24/01/2011 - 00:48

أمّي الغريبة / ماهر رجا*

أمي الغريبة

أمّي الغريبة / ماهر رجا*

لأمي العجوزِ التي أخفقتْ في الرجوع إلى أهلها

هُنالكَ بيتٌ وراء التِّلال على سُنبلاتٍ ثلاث

وشمسٌ تنامُ كقطٍّ أليفٍ

على حَافة البئرِ قَبْلَ الزَّوَالِ

وتَعْرِفُها قِصَّةُ المَاءِ.. كانتْ تقولُ

لَهُ في الصَّباح: صباح الحياةِ

وَتَلْمسُ خَابِيَةً جَرَحَتْها الفَرَاشَةُ لَيلاًْ.. 

 

لأمي الغريبةِ في الذكرياتِ

وقُوفُ القُرى ذاهِلاتٍ أمامَ الغُروبِ الخفيفِ:

هُناكَ يَطيْرُ خَيَالُ السُّهوبِ

إلى الغَيْمِ مُستسلماً لشحوبٍ طفيفٍ

هناكَ سُقوطُ الثرياتِ

مِنْ ثَمَرِ الهَمْسِ فَوْق الدروبِ

هُنَالكَ صَفصَافةٌ كالخُرافةِ واقفةٌ

في طريقِ القُبورِ

وَيَعْدُو نُبَاحُ الكِلابِ

وراءَ خُيوطِ الشُّموسِ الأخيرةْ.

 

وأمي الغريبةُ كانتْ تُحبُّ السِّرَاج:

مساءً، يَكُونُ رَذَاذاً نحيلاً على عتمة الزيزفونِ

وحينَ ينامُ الحِصانُ

يسيرُ السراجُ وراءَ السُّكونِ

على هَمْهَمَاتِ رؤوسِ الأصابعِ في الرُّدُهَاتِ

ووالِدُ أمي يُجالسُ ظِلاً

ويُؤنسُ بالتبغِ شَاياً ثقيلاً

أعَدَّتْهُ صَفصَافةُ الدّارِ.

كانَ الكَلامُ الخَفيضُ تُثَقِّبُه النَّحْنَحَاتُ

وَثَمّةَ بُوْمٌ صغيرٌ يُحَدِّقُ مِنْ فَجْوَةِ السُّورِ

أحْصِنةٌ من سَرَابٍ تَجُرُّ عُوَاءَ ابنِ آوى

إلى نَقْشِ تَعويذةٍ في الجِدارِ ،

غَريبٌ يَمُرُّ بِبَالِ المَكَانِ

وَيَتْرُكُ بَابَ الحَديقة يُصغي

لوَقعِ الخُطا ..

 

وأمي الغريبةُ

قَدْ حَرَسَتْني مِنَ السَّاحراتِ

ومن مَطَرٍ في المُخَيَّم كانَ

يُذيبُ مَلامِحَ مَنَ يُوْلَدونَ بِبابِ الشتاءِ

أتَتْ من بيادرَ خلْفَ الحُدودِ

أتتْ وحدها دونَ أهلٍ

وما أدركَتْ كيف يَكتبُ فَحْمٌ حَياةً

وما قَرَأتْ غيرَ فاتحةٍ للصلاةِ

ولكنها علَّمتني..

سَقَتْني حَوَاسَ التعثُّر بالأزرقِ الأبديِّ

وسارتْ معي مَرَّةً نحو قَصْر الخَيَال الشتائيِّ

كان على جَبَلٍ ضاربٍ في شَهيقِ السَمَاءِ

وينفثُ غيماً كثيفاً،

فَدَقّتْ على بابهِ مرتينِ وأصغتْ طويلاً..

رجعنا مع الليلِ تحتَ ضَبابٍ سَقيمٍ

وكانتْ تُردد في هَمّهَا:

بَعْدَ عُمريَ أنتَ.. ستبقى وحيداً..!

 

كَطَيفٍ صغيرٍ تناميتُ في بيتها

حاضراً كالغيابِ الأليفِ

ويومَ تنادوْا: سيَغرقُ في النَّهرِ

مالتْ بهجراتها نحو كَفّي التي خَطَفَتها المياهُ

وألْقَتْ رِمَاحَ الغناء على حَيَوانِ السُّيولِ ليتركني

ثُمَّ ظَلَّتْ تَرَاني صغيراً

وكانتْ تقول تَعَلَّقْ بثوبيَ إن مَرَّتِ الطائراتُ

وتَحْذِفُ من صورتي امرأةً

أو تُعَدِّدُ أجدادَها الهَرِمينَ

لتطرُدَ أفعى المَفَازاتِ من خطوتي..

ههُنَا حَرَسَتْني من النوم وحدي

هنا لم أكُنْ حين نامت أخيراً

وقد فَكَّرَتْ بالرجوعِ إلى أهلها...

 

تلك أمي الغريبةُ

ظَلَّ أشقاؤها خَلْفَها في مدينةِ حيفا

وَظَلَّتْ لنا زَمناً .. وَكَبِرنا فسارتْ إليهمْ

وكانت تقولُ تَعِبْتُ من العُمرِ

لكنني سوف أبقى لأجلكَ عاماً أخيراً

فإنّيْ إذا متُّ يَهْرَمُ عُمْرُكَ بَعْديْ.

ويومَ الرحيلِ أطلَّتْ على أرض روحيْ

وقالتْ: سأبقى أُحبُّكَ

لكنَّ عُمري القديمَ ينادي عَلَيَّ

وقالت لنا مِنْ وراء حِبالِ الذَّهابِ:

وداعاً.. سأعرفكم عندما ترجعون إليَّ

تعالوا كما الغرباءُ،

بِأنَّةِ سُوْسَنَةٍ في الجَناحِ

وثُقْبٍ بَليغٍ على الذكرياتِ..

وقالت على دَرَجات الصَدى

لم يكن عُمرُها مُلْكَهَا

كانَ خَلْفَ التِّلالْ..

 

أنا الآن أعرفُ،

أمي الغريبةُ ليستْ هُنا

ليس هذا الضريحُ العَجُوزُ لَهَا

إنها وحدها الآنَ تمشي هناك

على حافة الضوء في أرضها

حيثُ تَبقى الحياة.

............

 *  شاعر فلسطيني مقيم في دمشق


التعليقات