05/09/2011 - 22:57

رَجل قلِق / چيمز لازدِن

والآن، وهو ينصت إلى ضفادع أصابها الأرق وارتفع نقيقها في البركة، عاودته صورة ڤيرونيكا تمشي هادئة من متجر تيلور وفي يدها جراد البحر، وباندهاش – يخالطه الذنب – من قدرات زوجته على الحدس، رجَع إلى فراشه في حال من القلق.

رَجل قلِق /  چيمز لازدِن

ترجمة: هالة صلاح الدين حسين

 

انحنى چوزيف ناچل إلى الأمام ورأسه بين يديه.

تأوه، «يا ربي.»

أغلقت إليس راديو السيارة بحركة خاطفة.

«اهدأ يا چوزيف.»

«أربعة أيام متصلة منذ جئنا هنا.»

«أرجوك يا چوزيف.»

«كم خسرنا الآن في ظنك؟ ستين؟ ثمانين ألف؟»

«سوف نستعيدها.»

«كان لا بد أن نبيع كل شيء بعد العشرين الأولى. كانت لتصبح خسارة مقبولة. مع العلم أن الغباء بلَغ بنا حداً جعلنا لا نبيع حين كنا رابحين فعلاً.»

أحس چوزيف بنبرة فظة تخامر صوته. أمر نفسه بأن يخرس ثم اندفع قائلاً، «لقد قلتُ حقاً إننا يجب أن ننسحب، أليس كذلك؟ صراحةً، صرْف كل تلك الأموال فعلة غير مسؤولة – ‹اخرس، اخرس› – فضلاً عن أن الوقت لم يكن مناسباً حين اشتريتِ.»

يا ربي...

ردت زوجته بلهجة باردة كالثلج، «لم أسمعك تشتكي ونحن رابحون.»

«حسناً، ليست تلك هي القضية. القضية هي...»

«ماذا؟»

تقبض وجهها على نفْسه غضباً، وعمته التجاعيد والعظام.

«القضية هي...» ولكن تاه من ذهنه خيط الأفكار. جلس بعينين تطرفان، يحيط به أسى سميك بدا لحظة لا تفسره الأموال أو أي شيء آخر يمْكن أن يضع يده عليه.

ترجلت إليس من السيارة.

«فلنذهب للسباحة، هيا يا دارسي؟»

فتَحت لابنتهما الباب الخلفي وتقدمتها مبتعدة عنه.

راقبهما چوزيف بوجه كالح، تمشيان بيدين متشابكتين عبر شجيرات البلوط والصنوبر في اتجاه حافة البركة الرملية.

جمع على حِجره حقيبتيّ رحلة التسوق بيد أنه ظل في السيارة، ثقيلاً لا يبدي حراكاً.

الأموال... لأول مرة في حياتهما يمتلكان رأس مال. حصَلا عليه حين باعا شقة ورِثتها إليس، وقد بعث في منزلهما آثاراً قوية تنذر بالتفجر. وبالرغم من أنه ليس مبلغاً ضخماً – أقل من ربع مليون دولار بعد خصم الضرائب العقارية - كان ضخماً بما يكفي لوضع حجر الأساس لحلم الثروة الحقيقية لو تم اعتباره حصة للاستثمار وليس اعتماداً مالياً لسن التقاعد. وعلى غير توقع ألفى چوزيف نفسه سريع التأثر بهذا الحلم. كان ما يجنيه من تجارة الأثاث العتيق والصور المطبوعة عن كليشيهات كافياً – مع دخل إليس من تصميم المواقع الإلكترونية بين الحين والآخر – لجعلهم في رفاهية معقولة. سيارتان، منزل قديم من الآجر في مدينة أوريليا بشجيرات ليلك وتعريشة عنب، رحلة سنوية إلى هنا، شبه جزيرة كيب، ولكن لم يتبق الكثير لاعتماد يخصصاه لكلِّية دارسي ناهيك من مصاريف تقاعدهما. لم تكن مثل هذه الأمور تزعجه في الماضي عظيم الإزعاج، ولكنه شعر من حيث لا يدري مع قدوم إرث إليس بأنه استيقظ إلى مسؤوليات جديدة ملحة. لا يجب في سنهما أن ينتابهما القلق على تغطية النفقات الصحية كل عام، أليس كذلك؟ أو يتجادلا إن كان باستطاعتهما أيضاً تحمل تكلفة عَرْض مخفَّض للعناية بالأسنان والعيون معاً؟ ألم يحن الوقت أن يبنيا أستوديو كي تستطيع إليس التركيز في رسمها؟

كلما أعمل فكره في هذه المسائل، لاحت ضرورية وليس مرغوباً فيها فحسب حتى راح يعتقد أن مواصلة الحياة بدونها ستُعد قبولاً للفشل، وجوداً هامشياً سيتعاظم ولا ريب تضييقه عليهم مع مرور الوقت حتى ينتهوا إلى البؤس والقذارة.

بعد أن تم التصديق على صحة الوصية وباعت إليس الشقة قصدا رجلاً في وول ستريت، مديراً مالياً لم يتول في العادة حسابات أقل من مليون دولار، ولكنه أسدى صنيعاً استثنائياً لشخص آخر – معرفة مشتركة أوصى به – عندما وافق على التفكير في السماح للزوجين ناچل باستثمار رأس مالهما في أحد صناديقه المالية.

اسم الرجل ‹مورتون داويل›. كان چوزيف يتفرس في البركة المتلألئة من خلال أشجار الصنوبر حين استدعته ذاكرته بجلاء. رَجلٌ لوحت الشمس بشرته، ابتسامة لا تفارق وجهه، عينان زرقاوان مشعتان، قميص مخطط بياقة بيضاء وطرفيّ كمين بيضاوين، زوجان من الأزرار الفضية المطاطية يحيقان بذراعيه.

قادهما مساعد داويل – شاب رزين في سبيله إلى الصلع – إلى كوخ ذي ألواح خشبية بلون الكرز يطل على جزيرة جاڤارنِر. وهناك غاص چوزيف وإليس في مقعدين جلديين انغرزت فيهما الغمازات. أنصتا إلى داويل وهو يتشدق بلكنة بريطانية ويتأمل برأس منحن في إنكار يشي بالتواضع «فترة استثنائية من الحظ السعيد» شهِدها خلال العشرين سنة الماضية. غمغم مساعده بأن بمقدوره أن يأتي بكلمة أفضل من ‹الحظ›. كان يستحضر بلهجة عرضية صورة تلو الصورة لتحولات أحدثها في حيوات عملائه ويُلمح بنبرة عابرة إلى علاقات شخصية خاصة تربطه بدوائر مالية عليا مكنته من تحقيق هذه التحولات.

أنهى إليهما، «أظنها منتهى المتعة أن أساعد الناس على نيل الأشياء التي يحتاجون إليها من الحياة. سواء كان يختاً أو منزلاً في جزيرة سانت بارتس أو بيانو ماركة ستاينواي لأبنائهم المولَعين بالموسيقى...»

استمع چوزيف كالمنوَّم مغناطيسياً، لا يجرؤ مطلقاً أن يأمل موافقة هذه الشخصية العظيمة على رش سِحرها فوق رأس مالهما البسيط. كاد الامتنان يغلبه في نهاية اللقاء حين قرر داويل على ما يبدو أنهما يَصلحان كعميلين مقبولين، إذ أرسل مساعده ليُحْضر لهما النشرة الخاصة بصندوق الثروة السيادي المشترك حتى يأخذاها إلى البيت.

«يا له من وضيع،» تمتمت إليس وهما ينتظران المصعد في الخارج. «ما كنتُ لأتركه في غرفة مع حصالة دارسي.»

فغر چوزيف فمه مذهولاً ليدافع عن الرجل، ولكن خالجه في نفس اللحظة تردد. علها محقة... كان يَعلم أنه لا يجيد الحكم على الناس. هو القادر على اكتشاف التحف المزيفة بكل مهارة – مكتب على طراز مكاتب الإرساليات الأسبانية في أمريكا أو سرير إمبراطوري من العهد الفيدرالي – بمجرد الوقوف لحظةً في حضرتها، كان أقل ثقة من نفسه حين تطرق الأمر إلى البشر. مال من حيث المبدأ إلى الإعجاب بهم إلا أن وعيه بحقيقتهم اتصف في أغلبه بالغموض والتزعزع، صفتين ارتاب في ارتباطهما بشعور مماثل راوده بعدم الاستقرار، بينما أوْلت إليس غير المكترثة للأشياء المادية (غير المضطربة مطلقاً اضطرابه من إرثها) اهتماماً متناهياً بالآخرين وإن اتصف ببعض التجرد، وكانت داهية في تقييمهم.

وعلى حين أخذ المصعد يَنزل من مكتب داويل، ألفى چوزيف إحساسه بالرجل يتداعى. وعندما انتهيا إلى البيت، انقلب إحساسه كلية. قال في قرارة نفسه، بالطبع، وهو يتخيل من جديد ابتسامة الرجل المسفوعة ورباطيّ ذراعيه الوامضين؛ يا له من دجال واضح! حقير! ألمَّ به الارتعاش حين ورَد على باله مدى سهولة انخداعه.

«عارفة؟ عليك استثمار الأموال بنفسك.»

«خطَرت الفكرة ببالي.»

«استثمريها بنفسك يا إليس! لا يمْكن أن يكون الاستثمار بتلك الصعوبة.» داهمته حماسة مباغتة للفكرة.

«ربما أجرب.»

«ضروري! غريزتك قوية. ذلك أهم شيء. هؤلاء المدراء الماليون يخمنون مثلهم مثل أي شخص آخر. سوف تبرعين كأي واحد منهم.»

الظاهر أن هذا ما حدَث في الواقع. بعد أن انتظرت إليس الفرصة الملائمة عدة أسابيع، أقدمت على خطوة جريئة أوقعت فيه الذهول. جاءت على إثر هجمات 11 سبتمبر حين أعيد افتتاح سوق الأسهم المصعوق. وطوال عشرة أيام، ومؤشر داو يضطرب ثم يتهاوى، اشترت واشترت واشترت عاقدة العزم في برود لا يعادله برود وچوزيف يدور حولها بلا كابح ممزَّقاً بين يقينه المفزوع بأن النظام الرأسمالي بأسره على وشك الانهيار ورعبه المقرون بالذنب من أن تعاقبه الآلهة لمحاولة التربح من الكارثة وحماسته المتصاعدة حين انعكس التيار وأبصر فوق كتف زوجته صفحة شواب الإلكترونية للاستشارات المالية. تطلع إلى المبلغ في عمود الربح الكلي وهو يتضخم اليوم بعد الآخر كبرهان لا يَنقصه الانشراح على صحة غريزتها. استولى على قلبه رضا هائل. الحمد لله أنها أبعدت الأموال عن براثن هذا الدويل الشرير!

ولكن التيار انعكس من جديد. كان المبلغ قد تضخم بسرعة رهيبة في عمود الربح الكلي ليعلن رقماً ثالثاً ورابعاً ثم خامساً شأن سفينة تفرد أشرعتها في مواجهة ريح عاتية تنذر بالرخاء، ريح لاحت مصمِّمة على الهبوب ثانية على أمريكا. ولكن السفينة أبطأت حتى توقفت وأرخت أشرعتها الواحد بعد الآخر ثم أخذت تَغرق على مرأى من الناظرين المرعوبين. وفجأة طفق دهاء إليس – فطنة مالية فطرية نسبها إليها – يبدو وكأنه حظ المبتدئين ليس إلا، وبدلاً من الرضا بدأ شعور رهيب بالقلق يعترم داخله.

يا لها من حالة منهكة. لشد ما كرهها! وكأن إليس في استثمارها للنقود ربطته دون دراية بخيوط غير مرئية إلى نفْس جماعية ضخمة لا تَسلم من الاهتياج ولا ترتاح قط. لم يكن يعبأ من قبل بالمسائل المالية غير أنه تبدى الآن عبداً من عبيدها. حين انخفض مؤشر داو أو مؤشر ناسداك، انجر معهما عاجزاً عن الاستمتاع بيوم جميل أو وجبة شهية أو حتى مباراة الطاولة مع ابنته ليلاً. الأسوأ هو أنه شعر بخَدَر عجيب يمتلئ سعادة عند ارتفاع المؤشرين في المناسبات النادرة، مهما وقَع حوله من أحداث بغيضة. وما يتعدى مزاجه: البادي أنه سلَّم إلى سوق الأسهم مهمة التحكم في كامل إحساسه بالواقع. كان يلقي نظرات خاطفة إلى قسم الأعمال في جريدة تايمز – مقالة عن الصناديق المشتركة تُعارض الاتجاه الهابط – (صفحات كانت في الماضي تذهب مباشرة إلى سلة المهملات)، ورأى بين الصناديق القليلة المحظوظة صندوق مورتون داويل السيادي فشعر فجأة بالحماقة لأنه سمَح لِما بدا فوراً فعلة تنم عن سوء حكم فظيع بتوجيهه بعيداً عن ذلك الرجل الألمعي الممتاز.

يا ربي! كل ما سبَق بالإضافة إلى الاكتشاف الأشبه بالكابوس أنك بمجرد الدخول عاجز تماماً عن الخروج في كل الأحوال. لا تستطيع البيع وأنت رابح، فقد يفوتك المزيد من الربح، لا تستطيع البيع وأنت خاسر، فقد يعود السوق فجأة إلى الارتفاع الأسبوع المقبل ليخلفك مُعوزاً مع خسائرك. ولكن طبعاً عندما يستمر الإخفاق الشامل دون غيره، ترغب في نتف شعرك لأنك لم تتحل بالتواضع وتعترف بغلطتك وتنقذ – أنت الحزين وإنما الحكيم – ما يمْكنك إنقاذه.

وأياً كان ما فعلتَه، البادي أنك ستندم حتماً على فعله أو عدم فعله في وقت مبكر وكأن قوة خبيثة عليا دبَّرت – بعد أن عاينت طريقة عمل العقل البشري – أداة لتعذيبه اعتماداً بالتحديد على غريزتيّ الرغبة والحذر اللتين من المفترض أن تمكناه من البقاء على قيد الحياة. لا يستطيع المرء أن يتمالك نفْسه مثلما لا يستطيع طائر قُرقف عشَّش في شجيرات الليلك خارج غرفة الجلوس أن يكف عن مهاجمة صورته المنعكسة على النافذة طيلة النهار كل ربيع مهما خامره بالقطع من إحساس حائر رهيب مع كل ضربة رأس على الزجاج.

 

ترجل چوزيف بمشقة من السيارة وهو في حال من الإعياء.

أفرغ في المطبخ محتويات أكياس البقالة وهو يكافح واعياً لطرد الكآبة. أربعة أيام مرت من الإجازة ولم يَعرف الاسترخاء بعد. إنه عبث. الجو مثالي، المنزل المؤجَّر تسوده السكينة، بركة المياه العذبة القائمة بجواره صافية كما الزجاج، شواطئ المحيط المترامية خلفها رائعة. ومع ثلاثمائة دولار يومياً مقابل المنزل فقط لا يسعه أن يتحمل تكلفة عدم الاستمتاع بوقته.

احتكت يده برزمة باردة ناعمة الملمس داخل إحدى الحقائب. آه، نعم. ها هو شيء يمْكن أن يفكر المرء فيه بتلذذ تام: رطل ونصف من المحار الطازج للشي الليلة.

كان قد اشتراه من متجر تيلور بينما تسوقت إليس ودارسي في متجر الخضراوات والفاكهة المجاور.

كان متجر تيلور واحداً من مفاخر شبه جزيرة كيب، وكما هو الحال دوماً عج في تلك الظهيرة بناس يقضون عطلتهم محشورين أمام منحدَر من الزنك. يرمقون بعين القلق أكواماً متناقصة من شرائح القاروس الأبيض كالثلج أو شرائح التونة الوردية المتلألئة، يحرسون أماكنهم في الطابور بقدم واحدة على حين يشخصون بأبصارهم إلى الأمام ليروا كنوزاً رملية بلون الذهب تَرقد يومها في صينية الطعام البحري المدخن.

وقَعت حينذاك واقعة: طالبت امرأتان بآخر زوجين من جراد البحر في الحوض. تشتت انتباه المرأة الواقفة أولاً في الطابور أثناء بحثها عن شيء في حقيبتها عندما أقبل النادل المراهق. كانت المرأة الأخرى طويلة ذات بشرة برونزية في رداء من قماش رقيق يتهدل كالشبكة بين سلاسل رفيعة من الذهب المطعم بالخرز. رفَعت إصبعين صامتتين لتشير إلى جرادتيّ البحر اللتين كان الصبي يزنهما لها بالفعل حين اكتشفت المرأة الأولى ما يجري. احتجت قائلة إنها الأولى في الطابور، ولكن الأخرى تجاهلتها ببساطة وناولت النادل عدة أوراق نقدية بابتسامة متقدة وأمرته بالاحتفاظ بالباقي فيما وقَف الصبي نفْسه كالمصاب بشلل لاح وكأنما يَرجع إلى فتنة بلا شائبة سددتها إليه غير منقوصة بقدر ما يَرجع إلى إحراج الموقف. «سوف نجلب المزيد منه في وقت لاحق،» غمغم بنبرة غير واثقة لم تقنع المرأة الأولى. «ياه، يا ربي...» نطَقت بنفس متهدج والمرأة الأخرى المبتسمة تَقطع خطوات واسعة مطمئنة وزوجا جراد البحر الحيان يتأرجحان من يدها في كيس الثلج المجروش.

شاهد چوزيف كل ما حصَل فخيم عليه شعور مبهم بأن من واجبه الدفاع عن المرأة الواقفة في المقدمة. ولكن أحداً لم ينفعل بالموقف، وعلى الرغم من كل شيء لم تبدُ الواقعة عظيمة الشأن، وعليه لم يحرك في النهاية إصبعاً، حقيقة أوقعت في نفسه قَدراً من الخجل عند انصرافه من المتجر.

على أية حال حصل على محاره، محار ريان ضخم بمرجان وردي شهي لا يزال متصلاً به. دار في باله مبتسماً ابتسامة خفيفة أن من حسن حظه أنه اشتراه قبل سماع أرقام اليوم وإلا لنكَص عن الشراء بسبب سعر فلكي فرَضه متجر تيلور ثمناً للرطل. وضعه في المطبخ بإحساس طفيف بالانتصار وكأنما انتزعه من فكيّ بورصة ناسداك نفسها.

عندما انتهى إلى البركة، لم يجد أثراً لزوجته وابنته. وقَف على رصيف المياه، رصيف صغير خصوصي أتى مع المنزل. تساءل لو أن إليس تعاقبه على تعليقه على توقيت استثماراتها. الحق أن طبع إليس يميل إلى التأديب، وقد كان تعليقه ولا شك مهيناً. ومع ذلك لم يكن من عادتها أن تختفي كلية بدون إخباره.

ناوشه قلق خفيف. قاومه. كان قد لاحظ مؤخراً نزعة متنامية إلى القلق، وقد كان واعياً لحاجته إلى التحكم فيها. قال لنفسه إنهما ذهبتا بالتأكيد لقطف ثمار العُليق أو ربما قررتا السير فوق الكثبان حتى المحيط. مهما يكن من أمر سوف يسبح عابراً البركة ثم راجعاً قبل أن يترك نفسه فريسة للقلق.

خطا نحو المياه الصافية وسار فيها حتى ركبتيه ثم خاض ساحباً نفْسه قُدُماً بضربات متمهلة. ألفى البوصات القليلة العلوية دافئة من تأثير الشمس والمياه أسفلها باردة برودة غير متوقَعة. لا أحد حوله. غص السطح أمامه بحشرات القمص، كل حشرة في حجم ظفر الإبهام، الآلاف منها، تنطلق منتفضة في كل اتجاه.

كان عرض ‹البركة› (من الممكن أن يُطلق عليها ‹بحيرة›) يَبلغ ربع ميل. استغرق قطعها عشرين دقيقة، أصر أن يبذل كل إرادة كيلا يلقي نظرة خلفه ليتبين إن كانت إليس ودارسي عادتا أم لا. وعند الشاطئ البعيد خرَج لامساً الأرض ثم استدار مضمراً شبه اعتقاد بأن مكافأة تنتظره على تحكمه في نفْسه، سوف يبصر شخصين قائمين على الرصيف الممتد أسفل منزلهم.

كان الرصيف مقفراً من الناس.

أمر روحه، هدئ أعصابك، وخاض في المياه مرة أخرى. لم تزل أمامه رحلة العودة حتى يسمح لنفسه بأن يقلق عن حق. ولكن معرفة أنك ستَخضع للقلق خضوعاً مبرَّراً في خلال عشرين دقيقة لا تختلف كثيراً عن الخضوع له الآن. قطَع نصف المسافة ثم أحس مُقدَّماً بأن غضباً متعاظماً سيعتريه من إليس لكتمان خططها عنه. وبينما كان يتابع السباحة، أحس بأن الغضب سيتحول تدريجياً إلى خوف، حالة أسوأ لأنها إن دلت على شيء تدل على أن ذهن المرء بلَغ نقطة من الأمل المعقول ثم تحولت الفكرة من وجودها هي ودارسي في مكان آمن تماماً وإن خلا من المسؤولية إلى تورطهما في كارثة من الكوارث.

يا له من إنهاك، يا لها من إهانة أن يضمر المرء هذا الإيمان الضئيل بكل شيء ويرزح ذليلاً تحت رحمة كل رجفة خوف في ذهنه. ولأن أي معتقَد محدَّد كان يزعزع توازنه (راقه أن يقول مازحاً إن الاعتقادات مخصصة للمعتقلات) بدا منجرفاً بلا مُعِين إلى عالَم من الخرافات المحض. لو تجنبتُ الاستماع إلى برنامج الاقتصاد ماركتبليس ثلاثة أيام، ستَحدث معجزة ويستعيد مؤشر داو ازدهاره: لم يستعده. لو أرخيتُ جفنيّ وكتمتُ أنفاسي أثناء السباحة سبع عشرة ضربة، ستَظهر إليس ودارسي هناك على رصيف المياه.

لم تَظهرا.

واصل السباحة دافعاً منكبيه بعنف وأحبال من المياه الأبرد تنساب حول كاحليه، يرفس خلفه وأسفله بما أمكنه من قوة سعياً إلى محق أزيز أفكاره.

انخفضت الشمس في السماء، وسَمت كل مويجة أَحدثها بطبقة لامعة بلون القشدة. الضوء هنا! شيء آخر استمتع به. توهج في الصباح الباكر من داخل الأشجار، فاض من ورقة شجر تلو الأخرى مع شروق الشمس، خضرة صارخة مخضَّبة بدرجة خفيفة من درجات الذهبي. تحولت ظهراً إلى هذا الفضي المائل إلى لون القشدة. وبعدها صار المرء واعياً بالضوء نفسه، لا الموجودات التي أنارها. الحق أن وهج الضوء المباشر المنعكس على المياه كان غاية في السطوع وچوزيف ينظر عبر البركة حتى إنه عجَز عن رؤية الشاطئ البعيد. لاءمه الوضع، وتعمد الإحجام عن محاولة التحديق بعينين نصف مغمضتين إلى الضوء المبهر، استسلم له. كان قد التقط هذه اللحظة مرة أو مرتين من قبل في البركة، داخَلها حقاً بهاء منعش مفعم بالغموض أخذك من نفْسك. تراءى كل شيء مجرد حدث من حوادث الضوء: المياه تسيل متلألئة تلألؤ الزجاج وهو يَرفع كل ذراع ليَضرب بها، الفقاقيع تنزلق فوق المويجات المنحنية، حشرات القمص لم تعد تبدو سرباً مهتاجاً من الحشرات، وإنما أقراص مندفعة من الضياء. أسَر حجم الظواهر المتألقة بأكمله الانتباه أسراً حتى إنه أفرغ إحساسك من أي شيء عداه، وللحظة يصلك انطباع بأنك لا تبصر فحسب الضوء، وإنما تتذوقه وتشمه وتحس به على جلدك وتسمعه يرن في كل بقعة حولك شأنه شأن أجراس مرتجة.

عندما خرَج من الوهج، ألفى دارسي واقفة عند نهاية رصيف المياه. كانت تنحني فوق المياه بشبكة صيد في يدها وإلى جانبها فتاة أخرى أقصر وأكثر امتلاء تمسك دلواً أصفر. ووراءهما، على مسافة بسيطة بحذاء الشاطئ، جلست إليس ترسم في كراسها.

حاول چوزيف لحظات أن يقاوم راحة مبهجة أسبغها عليه المشهد (فالراحة هي الوجه الآخر تماماً لقلق غير معقول حاول علاج نفسه منه، وعليه غير مرغوب فيها بنفس الدرجة)، ومع ذلك غمرت كيانه. كانتا هناك! لم يَلحق بهما أذى! تابع العوم سعيداً. يا لرشاقة ابنته وليونتها في ثوب السباحة، صارت رجلاها طويلتين في منتهى النعومة، وشعرها البني مخطَّطاً بالفعل باللون الذهبي من تأثير الشمس.

طغى عليه شعور بالحب، ومعه شعور بالخجل. يا لجنونه حين يترك الوضع يَخرج عن المعقول ويسمح للأموال بأن تَلوح لعقله أهم من ابنته نفسها! كانت منذ بضع أمسيات تحكي له بالتفصيل حبكة فيلم تفرجت عليه. تظاهر بالانتباه غير أنه كان منشغلاً كل الانشغال بخسائر اليوم حتى إن ادعاءه كان خائباً. ألَمت به غصة وهو يستدعي نظرة حزن ارتسمت على وجه دارسي حين أدركت أنه لم ينصت إلى كلمة واحدة قالتها. كيف تأتى له أن يفعل تلك الفعلة؟ لا سبيل إلى غفرانها.

انطلقت الفتاتان بعيداً وهو يدنو من الرصيف، ركضتا في طريق قادتهما حول البركة. لبِثت إليس على كرسيها. حيته بنظرة تنبئ عن الود.

«هل سبَحتَ حتى آخرها؟»

«حتى آخرها. واضحٌ أن دارسي وجدت صديقة.»

«نعم. إنها مقيمة في المنزل المجاور. دعونا إلى احتساء الكوكتيلات فيما بعد.»

«كوكتيلات. يا حلاوة!»

«أخبرتُهم بأننا سنذهب. دارسي مبسوطة جداً لأنها وجدت فتاة تلعب معها.»

«هل تشعر بالملل هنا؟»

«لا، ولكنك عارف...»

«ظننتُ أننا قد نستأجر دراجات غداً ونمضي لمشاهدة الحيتان.»

«فكرة مثيرة.»

«ماذا؟ آه!»

كانت تبتسم إليه. فرت منه ضحكة. متعة أخرى لا شك فيها من متع الحياة: نيل الحظوة من جديد عند زوجته. حك جسمه مجففاً إياه. خالجه شعور بالانتعاش، بخفة جسمه على قدميه.

انقضَت ساعة ثم سار هو وإليس لينضما إلى ابنتهما في منزل صديقتها الجديدة. حيتهما في الشرفة امرأة طويلة تَحمل إبريقاً به سائل ضارب إلى الأرجواني.

«يطْلقون على هذا المشروب اسم ‹كيب كودِر›،» قالت وهي تمد إلى چوزيف يدها الطليقة. «أهلاً وسهلاً، أنا ڤيرونيكا.»

المرأة التي رآها في متجر تيلور.

كانت قد غيَّرت رداءها رقيق القماش بثوب بلا كُمين من كتان متهدل بلون الخوخ، ولكن چوزيف ميزها فوراً بوصفها المنتصرة في واقعة جراد البحر.

صبَّت المشروبات ثم سددت نداءها نحو المنزل.

«يا سُكَّر...»

أقبل إلى الشرفة رجل أكبر سناً، ببشرة لوحتها الشمس ووجه ضخم الملامح يرين عليه الإنهاك وخُصل فضية شعثاء تنتأ من قميصه المفتوح. «هال كابلان،» قال وهو يقبض على يد چوزيف ويكشف بابتسامة عريضة عن صف من الأسنان البيضاء اللامعة.

صبَّت ڤيرونيكا المشروبات وجلس الأربعة الكبار إلى مائدة من الصُلب بالشرفة فيما لعِبت الفتاتان بمحاذاة البركة. تكلمت بلسان سريع وعيناها النجلاوان تتنقلان بين إليس وچوزيف بحس اجتماعي لا يخلو من تركيز. وفي خلال دقائق أسرعت بالحوار لتتجاوز المجاملات المعتادة إلى بوح وأسئلة حميمة استمتعت بها استمتاعاً صارخاً لا خجل فيه. تطوعت بكشف أنها هي وهال الزوج الثالث لكليهما؛ تقابلا في مروحية كانت تحلق فوق وادي جراند كانيون. كانت الفتاة، كارين، ابنة هال من زوجته الثانية التي فارقت الحياة من جراء حادث زورق سريع. حاول هو وڤيرونيكا عاماً إنجاب طفل. ما أصاب أيهما عيب جسدي، ولكن لأنها قاربت الأربعين ولم يرغبا في المخاطرة بالفشل، قررا الاشتراك في عيادة باهظة للتخصيب المجهري، عملية وصفتها بتفاصيل مضحكة وصولاً إلى زيارات – استمرت الواحدة منها عشرين دقيقة – قام بها زوجها «لغرفة الاستمناء». وعندما كانت تسأل عن خفاياهما وتفضي إليهما بحياتها، بدا وكأن نبرة صوتها تقول، «لا تأبها لي. لستُ شخصاً يجب بجدية أن...» سألتهما، «وماذا عنكما يا جماعة؟ كيف تقابلتما؟» وبينما كان چوزيف يجيبها، ألفى نفسه يفكر: لو لم يبصرها من قبل بمتجر تيلور، لحسِبها نفس المرأة التي بدت مصمِّمة على إظهارها، امرأة لطيفة الطباع عابثة عبثاً ساحراً. الحق أنه أضمر كراهية شديدة للاحتفاظ بفكرة سلبية عن الناس حتى إنه سرعان ما سمَح لانطباعه الحالي عنها بحجب الأول.

كان هال زوجها يعمل جراح عيون في ميامي خمس وعشرين سنة. كسَب الأموال الآن «بالفهلوة» وفقاً لكلامه. وبحُكْم المنزل الذي استأجراه – أكبر من منزل إليس وچوزيف وأكثر أناقة ولمعاناً – كان كفئاً في الفهلوة.

قالت ڤيرونيكا لإليس، «كارين واقعة في غرام ابنتك، واقعة موت في غرامها.»

غمغمت إليس بأن دارسي سعيدة جداً هي الأخرى.

كانت طيور السنونو تغطس في البركة، تلتقط حشرات القمص. وبينما كانت الشمس تغرب خلف الأشجار، استحالت المياه سوداء مشوبة بلون أخضر وتناثرت مويجات بلون النار. أقبلت الفتاتان، تلفان حولهما المناشف وترتجفان قليلاً. صوبت إليس نظرة إلى ساعتها.

فعرَضت ڤيرونيكا، «لم لا تبقون معنا لتناول العشاء؟»

بدرت من إليس ابتسامة، «آه، لا، لا نَقدر أبداً أن...»

«لا تعب على الإطلاق، فعلاً.»

«وافقي يا ماما!» صاحت دارسي.

«لن نفعل سوى إلقاء بعض الطعام على الشواية. من المؤسف أن نفصل إحداهما عن الأخرى...»

«ممكن أن يُحضر بابا محارنا...»

تحولت إليس إلى چوزيف. افترض أن ترددها مجرد تهذب، فنطق بما ظنه إيماءة متوقَعة تنم عن قبول متحير.

«ممم...»

مضت بضع دقائق كان بعدها يجلب المحار من مطبخهم، ومعه زجاجة نبيذ.

أشعل هال الشواية. صب چوزيف لنفسه كأس ‹كيب كودِر› أخرى ثم انضم إليه.

«يوم مقرف في سوق الأسهم،» قال بضحكة خافتة لا تبرأ من الأسف.

رفَع العجوز وجهاً طويلاً مستطيلاً مليئاً بتجاعيد أشبه بالجلد، وجهاً تنطبع عليه ابتسامة واسعة.

«هل تلعب هذه اللعبة؟»

«لدينا القليل من الاستثمارات هنا وهناك.»

«آن أوان شراء المزيد، خذها مني نصيحة.»

«ياه؟ أتظن أنها سترتفع مرة ثانية؟»

«كالصاروخ.»

«صحيح؟ حتى مؤشر ناسداك؟»

«بلا شك. الأموال الذكية تتكالب عليها. إنني أشتري الآن كالمجنون.»

«بجد؟» وثب قلب چوزيف وثبة صغيرة.

«أكيد! سهم إنتِل بعشرين؟ لوسينت بأقل من أربعة دولارات؟ إنها أسعار البدروم المخفَّضة وفقاً لكل التقديرات. نورتِل باثنين ونصف؟ ألا تشتري سهم نورتِل بدولارين وخمسين سنتاً؟» سدد إليه ابتسامة أخرى، ظل مَركز الشفتين متلامساً بينما ابتعد الطرفان في ثانية ليحسرا عن أسنانه.

«أرقام مثيرة جداً للاهتمام،» قال چوزيف متلذذاً بسرور مفاجئ حل عليه. «تظن إذن أن الانتعاش وشيك؟»

«على بعد خطوات يا صديقي. على بعد خطوات.»

كان حاله كمن احتسى جرعة خمر قوية حارقة!

دفَع هال جمر الشواية بشوكة بسنين ثم نادى ڤيرونيكا، «احضريهما يا حبيبة قلبي!»

دلفت ڤيرونيكا إلى المطبخ وخرَجت بحقيبة متجر تيلور. حطتها على المائدة ثم مدت يدها إلى الثلج المجروش لتسحب الجرادتين، كل واحدة منهما في يد، ثم تجلبهما إلى الشواية.

«اعمل فيّ معروفاً يا چوزيف وانزع الأشرطة، ممكن؟»

كانت تمد يدها إليه بالكائنين.

نزَع بيدين حذرتين الأشرطة المطاطية الصفراء من فكين زرقاوين يضربان في اهتياج.

«احذر،» قالت المرأة.

التقت عيناها بعينيه فرمته بابتسامة غير منتظَرة توحي وكأنما تَعلم ما لا يَعلمه الآخرون. وضعت بعدئذ الجرادتين الحيتين على الشواية. لم يبصر چوزيف هذا المشهد أبداً من قبل. ألحق به منظرهما – يتشنجان ويهسهسان فوق الجمر المتوهج – رعدة رعب لا إرادية وإن أكل نصيبه راضياً بعد بضع دقائق.

صحا في الثالثة صباحها بفم جاف ومثانة ممتلئة. غادر السرير وسار  إلى الحمَّام بساقين متقلقلتين. ومن خلال باب حجرة الجلوس المفتوح لمَح أريكة كانت تنقلب في الليل فراشاً لتنام عليها دارسي، توقف فجأة لحظة حين وعى أنها فارغة. تذكر بعد ذاك أنها نائمة في منزل صديقتها الجديدة.

ثار في صدره إحساس مبهم يتألف من ذنب وخشية غامضة عندما تذكر كيف حدَث ما حدَث.

سار متمايلاً إلى الحمَّام، قضى حاجته ثم وقَف في الظلام مطلاً على البركة. كان القمر بازغاً وسطح المياه – بغمازات هنا وهناك بفعل السمك الصاعد – ملتمعاً ساطعاً وسط دائرة من الأشجار السوداء.

كان قد احتسى ولا ريب كمية وافرة من الخمر وأفرط في الأكل. استحضر حالة غريبة من النشوة والانتعاش اعتملت في قلبه أثناء الأمسية: حيوية لم يعهدها من قبل. عاد جانب منها إلى توقعات هال الواثقة المذهلة لوضعية السوق. وجد چوزيف نفْسه يوجه الحوار عدة مرات إلى الموضوع ليطرح اعتراضات متباينة على رؤيته المتفائلة، ولكنه لم يطرحها إلا للابتهاج بسماع وسيط الوحي العجوز أسفع البشرة وهو يستخف بها. عاد أيضاً جانب منها إلى ڤيرونيكا. ببضع نظرات ولمسات أجْرت بمهارتها تياراً خفياً صغيراً تدفق بينهما أثناء العشاء. كان زوجاً وفياً، بل إن الإغراء بالخيانة الجسدية الفعلية لم ينل منه حقاً، ولكن روحه المعنوية حلَّقت في السماء عندما غازلته امرأة جذابة. الحق أن الجاذبية لم تكن تتعلق بشكلها مثلما ظن في البداية. فذقنها كان طويلاً وأنفها لاح كالمكسور. ولكن يقينها الجلي بأنها مرغوبة بدا أكثر من كاف لجعلها مرغوبة. ومع انتهاء الأمسية صار في حالة ابتهاج لا حد لها. سكران، مثار، متخَم، غروره مُشْبَع، رأسه تدور بفكرة انطلاق سوق الأسهم مجدداً «كالصاروخ».

عندما نهضا للانصراف، نادت إليس دارسي غير أن الفتاتين أبلغتاها أن كارين دعت دارسي إلى المبيت وأنها وافقت.

«لا الليلة،» ردت إليس بحزم بالغ حسِبه چوزيف ليس من الكياسة في شيء مع مضيفهم ومضيفتهم.

وعلى الفور راحت الفتاتان تناشدان الراشدين الآخرين. دعمت ڤيرونيكا قضيتهما مؤكدة لإليس أن دارسي على الرحب والسعة.

«إننا ننبسط جداً بمبيت الأطفال معنا. نحن على أية حال على بعد مائة ياردة منكما.»

رمقت إليس چوزيف بنظرة تطلب التأييد. وفي نفس اللحظة تحولت إليه ڤيرونيكا، «سوف تمرحان كثيراً، ألا تظن...؟» كانت قد وضعت يدها على ذراعه، وفي فورة مزاجه المنشرح أعلن بشيء من التكبر أن لا مانع من مبيت دارسي بما أنهم في إجازة.

ما فاهت إليس بكلمة؛ فالجدال علانية ليس أسلوبها. ولكن بمجرد أن ابتعدا عن مسامعهما، تاركين ابنتهما مع صديقتها الجديدة، انقلبت على چوزيف بغضب بارد، «أولاً تجبرنا على التعشي مع هؤلاء الناس، وبعدها لا تراعي رغبتي بحكاية المبيت هذه. إنك لا تُحتمل.»

إلى جانب ضراوة ساورت نبرة صوتها، ورغبة مظلومة في تذكيرها بأنها هي – لا هو – التي وافقت على الدعوة الأصلية إلى احتساء الكوكتيلات، وحيرة تولته لاعتراضها بكل هذه الحدة على مبيت دارسي مع صديقتها الجديدة، فإن عبارتها «هؤلاء الناس» هي التي ألحقت به الإجفال. أدرك أنه كان يَنعم بوقت سعيد بينما كانت هي تُقَيم الزوجين طيلة الوقت، جالسة لتُكون رأياً وتُطلق في هدوء حكماً ضدهما. ود لو يَعلم، على أي أساس؟ ولكن بمجرد أن فتَح فمه ليطالب بتفسير، خامره مرة أخرى شعوره المألوف بالشك في غرائزه.

والآن، وهو ينصت إلى ضفادع أصابها الأرق وارتفع نقيقها في البركة، عاودته صورة ڤيرونيكا تمشي هادئة من متجر تيلور وفي يدها جراد البحر، وباندهاش – يخالطه الذنب – من قدرات زوجته على الحدس، رجَع إلى فراشه في حال من القلق.

كان اليوم ملبَّداً بالغيوم حين استيقظ في ساعة تالية، بمفرده. عندما أزاح الستارة، رأى إليس تصعد السلالم بخطوات واسعة من البركة. اقتحمت المنزل من باب المطبخ.

«غضبانة كلمة قليلة.»

«ماذا جرى؟»

«لقد اختفوا.»

«ماذا تقصدين؟»

«اختفوا. السيارة ليست هناك.»

«مع دارسي؟»

«نعم، مع دارسي.»

«لا.»

«نعم.»

أحس بضعف شديد في باطنه.

«تحققتِ داخل المنزل؟»

«الأبواب مغلقة. هتفتُ بأعلى صوت. لا أحد هناك.»

ارتدى چوزيف بُرنسه على عجل ثم ركض إلى الخارج، انطلق بأقصى سرعة على السلالم متجهاً إلى الطريق. راح المطر ينقر عنيفاً على الشجيرات. وصل إلى المنزل الآخر، تخبطت قدماه في الشرفة، قرَع الأبواب والنوافذ منادياً دارسي. كان المنزل مقفراً. خلْف النوافذ حواجز من السلك حالت دون أن يبصر الداخل المعتم، ولكن ما عجَز عن رؤيته أمده به خياله جلياً كل الجلاء: غرف فارغة، كل شيء معبأ بسرعة ومهارة في جوف الليل البهيم، دارسي تستقل السيارة باستعجال مع بقيتهم لتنطلق صوب البلد الفسيح.

ألمَّ بجوانحه شعور بالرعب. عاد مترنحاً إلى الطريق ثم اعتلى السلالم بساقين مرتعشتين وقلب يدق دقاً في صدره. كانت إليس تمسك سماعة الهاتف.

«هل تتصلين بالشرطة؟»

تبدى على ملامحها العبوس وهزت رأسها.

إن لم تكن تتصل بالشرطة، لا بد أن هذا يعني أنها لا تظن المسألة خطرة مثلما ظن. وقَع في نفس چوزيف شيء من الهدوء إلا أن للهدوء بريقاً زائفاً يعهده من الأيام الإيجابية النادرة مع مؤشر داو وكأن حقيقة جوهرية ما غابت مؤقتاً من الحسبة. ثم طرَق ذاكرته مجدداً أن إليس لم تَحضر المشهد في متجر تيلور، فتكشف له فجأة أن زوجته لا فكرة لديها عن نوعية الشخصين اللذين يتعاملان معهما.

حطت السماعة ثم اتصلت برقم آخر. أدرك أنها تتصل بمطاعم قريبة لتتبين إن كان خاطفا ابنتهما ربما خرَجا ببساطة لتناول الإفطار. تراءت الفكرة لعقله ساذجة بشكل لا يطاق. وقَف هناك، جامد الحركة لا حول له ولا قوة، يتطلع إلى مطر يهطل بغزارة.

أغلقت السماعة مجدداً، «لا فائدة.»

«ماذا سنفعل؟»

«وماذا تقترح يا چوزيف؟»

«أظن لا بد أن نتصل بالشرطة. ما هو طراز سيارتهما؟»

«يا للمصيبة! إنني حتى لا أَعرف اسمهما بالكامل.»

«اتصلي بالشرطة؟»

«وماذا أقول لهم؟ اِتصل أنت.»

تناول السماعة غير أنه وجد نفسه عازفاً عن الاتصال وكأن الاتصال سيسبغ على الموقف واقعية إضافية لم يكن مهيأ لاحتمالها.

«ربما خرَج واحد منهما فقط، والآخر لا يزال قريباً في مكان ما مع الفتاتين.»

«وماذا يفعلون؟»

«لا أَعرف. يقطفون التوت أو ربما مضوا إلى المحيط...»

«في هذا الجو؟»

«لم تكن تمطر منذ قليل. سأذهب لأتأكد. انتظري هنا...»

خرَج من المنزل عدْواً مرة أخرى. التف الطريق الرملي حول البركة صوب سلسلة من الكثبان. حلَّت محل الأشجار زهور برية ثم أعشاب بحرية حادة الأحرف جرَحت كاحليه. تقوضت الرمال تحت قدميه أثناء الصعود، نصف خطوة إلى أسفل في مقابل كل خطوة إلى أعلى. وحينما انتهى إلى الحافة العلوية، كانت أنفاسه تتهدج تهدجاً وقلبه يخفق عالياً في أذنيه. قذفت الرياح وجهه بسياط المطر والرشاش المالح. خفَض بصره إلى الشاطئ. كان الحد الضيق بين الكثبان والأمواج يكتسي في الأصباح المشمسة بمناشف ومظلات مرفرفة وأشكال بشرية صغيرة في مايوهات زاهية. كانت الصورة تستثير دائماً عاطفة چوزيف: الحياة تتفتح هشة بين بيئتين لا تَصلحان لإيواء البشر. كانت الآن خالية، ولا شخص مرئي على امتداد طوله ميل من الرمال المبتلة. تسابقت أمواج قاتمة مع الرياح لتنفجر على الشاطئ. طارت طيور النورس صارخة فوق الأمواج المتكسرة.

هل حلَّت به؟ هل هذه هي الكارثة التي شعر بها تُعد نفْسها داخله؟ اتضح له فجأة إحساسه الملتبِس الدائم بنفسه: آدمي خطاء آثم، مذنب ينال عقابه. اعتراه شعور بالفزع. بزغت في ذهنه أفكار طفولية. الكفارة، القربان... هناك ساعة، ساعة نفيسة بلورية ببندول اشتراها بسعر زهيد من مدينة آشڤِل في وقت سابق من ذلك العام. لو ألفى ابنتهما في المنزل حين يعود، سوف يضحي بالساعة. سوف يدمرها، يهشمها تهشيماً في غرفة متجره الخلفية. لا، الأحرى به أن يعيدها إلى التاجر الذي باعها له ويسأله المغفرة لاستغلاله. وحتى ذلك الحين – ليبرهن أنه ليس مستعداً لتقديم قربان لقاء مكافأة مضمونة فحسب (الظاهر أن الحالة الدينية البدائية التي نزَلت به أتت مضافاً إليها أدق تفاصيل العقيدة) – قطَع على الفور عهداً بتغيير حياته بأسرها. أجلْ: سوف يكرس نفسه للفقراء والمعوزين وينقطع عن التدخين والإفراط في الطعام ومغازلة النساء والهوس بسوق الأسهم. الحق أنه سوف يطلب من إليس أن تبيع الأسهم، وسوف يتقبلان الخسائر بدون شكوى. غمرته الفكرة بنشوة جامحة تكاد تكون موجعة: إذ لمَح فيها على ما يبدو إمكانية وجود جديد، وجود يشي بهدوء بهيج هائل. ومع أن جانباً آخر من نفسه وعى أن الوفاء بواحد وحيد من هذه الوعود غير وارد (كانت تلك الساعة مخصصة لدفع مصاريف هذه العطلة)، رجَع أدراجه إلى الطريق وقلبه عامر بالإيمان والأمل.

عندما وصل، كانت ڤيرونيكا لدى المنزل ومعها الفتاتان. كانت تتحدث إلى إليس في الشرفة خارج المطبخ. التقى طرفها بچوزيف فلوحت بيدها ضاحكة.

هتفت به، «كنا نلعب في منزل فوق شجرة بالغابة. هال ذهب بالسيارة إلى البلدة ليشتري الفطائر.»

«آه!»

«نغلق دائماً الباب. هال يحب الاحتفاظ بأموال كثيرة في متناول يده.»

«مفهوم. مفهوم.»

«رجَعنا بمجرد أن سمعناكما يا جماعة تزعقان...»

رمت چوزيف بابتسامة عريضة وهو يخطو إلى الشرفة. كانت ترتدي تي شيرت أبيض وحذاء خفيفاً ذهبياً. تبدت قدماها العاريتان ذهبيتين أمام المطر الرمادي. عكس وجهها نظرة خبيثة، «ماذا ظننتما؟»

كان قد شعر بالارتياح لحظةً لرؤية ابنته إلا أنه شعر الآن بالحرج.

«لا شيء... كنا فقط، يعني، نتساءل أين أنتم.»

لمست ذراعه وتألقت عيناها بابتهاج لا مزيد عليه.

«لقد أرعبناكما، هه؟»

«لا، لا...»

أشاح بوجهه كمن يشيح عن وهج ساطع غير مريح. تمتم أحد الأعذار ثم دلف إلى المطبخ. سرعان ما بدا له ذعره على الشاطئ عبثياً يكاد يبعث على الخجل. يا لها من حالة أقحم نفسه فيها! شغَّل الراديو. كان التقرير الصباحي لبرنامج الاقتصاد ماركتبليس على وشك أن يذاع. رفَع بطيخة من الثلاجة ووضعها على الطاولة ثم قطَع لنفسه شريحة سميكة. أكلها بشيء من العصبية وهو ينصت إلى الراديو.

التعليقات