ماذا يعني لنا «المكان»؟
دقيقة ونصف كانت كفيلة لشرح حكاية المكان، حكاية نهبه وتهويده وتغيير معالمه، حكاية الألم والطرد، وسياسة التهجير القسريّ المستمرّة الّتي ينتهجها الاحتلال الإسرائيليّ منذ 73 عامًا. فيلم «المكان - The Place» للمخرج الفلسطينيّ الشابّ عمر رمال، من مدينة سلفيت شمال الضفّة الغربيّة، يحكي ببساطة كيف سُرِقَت البلاد وطُرِدَ سكّانها، مقدّمًا السرديّة الفلسطينيّة في أربعة مشاهد منفصلة ومترابطة، جاذبة وصادمة، في الوقت ذاته؛ فالتناقض الصارخ يطال كلّ مشهد، ما بين سعادة الحديث عن مكانك المفضّل في المنزل، وما بين شراسة النهب الّذي يطال المقتنيات والذكريات في المشهد الخلفيّ.
يُدْخِلُنا رمال من بداية فيلمه الدراميّ إلى المكان، المنزل، الحيّز الخاصّ الأوّليّ، المنزل بوصفه الوطن، ذات العلاقة وذات التعلّق، وذات حالة الفقدان والتشظّي العامّ الّتي أصابت الفرد والجماعة. بحرفيّة فنّيّة، ورؤية إخراجيّة واضحة، وبنصّ قويّ لكنّه مكثّف وغنيّ بالعاطفة، يحاول أن يقول ماذا يعني لنا المكان: أربعة أشخاص: الأمّ، والابن اليافع، والابنة الطفلة، وأخيرًا الأب، يجيبون بسعادة وهدوء عن سؤال واحد: ما مكانك المفضّل في البيت؟
مشتغلًا على التناقض، يُبرز رمال كيف تتمّ عمليّة السطو في الخفية والعلن، كاميرا ثابتة وأربعة مشاهد متسارعة، لكنّها تفيض بالمشاعر. في ثوانٍ معدودة تتّضح الصورة الحقيقيّة لحالة النهب الجنونيّة، يتبعثر فيها انتباه المشاهد بين الاهتمام المنصبّ على سعادة أهل المنزل، ببوحهم الوجدانيّ عن علاقتهم بالمكان، وما بين الصدمة نتيجة ما يراه خلف حالة البوح هذه، من تفتيت وسرقة.
المهمّ في فيلم رمال، لم يكن فقط الإشارة إلى سرقة المكان بجدرانه وتفاصيله المادّيّة، بل إلى سرقة ذاكرته أيضًا، ذاكرة تفاصيلنا اليوميّة الّتي تربطنا به، عاطفتنا الّتي تجمعنا مع أفراده؛ تخيّل حبّك لمنزلك، لغرفتك، تعلّقك بكنبتك المفضّلة، تفاصيلك، أشياءك الصغيرة؛ هنا كنّا نطبخ بحبّ، وهناك كنّا نحكي الحكايات، وتحت شجرتنا كنّا نردّد الأغاني والنكات.
أفراد العائلة
يبدأ الفيلم مع الأمّ (أداء هند حامد)، تنظر نظرة هادئة مفكّرة، تقول مبتسمة: "أكتر مكان بحبّه بالدار مطبخي؛ مش لأنّه طبخي زاكي؛ لأنّا هون بنجتمع، بنطبخ، بناكل، بنحكي، المطبخ عندنا مبهّر بالحُبّ".
تتّسع لقطة الكاميرا شيئًا فشيئًا، يرافقها صوت مجموعة من المستوطنين الّذين يظهرون منشغلين في لملمة كلّ شيء في مطبخها الّذي تحبّ؛ لتتّضح الصورة كاملة للمشاهد. في المشهد الثاني تنتقل الكاميرا إلى فتًى (أداء خالد زماميري)، يشعل سيجارته بخفّة، يجيب بمرح وعفويّة على ذات السؤال: "أكثر مكان بحبّه في البيت هو غرفة القعدة"، ثمّ يضحك على مشاغباته مع والدته بسبب رائحة الدخان، في ما ينشغل مستوطنون آخرون من خلفه، بالاستيلاء على تفاصيل الغرفة، وفكفكة ما فيها من أثاث، أمّا المشهد الثالث فنرى طفلة صغيرة (أداء عروب علاونة) تحمل دميتها، تجلس على سريرها، تقول بسعادة إنّها تحبّ غرفتها، وبيت الألعاب الّذي صنعه لها والدها، ثمّ تبوح ببراءة عن حلمها ببناء بيت لها في المستقبل كأمّها، ومن خلفها نشاهد ذات أيدي المستوطنين الزاحفة تواصل عمليّة النهب.
هكذا بين شظايا المكان والزمان، سرد رمال حكاية مختصرة، أخرجت الرواية الفرديّة إلى الحيّز العامّ، إلى الرواية الجمعيّة الّتي لا تزال تعيش النكبة بتفاصيلها، حكاية الوطن الّتي بدأت في النكبة ولم تنتهِ في حيّ الشيخ جرّاح...
لا يمكن الحديث عن المكان بمعزل عن بعده الزمنيّ، السنوات الّتي تجعل منه أكثر من مجرّد منزل وجدران، أن تكبر ويكبر كلّ شيء معك، أنت لا ترى المكان مجرّدًا، بل تستمع لكلّ ما يرتبط به من يوميّات وذكريات. في آخر الفيلم يظهر الأب (أداء رائد نوباني)، يحكي لنا عن الشجرة في ساحة الدار الّتي زرعها جدّه عندما عمّرها، وكم كان يحبّها، ويهتمّ بها، كأحد أبنائه، وكيف تجتمع العائلة تحت ظلّها؛ يقطع المستوطنون حديثه ويطردونه من فيء شجرته، ويغطّون الكاميرا الّتي تصوّره. وينهي رمال فيلمه بالعبارة: "المكان هو إحنا... هو وجودنا... ذكرياتنا ومستقبلنا، آن للنكبة ألّا تستمرّ".
من الشيخ جرّاح إلى الوطن
«المكان» نشره رمال في قناته الرسميّة على يوتيوب، وعبر حساباته على مواقع التواصل الاجتماعيّ، وحقّق متابعة كبيرة، وجرى تداوله على نطاق واسع. تزامن توقيته مع الهبّة الّتي انطلقت دفاعًا عن حيّ الشيخ جرّاح في القدس المحتلّة، في مواجهة سياسة الاحتلال لطرد أكثر من 500 فلسطينيّ من 28 أسرة من سكّان الحيّ، لصالح المستوطنين الجدد، الّذين ينعمون بكامل الحرّيّة بالسكن والعمل، وممارسة هوايتهم وصلاتهم.
هكذا بين شظايا المكان والزمان، سرد رمال حكاية مختصرة، أخرجت الرواية الفرديّة إلى الحيّز العامّ، إلى الرواية الجمعيّة الّتي لا تزال تعيش النكبة بتفاصيلها، حكاية الوطن الّتي بدأت في النكبة ولم تنتهِ في حيّ الشيخ جرّاح، هي سياسة ممنهجة تؤكّدها مقولة المستوطن المدعوّ ياعكوف، الّذي استولى على منزل عائلة الغاوي في حي الشيخ جرّاح: "إذا لم أسرقه أنا، فسيسرقه شخص آخر".
جدليّة المكان ظلّت حاضرة في الذاكرة الجمعيّة الفلسطينيّة، وفي الشعر والأدب، لكنّ الفلسطينيّين استعادوا حيّز المكان الّذي فقدوه من جديد، في أراضي 48، في الشيخ جرّاح، في الضفّة، بكلّ الأدوات الممكنة والمتاحة، طغى الحضور الفلسطينيّ، رغم كلّ محاولات اقتلاعه، إنّها مفارقة اقتلاع شعب منذ 73 عامًا، ونهوضه من جديد، في مواجهة التشرذم.
«المكان» فكرة عمر رمال، 23 عامًا، وسيناريو سليمان تادروس، وإنتاج عبد الرحمن أبو جعفر، وسبق لرمال إنتاج فيلم «فاطمة»، وهو وثائقيّ قصير عن طفلة سوريّة لاجئة، وشارك في العديد من المهرجانات.
أنقذناها من الدار
المنزل الّذي يستولي عليه المستوطنون في حيّ الشيخ جرّاح، هو ذاته الّذي دمّره وسرقه الاحتلال عام 1948، وهو ذاته الّذي يُقْصَف ويدمَّر في قطاع غزّة، في الفيلم الديكودراميّ القصير «أنقذناها من الدار» للمخرج الفلسطينيّ ناجي سلامة، الّذي يحكي في دقيقة ونصف، قصّة إنقاذ طفلين لسمكتهما «حور»، بعد قصف منزلهما في غزّة. نشاهد البيت الّذي تدمّر بفعل صواريخ الاحتلال، لكنّ السؤال هنا مختلف، فالمخرج يدفعك لأن تسأل نفسك: ما الشيء الّذي ستنقذه في اللحظات الأخيرة قبل قصف المنزل؟
كاميرا ثابتة أيضًا، نرى من خلالها المشهد الأوّل، هذه المرّة على وعاء زجاجيّ صغير بداخله سمكة، على طاولة المنزل، تُظْهِر حالة الهدوء في ما تتحضّر العائلة لتناول طعام الغداء، يبدأ القصف، فيُهْرَعُ الوالدان لإنقاذ ولديهما أحمد وناريمان، في ما يحاول أحمد إنقاذ السمكة، لكنّها تُرِكَتْ وحيدة كما حصان درويش؛ فالبيوت تموت إذا غاب سكّانها، أمّا هي فنجت في وعائها الصغير بأعجوبة من بين الأنقاض، كما نجا الطفلان، اللذان يظهران في فيديو تسجيليّ، يقولان بسعادة غامرة أنّهما أنقذا السمكة من الدار، تقول نانا: "والحين العصافير بدنا ننقذها".
كان لافتًا في اللحظات الأخيرة قبل القصف والإخلاء، التقاط الأب مفتاح البيت من جانب وعاء السمكة، إنّها متلازمة «العودة» الّتي يحملها الفلسطينيّ، حتّى في حالة المنزل المدمّر.
القصص الّتي لا نرويها...
إنّ هذه الأفلام على بساطتها، تفسح المجال عميقًا، لرصد الحالة الفلسطينيّة على المستويين الإنسانيّ والاجتماعيّ، بعيدًا عن نمطيّة صورة الضحيّة، وتسهم في إعادة تشكيل الوعي وبنائه، خاصّة أنّها متاحة للجمهور، على كلّ المنصّات بلا حقوق نشر؛ من أجل إيصال صورة الفلسطينيّ ومعاناته للعالم، وهي جزء من الرواية الجامعة، للذاكرة الفلسطينيّة، فالقصص الّتي لا نرويها تصبح ملكًا لأعدائنا، كما يقول الكاتب إبراهيم نصر الله.
ببساطة، يمكن أيّ أحد أن يسأل نفسه ذات الأسئلة؛ ما مكاني المفضّل في المنزل؟ ثمّ أن يتخيّل كيف سيُسْلَب منه، أو أن يسأل نفسه مثلًا؛ ما الشيء الوحيد الّذي ستحاول إنقاذه لحظة قصف منزلك؟
ببساطة، يمكن أيّ أحد أن يسأل نفسه ذات الأسئلة؛ ما مكاني المفضّل في المنزل؟ ثمّ أن يتخيّل كيف سيُسْلَب منه، أو أن يسأل نفسه مثلًا؛ ما الشيء الوحيد الّذي ستحاول إنقاذه لحظة قصف منزلك؟
كيف نجت السمكة في وعائها الزجاجيّ الهشّ من قصف صاروخيّ مدمّر؟ كيف تنجو ذاكرة «المكان»؟ كيف ينهض شعب كلّ يوم، من كلّ محاولات الاقتلاع الممتدّة على مدار 73 عامًا؟ إنّها المستحيلات العشرون الّتي وصفها الشاعر الفلسطينيّ توفيق زيّاد... وأكثر.
إعلاميّة وباحثة ومقدّمة برامج تلفزيونيّة. لها كتاب بعنوان «السينما الفلسطينيّة الجديدة... صورة البطل ودلالاته».