18/09/2011 - 21:57

غزّة، أنفاق مفخّخةٌ بالقلوب! / رأفت آمنة جمال*

كانت قضيّة "راشد حسين" تجمعنا. أمّا الآنَ، فما يجمعني بطاهر، هو تقمّصه السّبب الّذي أعادني إلى الكتابة والنّشر، بمجرّد أنْ أصبح شخصيّةً تُحرّض على الكتابة. فهذا الشّاب الّذي اجتاحَ حصارَ غزّةَ، استطاع أن يحوّل الحُبّ إلى فعل مقاومة. دون أن يقصد أو يدري، في مشهد سرياليّ كلّ ما فيه يحرّض على إشهار القلمِ، لأستأنفَ قصّةً بدأها غيري في لحظة صدق، كادت تشطرها قذيفة إسرائيليّة!

غزّة، أنفاق مفخّخةٌ بالقلوب! / رأفت آمنة جمال*

وحدَهم الّذين فقدوا كلّ "أشيائهم"، ولم يعُد لديهم ،في جُيوبِ رَغَباتهم الواسعةِ، ما يخسرونه سوى الكرامة وحُلُم بوَطن قريبٍ / قريب جدًّا/

أقرب من أيلولَ الحاليّ. وحدَهم فقط، يستيطعون المضيّ بكامل حياتهم نحوَ الموت، مُمتَلِئينَ بعشق أكبر لها.. ليغدوَ الموتُ في قاموسهم حياةً أيضًا.. ولعلّها -في القاموس ذاتِهِ- أفضلَ من مجرّد حياة تُقاسُ بالأنفاس، نبضاتِ القلبِ، ودَرجةِ حرارةِ الجَسد الخالي مِنَ الدّفء إلّا تحت سياط الجلّادين السّاخنة لهفةً لتلك الجلود الصّلبةِ..!

*

قرأتُم ،كما قرأتُ أنا، عن "طاهر".. الشّاب الفلسطينيّ الّذي أحبّ فتاة من غزّة، اسمُها ريتا. فسافر إلى مصر ليدخل غزّة المحاصرَةَ عن طريق الأنفاق الّتي حفَرَها الفلسطينيّون في غزّة لتكون متنفّسًا لأهل القطاع المحاصرين، فـ "يهرّبون" عبرها الطّعام والحليب و ربّما السّلاح!

 

أعرفُ طاهر جيّدًا.. قبل ثلاث سنوات هاتفني. لم نكن نعرفُ بعضنا. أخبرني نيّته إخراج فيلم يوثّق سيرة حياة شاعر المقاومة الفلسطينيّة راشد حسين، طالبًا مقابلتي.

 

إلتقينا..

 

لقاء رتّبه لنا راشد حسين، الغائب منذ أكثر من ثلاثين عامًا!

(هكذا هم الشّعراءُ دومًا، يصنعون لنا أقدارنا.. حتى وهم غائبون)

زارني طاهر أكثر من مرّة. صوّرت معه مشاهد في فيلمه، فصار صديقي.

السّبب الذي قادَنا إلى بعضنا جعلني أحترمه كثيرًا، ليس لأنّ راشد حسين عمّي، لكن إيمانه بقضيّة هذا الشّاعر وإصراره على تخليده بعمل ثقافيّ محليّ.. أثارني. فأنتَ حين تؤمن بشيء واحدٍ جميل، يغدو الجمالُ خاضعًا لإحساسك دومًا!

 كانت قضيّة "راشد حسين" تجمعنا. أمّا الآنَ، فما يجمعني بطاهر، هو تقمّصه السّبب الّذي أعادني إلى الكتابة والنّشر، بمجرّد أنْ أصبح شخصيّةً تُحرّض على الكتابة. فهذا الشّاب الّذي اجتاحَ حصارَ غزّةَ، استطاع أن يحوّل الحُبّ إلى فعل مقاومة. دون أن يقصد أو يدري، في مشهد سرياليّ كلّ ما فيه يحرّض على إشهار القلمِ، لأستأنفَ قصّةً بدأها غيري في لحظة صدق، كادت تشطرها قذيفة إسرائيليّة!

*

دخلَ طاهر غزّة، عقد قرانَه هناك على ريتا، وحين خرجَ من "حصارها" وجد نفسه في ضيافة قضبان إسرائيل.

الّذين يصفون "طاهرًا" بالمتهوّر الّذي ذهب إلى حتفه بقدميه، عليهم أن يخفضوا صوتهم قليلًا، لأنّهم نَسَوْا أنّ الشّهداء يذهبون  -أيضًا- إلى "حتفهم"، في لغة المتخاذلين!

بينما في الحقيقة، يذهب الشّهداء إلى انتصارهم.. تتقدّمهم قضيّتهم

ويذهب العشّاق إلى قضيّتهم.. تتقدّمهم قلوبهم.

حينَ سألت "طاهرًا" عن بعض تفاصيل زيارته إلى غزّة، تحاشيت بعض الأسئلة الّتي كانت تلحّ عليّ، ذلك أنّ ثمّة أسئلة يجب أن لا نطرحها خارج حدود نصوصنا الّتي نكتبها.. فأجمل الأسئلة هي تلك الّتي لا أجوبة ترافقها، لتظلّ شهيّة كجسد عارٍ ينتظر!

وأجمل الأجوبة، تلك الّتي لم نتلقّاها. تمامًا كما أنّ أجمل القصائد، هي تلك الّتي قرأناها لحبيباتنا وأمّهاتنا دون أن نكتبها ليقرأها سوانا.

أكثر من مرّة، رغبت في طلب طاهر هاتفيّا لأسأله: هل أخبرتَ أحدًا بتفاصيل "عمليّتك" هذه، قبل أن تغادر قريتك في الأراضي المحتلّة قاصدًا مصر فغزّة؟

تُرى هل هرّبتَ شيئًا في ثيابك حين كانتِ الأنفاقُ تهرّبك من الحرّيّة إلى سجنك؟

كما فعل محمّد الماغوط حين خرج من سجنه إلى الحريّةِ، فهرّب في ثيابهِ الدّاخليّةِ مذكّراتِهِ الّتي كَتَبَها على أوراقِ الـ "بافرا".

حينَ طالعتُ صورَ طاهر وريتا في غزّة، وقرأتُ ما صرّح به طاهر لوسائل الإعلام، باتت تغمرني الأسئلة قبالة مشهد لقائهما: هل التقيتُما في مكانٍ، افترقَتْ بنتٌ فيه عن أبيها تحت القصف؟

هل تعانقتما على أرضٍ كانت لمسجدٍ قبل العدوان، فهُدِّمَ وسقطَتْ مئذنتُهُ حيث تنتصب الآنَ قدماكما حُبًّا.. لأردّد: الله أكبر؟

تُرى.. كم جسدًا عانقته القذائفُ فتحوّل إلى أشلاءٍ في الرّقعة ذاتها الّتي تعانقتما فوقها؟

هل قبّلتما بعضكما على مرمى من صاروخٍ لا يزال مكانه، مصرًّا على تذكيرنا أنّه كان هنا، أم على هدير طائرات "قلقة" تحلّق فوق رأسيكما؟

أيكونُ هذا اللّقاء -لقاؤكما- إعادة اعتبار للحظات الفراق الحزينة، في بلدٍ اعتادَ أهلُهُ عناقَ بعضهم بعضًا وهم على موعد مع الشّتات؟

*

لقد كان طاهر صادقًا، فلم ترافقه أيّة وسيلة إعلام -وهو المخرج أصلًا- لتصوّر حدثًا كان من شأنه -لو صُوِّرَ وبُثّ في حينه- أن يهزّنا جميعًا، فلحظات الحُبّ والفرح تلك، جديرة بالتّصوير والتّخليد كلحظات الحُزن والقتل الّتي تعيشها غزّة، ونعيشها معها.

كان من حقِّنا -أيّها الجميلان- أن نصرخَ أمامَ عناقكما ودمعكما: "الله أكبر" مختلفةً عن تلك الّتي كنّا نصرخها أمام مشاهد الدّمار والجُثث.

وكانَ يجب على هذه الـ "إسرائيل" أن تشاهد جيّدًا كيف يكسر حُبّ ثنائيٌّ حصارًا دوليّا.

إسرائيلُ الّتي لطالما اعتبَرَتْ أنفاقَ غزّةَ وسيلةَ إمداد لوجستيّ حيويّة لحركات المقاومة، كان عليها أنْ تدركَ جيّدًا أنّ الأنفاقَ الّتي كانت تهرّبُ الخبزَ للجوعى، والسّلاحَ للمقاومين.. صارتِ الآنَ تهرّبُ العشّاقَ لأحضانِ بعضهم. هي أنفاق مفخّخة بالخبزِ حينًا، وبالقلوب الموقوتة حينًا آخر.

إنّ إسرائيلَ هذه، لا تفرّقُ بين تهريبِ الأسلحةِ عبرَ الأنفاق، و تهريبِ القلوب!

وهي لا فرق لديها بين فدائيّ وعاشق في غزّة. أو بين صاروخ يُطلَقُ من غزّة باتّجاهها وقنينةِ حليبٍ تدخلُ إلى طفلٍ في غزّة عبر الأنفاق الّتي بات فيها العاشق والفدائيّ والبندقيّة سواسية أمام الحقّ.

فمشكلة إسرائيل -كما نُدركُ جميعُنا- هي ليست "حماس" أو غزّة أوحتى فلسطين الجغرافيّة. إنّ المشكلةَ الحقيقيّة لديها، هي الإنسانُ الفلسطينيّ بحدّ ذاته، عاشقًا كان أم فدائيّا أم طفلًا.

ولا فرق لدينا بين هؤلاء أصلًا!

إنّ كلّ قُبلة على خدّ "ريتا"، هي صفعة على خوذة ذلك الجنديّ الاسرائيليّ الذّي "يحرس" غزّة من أهلها. وكلّ لحظة عناق بين "ريتا" و "طاهر" عليها أن تطهّرَ ذهنيةَ "حماس"، غير القادرة أصلًا على تصوّر عاشقَيْنِ يتعانقان في غزّة جهرًا.

هذا اللّقاءُ لو حضرْتُهُ لبكيت!

لو كنتُ مع طاهر وريتا، لفضحتني العَبَراتُ أمام لقاء قمّة حقيقيّ، يؤمنُ بقضيّة، فيتحدّى، يقرّر وينفّذ، لا كتلك اللّقاءات الّتي أوهمنا قادتُنا العرب أنّهم يعقدونها لفكّ الحصار عن غزّة. فكانت النّتيجةُ أن فكّت الشّعوب رِقابهم، وحاصرت جبروتهم الفارغ.

*

أنا لا أعرفُ كيف يكونُ الحُبّ مُتبادَلًا بين طرفين. لقد جرّبتُهُ مرّتَين.. ولكن بمفردي.

ولكنّني أعرفُ كيف يكونُ الحُبّ متبادلًا بيننا وبين ما نعتبرُه قضيّتنا.

وأذكر أنّي قرأتُ للموسيقار إلياس الرّحباني عبارةً تقول: "الأوطانُ لا تُقاسُ بمساحاتِها، بل بعظمائها".

تمامًا كما الحبّ الّذي لا يمكننا قياسُه بتعريفاتِ الشّعراءِ والفلاسفَة المختلفين فيما بينهم حولَه، ولا بإحساسنا الّذي لا نملكُ أنْ ندركَه أصلًا لنعرّفه.

بأفعالنا ،نحن العشّاق، يقاسُ الحبّ. كما يستطيع موتٌ -بطريقة ما- أنْ يخلّدَنا أكثرَ من مسيرة حياةٍ حافلة، بإمكانِ زلّة حُبٍّ أنْ تضَعَنا في قائمة أكبر العشّاق الحقيقيّين.

يكفي أنْ تتأبّط مشاعِرَك الّتي لطالما أخفَيْتَها. إكشِفْ عن قلبك كما السّاعينَ إلى التّظاهر طلبًا للحريّة، حيث صدورهم للرّصاص عاريةً. وانطلق.. حيثُ للإنسانِ قضيّةٌ تحميه...

 

 

ملاحظة: أنا لا أعرف "ريتا".. ولكنّني أستطيع أن أنحني "لإله في العيون العسليّة".

http://arabs48.com/?mod=articles&ID=84918

 

* كاتب من الدّاخل الفلسطينيّ.

التعليقات