلون الصورة وينظر "عرب" في نفسه، ليشاهد صورة "عربسيك"، يظنها نفسه، ترف جفنيه كي تصحو ثانية في بيت قديم، وترتعش الرجولة فيستعيد داخلي، ذاك الشريك الذي وصل إلى مرتبة أعز الأصدقاء، مراهقا يتأتئ في مرآة نفسه. وكي يطيب لنا أن نلتقي في الزاوية الحادة وباسم جديد في ساحة مدينة غريبة في غربة يصر على أنها قسرية. في الاسم غربة جديدة.
( أما بالنسبة لي فأنا هنا بعد انهيار جدار الشرق لندخل في جدران الغرب، تغير الكثير من تفاصيل حياتنا، فلا الرفيق ولا الصديق ولا من يريد تغيير العالم أصبح موجوداً، والجميع تحول إلى ماكينات تعمل 8 ساعات في اليوم، وربما لهذا السبب أشعلت تلك الصورة في داخلي بركاناً خامداً ظننت أنه خرج من الخدمة.

بعد تنقلي في محطات التلفزة الألمانية حطت بي الرحال في القسم العربي لمحطة" دويتشه فيلله")
خاطبته قائلا: إسمنا ليس صورة وليس مرآه نكسرها إن لم تعجبنا الصورة، إنها هويتنا وأنت "عرب" لست "إيفان" البتة...."
وعاد فنظر إلى (دوف) وبدا له مستحيلا تماما أن يكون هذا الشاب من صلب تلك المرأة"

وأنا أقول: أنت من صلب ذاك الوالد الذي اعتمر العقال وعبس في وجهك كي تكون رجلأ، وحدثك عن الجليل وأيام الحصاد والبيادر، بأي حق تلغي أسمه بجرة قلم، من أجبرك؟ رد فورا: "نعم أجبرت. ثم صمت، وأكمل: السبب نظرة الريبة والاتهام والشك. كلما تصادفت بواحد هنا وقلت اسمي عرب ينزع يده من يدي وخاصة بعد حادثة 11 سبتمبر. صار العربي متهما. كل العرب. فكيف بعرب فلسطيني مثلي. حتى المطارات العربية. نعم العربية يا صديقي في تونس مثلا، زرتها موفدا من الإذاعة الألمانية وأنا احمل الجنسية الألمانية. ولكن عندما قرأ الأمن اسمي قلت عن حقيقة هويتي بصراحة. فكان التعاطي مختلفا عن الذين يحملون أسماء أجنبية. الآن وباسم أيفان نلت احتراما أكثر."

مثل كل أترابك في القريب الذي هو بعيد والبعيد الذي هو أبعد أن تكون بغير اسمك كأنك بلا رواية، معزول في دهليز "الدياسبورا" تنتفى الذات، لا تكلف نفسك عناء الاختباء وراء الاسم، لذنب الغياب وربما تصير أنت الممنوع وحين لا تقوى على أن تشهر الإقامة، انك خلف الوقت تبحث في الساعة عن عقاربها، كي تمنحك إجازة مرور. الزمن يتحكم بجرعة الشوق في رئتيك. المكان يحلق بعيداً وشبح الحكاية يحوم فيه، كأنك تفرط بالغضب وبما تبقى من الفرح. تدخن بشراهة وتعطي نكهة الأيام الخوالي كأسا آخراً من الحب القرمزي المشتعل من قلب واحد.
"هذا هو الوطن"، قالها لنفسه وهو يبتسم، ثم التفت نحو زوجته:
ـ "أتعرفين ما هو الوطن يا صفية؟ الوطن هو ألا يحدث ذلك كله".

هل عرفت ما هو الوطن يا صديقي؟ خذ وقتك كافيا للإجابة وستردد مع العائد إلى حيفا ذات الجواب، نعم "ألا يحدث ذلك كله" من حياة مليئة بالمعنى، يوم تترك لي ابتسامه خاصة في مواجهة دمعة مواربة، مازالت تتلكأ في العين ولم تسقط بعد، يوم وجدت نفسك في حالة جدار... قصة مزمنة من قيد الجدارات، كي تنشطر هائما بين جدارين، تحمل حقيبتك، تلملم داخلها كل الأراجيح الطفولية، ستصدق نبوءة غسان وكأنك تهتف لي بلسان بطل عائد إلى حيفا عندما " قال سعيد:

ـ "ليس ثمة ما يقال. بالنسبة لك ربما كان الأمر كله حدثا سيئ الحظ، ولكن التاريخ ليس كذلك، ونحن حين جئنا هنا كنا نعاكسه، وكذلك، أعترف لك، حين تركنا حيفا، إلا أن ذلك كله شيء مؤقت. أتعرفين شيئا يا سيدتي؟ يبدو لى أن كل فلسطيني سيدفع ثمنا، أعرف الكثيرين دفعوا أبناءهم، وأعرف الآن أنني أنا الآخر دفعت ابناً بصورة غريبة، ولكنني دفعته ثمنا.. ذلك كان حصتي الأولى، وهذا شيء سيصعب شرحه".

لأن كل فلسطيني سيدفع ثمن الشتات وأنت دفعت الثمن بأن انتحلت اسما غير اسمك، شطبته بجرة قلم، ولأي سبب؟ حتى يحترمك الآخر... وهل احترمك أكثر؟ هي أخر حصة من طعم اللجوء التي تلوكها غربتك. نضرس من حصرم لم نأكله، أعرف بأنك ربما تستطيع أن تزور فلسطين باسمك الجديد" أيفان الألماني"، لكنك لن تستطع العودة إليها إلا باسمك الأصيل" عرب" الفلسطيني.

في لحظة عشق تستنفر كل الأساطير المختبئة في كيانك، ستقاتل لاستعادة اسمك أيضا وتفتح صفحات من تاريخ الضياع، أسماء نحملها ونحميها من خناجر الغير ومن طعنة الذات لذاتها، قهرا أو قسرا. فأسماؤنا هي بذور أحلامنا وقد تنبت في موسم واحد وتخرج دفعة واحدة عن بكرة أبيها. لتعلن للتو، بأننا على وعد "العائد إلى حيفا" أن الظلم هو ألأب الشرعي لدوف وأيفان وغيرهم، وأن" دوف" يعلن هزيمته، لحظة التوقف عن التناسل فينا أو حتى للولادة من جديد داخلنا، مدركا أن الانتصار على الظلم هي فرصته كي يستعيد خلدون مرغما من وصية غسان كنفاني عندما طلب العائد سعيد من ابنه خالد أن يبقى يحمل سؤال الذكرى ومقاوما من أجل المستقبل.

"دوف" لم يتماهَ من جديد في شكل "ايفان"، ينزع اسمه القناع عندما تحترمه المطارات العربية، وربما تلغى حدود الاسم بين عرب وعرب. وتبقى أنت "عرب" غير القابل للصرف، أو إحالة الاسم للتقاعد أو حتى إخراج الهوية من الخدمة العربية، فاسمك الوحيد يدلني عليك، واسم عن اسم بفرق أيضا. كي تعود أنت إلى نفسك تعود حيفا فيك فنعود إليها وتعود إلينا، وحتى لا ندعهم يسرقون أسماءنا، ستبقى "عربَ" حتى آخر رمق وان طال دهليز السفر.

التعليقات