30/03/2008 - 10:19

في اللامعقول الفلسطيني.. بين غزّة ورام الله.. وصنعاء ما بينهما!../ عبد اللطيف مهنا

في اللامعقول الفلسطيني.. بين غزّة ورام الله.. وصنعاء ما بينهما!../ عبد اللطيف مهنا
حقيقتان وملهاة يعكسان مأساةً يعيشها الواقع الفلسطيني هذه الأيام، وما يعيشه هذا الواقع راهناً هو ممتد ماضياً والأرجح أنه سيكون كذلك مستقبلاً، فلا أفق لبديل يلوح حتى اللحظة. الحقيقتان، أولاهما: احتلال مسنود الظهر كونيّاً ويغطّيه تواطؤ ودعم ورعاية وحدب ما يدعى "المجتمع الدولي" لصاحبه الغرب، وعلى رأسه القوة الأعظم في هذا العالم راهناً، الولايات المتّحدة الأمريكية، يساوي هذا و يعني على الأرض تهويداً مبرمجاً ومستمراً ومسكوتاً عليه، يجري على مدار الساعة لما تبقى من فلسطين. والثانية: انشغال الفلسطينيين، وأيضاً على مدار الساعة، بتشييع قوافل شهدائهم، صائحين، وظهرهم إلى الحائط، في وجه الاحتلال و التهويد والمذبحة الدائمة، وراعيه ومغطي سياساته، "المجتمع الدولي"، والعجز العربي، على طريقة سيدنا بلال: أحد، أحد... لتضيع الصرخات الصامدة المستضعفة في غياهب فجور الصمت الدولي ودونية الواقع الإقليمي الرهيبين.

أما الملهاة، فهي نوع من حالة التكاذب الوحدوي الوطني الفلسطيني، التي تحرص كافة الأطراف على نسجها جدلاً وسجالاً لا ينقطع، والذي لا يخرج نتيجةً عن مفهوم المثل العربي السائر، أسمع جعجعةً ولا أرى طحناً... الجعجعة الوحدوية تظل مأثرة فلسطينية خاصة، بل وكانت وتظل حلماً شعبياً حقيقياً منشوداً بل وضرورة وجود، وبالتالي باتت شعاراً لدى المختلفين، الدارج أن يتهم الطرف الطرف الآخر بمجافاتها. أما انعدام الطحن فمرده ما كان جوهراً سبب التكاذب وسرّه، ويمكن اختصاره ببساطة، في أن الساحة الفلسطينية للعقود الثلاثة الأخيرة، تعيش نهباً لبرنامجين لا جامع بينهما، ويستحيل منطقياً التعايش بين طرفيها. لأنهما نقيضان لا يتآلفان ولا يلتقيان، مهما غلفهما التكاذب، وحتى لو حسنت النية، وازداد ضغط قرابين الدم المسفوح، وضرورات البقاء، وحاجات حفظ الوجود، وقدسية القضية، وعظم ملحمة التضحيات، وكل ما يدفع المختلفين إلى نوع من الإستجابة لما قلنا أنه الحلم الوحدوي الشعبي الفلسطيني بحق، أو هذه المأثرة الفلسطينية جداً، وحيث يظل الفلسطينيون أكثر من يتمثّل المأثور القائل: أكلت يوم أكل الثور الأبيض...

البرنامجان، هما، المقاوم والمساوم، وللذين دفعت محاولات الجمع بينهما الساحة الفلسطينية إلى نوع من العبثية، لعل آخر مشاهدها الطافحة بالسريالية، ما شهدته العاصمة اليمنيّة صنعاء مؤخراً وعكسته وسائل الإعلام في طول عالمنا العربي وعرضه، ولازالت تداعياته، وربما إلى حين قد يطول، تتردد في جنباته. سنكتفي بهذا المشهد تدليلاً. ومنه فحسب ومقتصرين عليه، نبدأ الحكاية:

طرفا "السلطة" الفلسطينية في رام الله وغزة، الممثلان في المؤقتة والمقالة، "شرعية الرئاسة"، و"شرعية الانتخابات". حركتي فتح (المركزية) وحماس، تستجيبان للمبادرة اليمنية، التي حرصت على وصف نفسها بالمتكاملة مع سابقتها السعودية، أو ما يعرف ب"اتفاق مكة" المكرمة، وغير المقطوعتي الأسباب مع سابقتهما المصرية، المعروفة بـ"اتفاق القاهرة"، ويرتحل وفداهما إلى اليمن السعيد، بعد أن أثارا، عبر فصيح التصريحات، آمالاً شعيبية تتعلق أصلاً بأية قشة تلوح، علقت هذه المرة على جهود الأشقاء من ورثة حكمة أقيال حِمْيَر. لم يلبث سجال الأخذ والرد وتجاذب زجل إلقاء مسؤولية الفشل حتى قبل أن يكون الفشل على الطرف الآخر، أن انخفت، ليتم الإعلان الإحتفالي عن الاتفاق، ويجري التوقيع المتلفز على نص قبول المبادرة اليمنية، بين وفدي فتح وحماس، بعد أن استبعدت منظمة التحرير التي حاولت رام الله حشر وفدها في الحكاية دون جدوى... شاهد الفلسطينيون والعرب ومن يهمه الأمر في العالم عزام الأحمد وموسى أبو مرزوق يتعانقان بعد التوقيع بين يدي الرئيس علي عبدالله صالح... لكن وقبل أن ينفض الكرنفال الوحدوي، كانت التتمة غير المفاجئة أسرع من أي توقع مغالٍِ لحصولها، وحتى قبل أن يرتد طرف المضيفين لهم، وعلى الهواء مباشرة، الطرفان وبلسان عربي فصيح قالا لقد قبلنا بكل ما ورد في المبادرة اليمنية نصاً وروحاً... لكن: وفق فهمين أو رؤيتين تنفيان هذا القبول. حماس: المبادرة لبدء الحوار، وفتح: المبادرة للتطبيق وليس الحوار..!

كان من الصعب عدم التعاطف مع عزام الأحمد وهو يتلقى شظايا قذائف النقد العلني الغاضب و لم يجف بعد حبر ما وقع عليه، يأتيه على الهواء مباشرة من قبل من أرسلوه مفاوضاً، لتوقيعه ولو على مثل هذا النص التوافقي الغامض أو حمال الأوجه، للموافقة على المبادرة دون العودة لرام الله، وكان مثيراً للشفقة اصراره على تأكيد استشارته لمن أرسله وحصوله على مباركته سلفاً قبل التوقيع عليها، وهروبه من هذه الورطة بتحميل حماس مسؤولية الفهم المغاير لفهمه للنص العتيد...

وبدأ التراشق المحمّل المسؤولية لفشل لم يجرؤ أحد على إعلانه حتى الآن للمبادرة المقبولة "نصاً وروحاً" من غزة ورام الله على السواء... وتفرق الوحدويون أيدي سبأ قبل أن يرتد طرف أحفاد السبئيين الذين تأملوا من وساطتهم لجمع شمل الأشقاء خيرأً... ولحقت المبادرة بأختيها السالفتين المصرية والسعودية... أحيلت من يمن العرب إلى شامها... إلى القمة العربية في دمشق، رغم أن مؤتمريها كانوا، كما هو معروف، منشغلين سلفاً، قبل انعقادها، ويسعون إبانه، وربما إلى وقت يطول بعد انفضاضها، بحل متحارجة صعبة على أصحابها تقلقهم وتهدد مستقبل ما يطلق عليه العمل العربي المشترك، هي تحديد من هو العدو في هذه المرحلة: اسرائيل أم إيران؟!!

إذاً سرعان ما عادت الأمور إلى سابق عهدها. عاد طرفا السلطة لتراشق درجا عليه، يعبر عن استحالة لقاء برنامجين نقيضين وعن أزمة عمل وطني محتدمة، مردّها خطيئتان ارتكبهما الطرفان، أولاهما اصرار رام الله على التعلق بحبال أوهام ما يدعى "المسيرة السلمية" المستثمرة إسرائيلياً إلى أبعد حد، برعاية "المجتمع الدولي"، ومساهمة العجز العربي، وتسهيلات ضياع البوصلة الفلسطيني. والثانية وقوع حماس في مطب محاولة الجمع بين السلطة والمقاومة عندما استدرجت إلى أحبولة الانتخابات التي لا تجد اليوم سبيلاً إلى الإنفلات منها.

ولنضرب مثلاً: يستبق وزير الحرب الإسرائيلي باراك لقاءه مع سلام فياض رئيس حكومة تصريف الأعمال في سلطة رام الله، بالسماح لمستعمري غزة السابقين بإقامة بيوت لهم في مستعمرة في الخليل، وبناء مجمع أمني للاحتلال قرب القدس في الضفة "يمكنه احتواء المئات من رجال الشرطة"، ويعلن موافقته على نشر شرطة فلسطينية مسلحة، يتم تدريبها راهناً في الأردن، في جنين، والسماح لرام الله باستيراد معدات وأسلحة فردية ورصاص مطاطي لهذه الشرطة، بشرط:
أن لا تتعارض مهمتها "مع الاحتياجات الأمنية لإسرائيل"، والتي هي "مهام حفظ النظام" وفق ما أعلنته وزارة الحرب الإسرائيلية، بينما يحتفظ المحتلون الإسرائيليون "بحق" اعتقال "المطلوبين"... أي مطاردة المقاومين..!

باراك هنا، يعبر عن رؤية إسرائيل لدور السلطة... بينما تصر السلطة على التعلق بأهداب "المسيرة السلمية"... مثلاً: رئيسها المصمم على "انهاء انقلاب حماس" سلمياً، سيطالب القمة العربية بإعادة تبني مبادرتها التليدة والدائمة قيد التجاهل اسرائيلياً، آملاً "من اسرائيل استغلال هذه المبادرة لإرساء دعائم السلام" الموعود حيث يقول: "آملنا أن نصل إلى حل في العام الجاري". ليرد عليه أولمرت فوراً مستبعداً ذلك الوصول... وتستمر اللقاءات مع الجنرالين الأمريكيين الأمنيين دايتون وفريزر، دون أن ننسى زيارة نائب الرئيس تشيني، ووزيرة الخارجية كونداليسا رايس، وفيما بعد دعوة أبو مازن إلى واشنطن من أجل بحث رؤية بوش التليدة "لحل الدولتين"!!!

... أما طرف السلطة الثاني المقال في غزة فهو يبحث أمر تهدئة بوساطة مصرية، قد تسهم في رفع الحصار المضروب على غزة، متمسكاً بخياره الجامع عبثاً بين المقاومة والسلطة تحت احتلال... هذا ما كان من أمر رام الله وغزة و صنعاء ما بينها، بينما ينسى الغزيون جوعهم وموتهم ويتظاهرون هم وأهل الخليل الثكلى، ونابلس المدماة، من أجل حلم الوحدة الوطنية المفقودة العزيز المنال.

إنه اللامعقول الفلسطيني المستمد مشاهدة من فصول هي جزء لا يتجزّأ من سفر مرجعه الأصل اللامعقول العربي... هذه المشاهد التي كان منها ما شهدناه مؤخراً على الخشبة اليمنية!

التعليقات