أحبّك خضراء: سينما فلسطينيّة بلغة الحرّيّة

من فيلم «اليد الخضراء» (2022)

 

أيّار وذاكرة الهبّة 

قدّم «متحف الفنّ العربيّ الحديث» في الدوحة، في مبادرة «سينما متحف» التضامنيّة مع الشعب الفلسطينيّ والقضيّة، سهرة سينمائيّة عُرِضَت فيها ثلاثة أفلام مختلفة في مضامينها، ومتّفقة في اتّجاهها؛ أفلام فلسطينيّة صُنِعت بأيادٍ وأفكار فلسطينيّة.

في الفيلم الأوّل «في العودة إلى هبّة أيّار» (Last May in Palestine)، عمل الصحافيّ الفلسطينيّ ربيع عيد على تقديم فيلمه مشروعًا للتخرّج في «جامعة ساسيكس»، في ماجستير «الصحافة» في بريطانيا، وقدّم لنا عبر عشرين دقيقة وثائقيّة مشاهدات مباشرة لـ «هبّة أيّار»، الّتي حدثت قبل عامين على إثر أحداث الشيخ جرّاح آنذاك. وقد حاول الفيلم أن يرصد الشارع الفلسطينيّ في لحظة الهبّة، والصراع المباشر مع الشرطة الإسرائيليّة في الشوارع، عبر مشاهد تختلط فيها العربيّة والعبريّة، الصراخ والتهديد، الحرّيّة والقمع، الشارع والبيت، الكاميرا والشرطيّ. من جهة أخرى، قدّم عيد نفسه، من خلال عائلته، ليمنح صوته الصحافيّ، بُعْدًا فلسطينيًّا أيضًا، بصفته جزءًا من هذا الصراع اليوميّ، لا دخيلًا أجنبيًّا عليه، وقد اشتغل عيد على ذلك من خلال محادثات صغيرة وقصيرة مع أمّه وأبيه.

 

 

يتوجّه الفيلم، الحائز على «جائزة المخرج الناشئ» في النسخة التاسعة عشرة من «مهرجان الأرض السينمائيّ» في كالياري الإيطاليّة، إلى المشاهد الأجنبيّ في خطابه، كما يبدو لي، فهو يحاول أن ينقل صورة عن العمل الصحافيّ تحت الاستعمار من جهة، وأن يكشف عن تعقيدات الوجود الفلسطينيّ بمختلف مكوّناته تحت حكم النظام الإسرائيليّ في أراضي. إلّا أنّني لم أستطع أن أجد إجابة واضحة لي عن سبب إسقاط كلمة ’هبّة‘ في عنوان الفيلم الأجنبيّ. الكلمة القادرة على منح بُعْد وسياق أعمق للحظة، والكلمة الّتي يحدث من خلالها التفكير؛ إذ تعكس معاني جوهريّة لما حدث في فلسطين في هذه الفترة. كان يمكن للعنصر اللغويّ أن يكون بذلك عنصرًا أكثر فاعليّة ومساحة للتفكير خارج مفردات الحداثة المفروضة علينا معرفيًّا.

 

كأنّنا عشرون مستحيلًا 

أمّا الفيلم الثاني «كأنّنا عشرون مستحيلًا» (Like Twenty Impossibles)، فهو فيلم قصير (16 دقيقة) صَدَر عام 2015 من سيناريو المخرجة الفلسطينيّة آن ماري جاسر وإخراجها وإنتاجها. وهو فيلم يدمج بين الواقعيّ والمتخيّل، تنقل فيه جاسر لحظة صناعة الفيلم الفلسطينيّ في فلسطين، أو اللحظة السينمائيّة في الحياة الفلسطينيّة؛ لتنتبه وتنبّهنا نحن المشاهدين إلى هذه الملاحظة الحسّاسة والمؤلمة؛ في كوننا نعيش في لحظة سينمائيّة لا تتوقّف أبدًا، ولهذا لا يمكننا أن نتوقّف عن تشغيل الكاميرا، لا يمكن أن نطفئ كاميراتنا عن هذا الواقع وعن أبطاله وأشراره.

 

 

وفي هذه الإشارة أودّ أن أعود إلى مقولة محمود درويش في قصيدته «لم يسألوا ماذا وراء الموت» الّتي يقول فيها: "حياتنا عبء على ليل المؤرّخ: كلّما/ أخفيتُهم طلعوا عليّ من الغياب/ حياتنا عبء على الرسّام: أرسمهم،/ فأُصبح واحدًا منهم، ويحجبني الضباب". وكذلك تكون الحياة الفلسطينيّة في وجودها اليوميّ، عبئًا على أيّ كاميرا؛ لأنّها السينما بذاتها؛ إذ لا يمكن أن تتلخّص في لحظات سينمائيّة متقطّعة.

 

اليد الخضراء 

أمّا في الفيلم الثالث «اليد الخضراء» (Foragers)، الصادر عام 2022، فتتفرّد جمانة منّاع في هذا الفيلم عن غيرها من صنّاع الأفلام الفلسطينيّة؛ لتأخذنا في رحلة برّيّة نحو وجه آخر للصراع الفلسطينيّ اليوميّ المعيش الّذي لا ينتهي، وقد لا يقترب من أشكال الصراع الموجودة في مخيّلة المتابع العربيّ والأجنبيّ.

يبدأ الفيلم من لقطة عالية وخضراء، من سهل أخضر يتحرّك فيه رجل وحيد يحتمي بشجرة، تترافق حركاته مع موسيقا توطّئ ذهن المشاهد للتوتّر الّذي سيعيشه مع الرجل المختبئ. يبدو المشهد الأوّل عمليّة فدائيّة ضدّ الاستعمار، لكنّ الفيلم سرعان ما يكشف عن وجهته، باستعراض لقطات قديمة من التلفزيون الإسرائيليّ تتحدّث عن الزعتر؛ الزعتر البرّيّ، والعكّوب، والعرب وخبزهم الوطنيّ. إذن، هذا هو الفيلم.

يستعرض الفيلم مجموعة من المحاكمات الكافكاويّة لشخصيّات فلسطينيّة متورّطة في قطف الزعتر والعكّوب. وبين الوثائقيّ والروائيّ، يتنقّل الفيلم بين شخصيّات عدّة تنتمي إلى أماكن مختلفة في فلسطين والأراضي المحتلّة؛ من جبال القدس، وقرى الجليل، وطبريّا، وصولًا إلى هضبة الجولان. وتقدّم كلّ شخصيّة مستوًى مختلفًا من الحياة الاجتماعيّة، إلّا أنّها تجتمع جميعها في ممارسة بيئيّة ثقافيّة حضاريّة توارثتها جيلًا بعد جيل.

 

 

لا يخلو الفيلم من اللون الأخضر على طول مشاهده، بل يبدع في تصوير النباتات والزرعات الّتي يأكلها أهل فلسطين وبلاد الشام عمومًا بشكل شبه يوميّ، من خلال استعراض طاولات الأمّهات اللّاتي يعملن على تنظيف هذه الخضراوات الّتي تدخل في صميم الهويّة الثقافيّة لهذه المنطقة وتقطيعها وفرزها. وفي الوقت ذاته، يأتي صوت المعلّق الإسرائيليّ وباللغة العبريّة في خلفيّة هذه الممارسة الحضاريّة؛ ليعلّق على كونها تجارة غير قانونيّة، وجريمة يحاسب عليها القانون؛ أي قانون الاستعمار الّذي يحظر قطف العكّوب وغيره من النبات بهدف حماية الطبيعة.

 

الصراع البيئيّ الحضاريّ 

وبذلك يسحب الفيلم الصراع الفلسطينيّ الإسرائيليّ من دوائره العسكريّة والاستيطانيّة، نحو بُعْد جديد بيئيّ يمسّ الشخصيّة الحضاريّة للفلسطينيّ عمومًا، والفلّاح الفلسطينيّ خصوصًا؛ إذ يصبح الزعتر محرّمًا والعكّوب تهمة للقبض على الحياة اليوميّة في الأراضي المحتلّة عام 1948.

يعتمد الفيلم على لقطات عليا تساعد المشاهد على فهم الجمال المتروك في هذه السهول الخضراء، وتستخدم المخرجة موسيقا إلكترونيّة حديثة مشوّشة، تمثّل هذه الفوضى الكافكاويّة في الفكرة ذاتها، وفي هذا القمع الّذي يستهدف الزعتر الفلسطينيّ والمحاكمات الغريبة. بينما تظلّ الشخصيّات الفلسطينيّة غير آبهة بجميع هذه القوانين، ومثابِرةً في فعل ما تعلّمَته من الأجداد ببساطة شديدة. يمكننا أن نلاحظ هذه المفارقة المهمّة، من خلال الاستناد إلى العنصر اللغويّ في عنوان الفيلم في اللغتين العربيّة والإنجليزيّة، الّذي أودّ أن أصدّق أنّه كان خيارًا فنّيًّا مقصودًا من المخرجة. حيث يبدو أنّ العنوان الإنجليزيّ سيعبّر عن وجهة نظر الحكومة الإسرائيليّة؛ كون هؤلاء الفلسطينيّين مجرّد باحثين عن الطعام (Foragers)، ومخرّبين للطبيعة كما تريد الحكومة الإسرائيليّة أن تقول، الحكومة الّتي تقتل الأرض يوميًّا، وتطلق الصواريخ يوميًّا، لكنّها تهتمّ بانقراض العكّوب).

في حين ينطلق العنوان العربيّ من إرث ثقافيّ عربيّ، ومن مفهوم مهمّ في الحضارة الزراعيّة في المنطقة، مفهوم اليد الخضراء، وهي اليد الّتي تستطيع الزراعة وتمنح الزرع الرعاية، وتقدر على المنح؛ اليد الخضراء الّتي ورثت حبّ الأرض عبر أجيال متتابعة من الأجداد وزرعهم.

ستتلخّص قدرة الزعتر البرّيّ على المقاومة، ومخاوف الاستعمار منه، الاستعمار الّذي يسرق كلّ ما هو فلسطينيّ من المطبخ حتّى آخر نقطة دم. ستتلخّص قدرة هذه النباتات، وقدرة الأرض، وقدرة اليد الخضراء الواهبة للحياة، عبر المشاهد البسيطة الّتي كرّستها المخرجة للنساء الفلسطينيّات في هذا الفيلم. النساء اللّاتي يشبهن جدّاتنا جميعًا، اللّواتي يطبخن لنا بكلّ حبّ، النساء اللّواتي يهبن هذه الأرض ونباتها معناها. ينتهي الفيلم بحوار عميق بين سيّدتين، وعبر لقطة بعيدة في سهل أخضر، وبيوت قديمة ترمز إلى فلسطين التاريخيّة، وربّما تعيدنا لمحمود درويش الّذي يقول: أحبّك خضراء، يا أرض خضراء.

 


 

موفّق الحجّار

 

 

 

شاعر وكاتب سوريّ، حاصل على ماجستير في الأدب المقارن من «معهد الدوحة للدراسات العليا».