’المختبر‘... وإسرائيل الّتي لا بدّ منها

منظومة القبّة الحديديّة الإسرائيليّة تعترض صاروخًا من عسقلان | جاك جوز (Getty).

 

عندما بدأت إسرائيل عدوانها على قطاع غزّة عام 2014، في عمليّة أسمَتْها بــ «الجرف الصامد»، كان الإعلام الأوروبّيّ حينذاك، ومن ضمنه السويديّ، يحاول ألّا يأخذ جانبًا واضحًا إلى جانب إسرائيل كما يفعل الآن، في محاولة لتقديم رؤية حياديّة تجاه القضيّة الفلسطينيّة الّتي تصفه غالبًا بــ "الصراع الفلسطينيّ الإسرائيليّ". هذا الموقف الّذي سمح حينذاك للتلفزيون الرسميّ السويديّ عرض فيلم «المختبر» [The Lab] (2013) للمخرج والصحافيّ الإسرائيليّ يوتام فيلدمان، الّذي كان توقيت إنتاجه وعرضه مهمًّا لفهم أكثر عمقًا لما يحدث في فلسطين، وإلى أين وصل الاستعمار في تطوير أدواته القمعيّة، ليس فقط للمشاهد الأوروبّيّ، بل أيضًا للمشاهد العربيّ والفلسطينيّ.

تضمّن العدوان الإسرائيليّ آنذاك على قطاع غزّة أهدافًا إعلاميّة أعلنها النظام الإسرائيليّ وأجهزته الأمنيّة والعسكريّة، كما في كلّ مرّة، رغم إدراكهم استحالة تحقيقها، مثل منع «حماس» ومنظّمات المقاومة الفلسطينيّة من إطلاق الصواريخ المحلّيّة الصنع على المستوطنات الإسرائيليّة. وكانت تلك الحجّة الّتي تستخدمها إسرائيل في كلّ مرّة لشنّ حرب جديدة على القطاع كلّ بضع أعوام؛ 2008-2009 في العمليّة الّتي أسمتها إسرائيل بـ «الرصاص المصبوب»، أو «معركة الفرقان» كما أسمَتْها المقاومة الفلسطينيّة، وفي عام 2012 «عمود السحاب» إسرائيليًّا، أو «حجارة السجّيل» فلسطينيًّا، وفي عام 2014 «الجرف الصامد» إسرائيليًّا، أو «العصف المأكول» فلسطينيًّا. وكذلك لاحقًا عام 2019 في معركة «صيحة الفجر» إسرائيليًّا، وعام 2021 في عمليّة «حارس الأسوار»، أو «سيف القدس»، وفي عام 2023 في عمليّة «طوفان الأقصى» كما أسمَتْها المقاومة الفلسطينيّة، أو «السيوف الحديديّة» إسرائيليًّا.

بدا ما يحدث حينذاك أشبه بسيناريو متكرّر تخلقه إسرائيل بشكل مدروس، تهيّئ ظروفه؛ لتخوض حربًا دمويّة، تستخدم فيها في كلّ مرّة، ما يصفه الأطبّاء الفلسطينيّون في مستشفيات القطاع بأنّها أسلحة تُسْتَخْدَم لأوّل مرّة؛ استنادًا إلى المعطيات الطبّيّة وطبيعة الضرر الّذي توقعه هذه الأسلحة على سكّان القطاع.

هذا السيناريو الّذي يبدأ غالبًا بحدث صغير أو ادّعاء إسرائيليّ أو استفزاز للفلسطينيّين، يقود غالبًا إلى صدام مسلّح غير متكافئ مع سكّان القطاع، حتّى لو بدأت شرارته في الضفّة الغربيّة. ولطالما تساءلتُ عن قدرة إسرائيل في كلّ مرّة على تحمّل كلفة هذه الحرب العالية جدًّا، إذا ما فكّرنا فقط على سبيل المثال في أنّ كلفة كلّ صاروخ تطلقه منظومة «القبّة الحديديّة» يصل إلى 60 ألف دولار أمريكيّ؛ ليتصدّى لقذيفة محلّيّة الصنع في غزّة قد لا تزيد كلفتها على مئات الدولارات.

 

الاستعمار بوصفه استثمارًا 

ما لم أفكّر فيه قبل مشاهدة هذا الفيلم، بصفتي فلسطينيًّا وُلِد ونشأ داخل نظام الأبارتهايد، أنّ هذه الحرب لم تكن عبئًا ماليًّا على دولة الاستعمار، إنّما صناعة وتجارة مربحة، وأنّ الاستعمار ذاته يمكن أن يكون صناعة اقتصاديّة مكتملة الأركان، لها أدواتها وإعلامها ومصانعها وسوقها كذلك، وتستثمر فيها دول غربيّة ترفع شعارات حقوق الإنسان؛ فجاء هذا الفيلم ليعطي مثالًا واحدًا عن صناعة الحروب المربحة، من خلال كيان واحد في سوق السلاح العالميّ، أي إسرائيل، حديثة النشأة مستعمرةً غربيّة على أرض الفلسطينيّين، تطوّرت لتؤدّي دورها الوظيفيّ المرتبط بالنظام الرأسماليّ الغربيّ، ولاعبًا مهمًّا ومنافسًا في سوق السلاح العالميّ.

 

 

يتناول الفيلم موضوعه من خلال مجموعة أسئلة، مثلًا: كيف أصبحت دولة صغيرة جديدة النشأة في ظروف غير طبيعيّة مثل إسرائيل، واحدة من أبرز مصدّري الأسلحة في العالم، ولاعبًا أساسيًّا في هذا السوق الّذي تُقَدَّر قيمته المعلنة بآلاف المليارات من الدولارات؟ وكيف صُمِّمت وطُوِّرت أدواتها عبر المعارك الدمويّة القصيرة، الّتي تخوضها في قطاع غزّة والضفّة الغربيّة ولبنان؛ لتجريب أسلحتها الّتي تصنعها، أو أسلحة دول أخرى مثل أمريكا وألمانيا وغيرهما، الّتي أجرت عليها الشركات الإسرائيليّة تطويرات جوهريّة جعلتها أكثر فاعليّة للقتل، عبر تجربتها فعليًّا في المختبرات الطبيعيّة في ساحات المعارك؟

لعلّ هذا أيضًا ما يفسّر مقولة الرئيس الأمريكيّ الحاليّ جو بايدن: "لو لم يكن ثمّة إسرائيل لتوجّب على الولايات المتّحدة أن تخترع إسرائيل". هذا الرابط الّذي يبدو جليًّا بأنّه مختبر السلاح وتجارته، الّذي ترتبط فيه مصانع السلاح، ورجال الأعمال والجنرالات الأمريكيّين والإسرائيليّين.

 

الحرب بوصفها مختبرًا 

يُعَدّ «المختبر» فيلمًا تحقيقيًّا سينمائيًّا، يمتلك أدواته السينمائيّة البصريّة والصحافيّة التحقيقيّة النظريّة معًا، وهي ميزة غالبًا ما تفتقر إليها الأفلام التحقيقيّة، في ما يتعلّق بتحقيق الشرط السينمائيّ. نظريًّا يمتلك فرضيّته الّتي كان صانع الفيلم قادرًا على تحقيقها وإثباتها بأدوات استقصائيّة حرفيّة، عن علاقة إسرائيل وجنرالاتها وقادتها السياسيّين بتجارة الأسلحة الدوليّة.

لا يتوقّف الفيلم عن طرح أسئلته وفرضيّاته الموضوعيّة، مثل؛ لماذا تصطفّ دول العالم لشراء الأسلحة الإسرائيليّة؟ وكيف يروّج المديرون التنفيذيّون الإسرائيليّون في شركات الأسلحة منتجاتهم بفخر بأنّها جُرِّبت ونجحت في ساحة المعركة؛ وهو ما يجعل المبيعات تتضاعف كلّ عام، مع تنامي الصراعات والحروب حول العالم؟

يجد صانع الفيلم إجاباته عبر الكشف عن العلاقة بين شبكة من الجنرالات العسكريّين والسياسيّين والشركات الخاصّة؛ تكون عبر استخدام العمليّات العسكريّة الّتي تخلقها إسرائيل وتخوضها ضدّ الفلسطينيّين وغيرهم من دول الجوار؛ وسيلةً ترويجيّة للأعمال التجاريّة الخاصّة بالأسلحة وتقنيّات التجسّس وابتكاراتها العسكريّة، وبيعها لمَنْ يدفع سعرًا أعلى.

لا يقدّم الفيلم إجابات كثيرة على هذه الأسئلة في ذلك الوقت فحسب، بل يضع تصوّرًا مستقبليًّا لما سيكون شكل نظام الأبارتهايد في السنوات المقبلة، إذ يظهر مع حروب جديدة ستفتعلها إسرائيل، أو صراعات دوليّة قد تقحم نفسها فيها. هذا ما نراه اليوم على سبيل المثال واقعًا ملموسًا من خلال حجم الأسلحة الّتي استخدمتها إسرائيل في حربها الحاليّة على القطاع، ونوعيّتها، إضافة إلى الأسلحة الجديدة الّتي تدفّقت إليها من الولايات المتّحدة والدول الأوروبّيّة الأخرى؛ لتجريبها في ساحة المعركة.

 

 

نجح مخرج الفيلم الإسرائيليّ فيلدمان في رسم صورة واضحة ومخيفة، لواقع منظومة الاستعمار وإسرائيل الحقيقيّة من الداخل، في رحلة سرياليّة يأخذ المشاهدين فيها، إلى عالم لم نكن نتخيّله بهذا الشكل؛ عالم تجارة الأسلحة والأمن لنرى رجال أعمال أوروبّيّين، وعربًا، ومن أمريكا اللاتينيّة، في أزيائهم الوطنيّة والعسكريّة، يجلسون في إحدى القواعد العسكريّة الإسرائيليّة، يشاهدون فيلمًا قصيرًا يعرض تأثير تلك الأسلحة في البشر في مدينة فلسطينيّة؛ فيصفّق الحضور في نهاية العرض القصير، الّذي قد يستمرّ لأقلّ من عشر دقائق، ويعقدون صفقات بملايين الدولارات. ولا بأس أيضًا من عرض مسرحيّ بعد الفيلم لمزيد من الترفيه للضيوف التجّار، يقدّمه جنود إسرائيليّون يلعبون ببنادق آليّة إسرائيليّة جديدة، يمكن إخفاؤها بدمية أطفال؛ لعلّها تُسيل لعاب هؤلاء التجّار أكثر لعقد صفقة أخرى.

 

إسرائيل الّتي لا بدّ منها 

وبجدّيّة لا تخلو أيضًا من روح السخرية، وإمكانيّة الوصول غير المسبوقة إلى تجّار الأسلحة الإسرائيليّين في عملهم اليوميّ، وغالبيّتهم من جنرالات الجيش المتقاعدين والحاليّين والسياسيّين، أثناء عقدهم الصفقات، وحضورهم في معارض الأسلحة الدوليّة، وعمليّات شحن الأسلحة؛ نرى من الداخل كيف تُطَوِّر شركات إسرائيليّة كبيرة وتختبر بضاعتها من أدوات الحرب المستقبليّة، وتبيعها في جميع أنحاء العالم من قِبَل وكلاء القطاع الخاصّ الإسرائيليّين، الّذين يتشاركون مع شبكة من السياسيّين الإسرائيليّين وقادة الجيش.

واقع مرعب يقوم في داخل دولة الأبارتهايد، الّتي لا يتوانى جنرالاتها عن زجّ أبناء الفقراء والطبقة الوسطى، من المستوطنين اليهود وغير اليهود، في معارك غير متكافئة مع أصحاب البلاد الفلسطينيّين؛ لفرض واقع جديد مذلّ عليهم، وإجبارهم على القبول بالأمر الواقع، واستخدامهم من قِبَل المنظومة الأمنيّة والعسكريّة الإسرائيليّة أهدافًا حيّة، في مختبرات السلاح الإسرائيليّ والأمريكيّ، تمهيدًا لتسويقه باستخدام مقاطع الفيديو ذاتها، الّتي تصوّرها وكالات الأنباء، لعمليّات تدمير مبانٍ كاملة بسكّانها، ونسف أحياء بأكملها، مع تأكيد عدد الضحايا دليلًا على فاعليّة السلاح في القتل.

إسرائيل وجهة محبّبة للكثير من جنرالات الجيوش والشرطة حول العالم؛ لاستيراد أحدث التقنيّات والأسلحة الإسرائيليّة وتكتيكاتها العسكريّة...

يثير الفيلم قضايا أخلاقيّة مهمّة، ويصف بمهارة سرديّة وصحافيّة مميّزة، كيف أنّ منظومة الاستعمار تصنع الحروب، وتحوّلها إلى أرباح بمليارات الدولارات. ويقدّم أيضًا نظرة فريدة على عالم تجّار الأسلحة الإسرائيليّين الّذين يبيعون الأسلحة والخبرات في قمع التمرّد الشعبيّ، والثورات الشعبيّة، والمظاهرات، وبناء جدران الفصل، وقتال المنظّمات المحلّيّة؛ ما جعل إسرائيل وجهة محبّبة للكثير من جنرالات الجيوش والشرطة حول العالم؛ لاستيراد أحدث التقنيّات والأسلحة الإسرائيليّة وتكتيكاتها العسكريّة، الّتي صُقِلَت من خلال القتال في الأراضي المحتلّة. وكيف أنّ السلاح ليس وحده ما يجذب المشترين الّذين يصرفون المليارات على ألعاب الحرب والسلطة والنفوذ؛ إذ تبيعهم الشركات الإسرائيليّة خبراتها أيضًا، تلك الّتي أدّى الصراع الطويل الأمد بين الدولة الأمنيّة والمقاومة المدنيّة أو غير النظاميّة، إلى خلق مختبر فريد من نوعه لاختبار التقنيّات والأفكار المتعلّقة بالحرب غير المتكافئة، وبهذه الطريقة قد ينظر جنرالات إسرائيل وقادتها السياسيّون إلى الصراع مع الفلسطينيّين باعتباره رصيدًا وطنيًّا.

وكذلك الأمر بالنسبة إلى دول أخرى، مثل الولايات المتّحدة الأمريكيّة، وبعض الدول الأوروبّيّة الّتي تسارع إلى الاستثمار في إسرائيل، الّذي يعكسه بوضوح الموقف الغربيّ من حرب 7 تشرين الأوّل (أكتوبر) الحاليّة، بصفته دفاعًا عن الاستثمارات؛ إذا ما علمنا أنّ خمس دول أوروبّيّة فقط استثمرت أكثر من 114 مليار يورو في الاستيطان في الأراضي الفلسطينيّة المحتلّة عام 1967، والمصنّفة حسب الاتّحاد الأوروبّيّ والقانون الدوليّ أراضي محتلّة، ويُعْتبَر الاستيطان فيها غير قانونيّ وشرعيّ، بحسب تقرير نشرته 33 منظّمة محلّيّة ودوليّة في العام الماضي.

 


 

مهنّد صلاحات

 

 

صحافيّ وصانع أفلام فلسطينيّ يقيم في ستوكهولم. يعمل مخرجًا ومنتجًا مستقلًّا مع عدد من الشركات السويديّة، والأوروبيّة، والعربيّة في مجال الإعلام وصناعة الأفلام. كتب عددًا من سيناريوهات الأفلام الروائيّة والوثائقيّة، بالإضافة إلى مسلسلات تلفزيونيّة.