16/09/2009 - 11:29

خرافة الأقلية والأكثرية../ فيصل جلول

خرافة الأقلية والأكثرية../ فيصل جلول
تنشط في العالم العربي منذ نهاية الحرب الباردة مجموعات إثنية ودينية ولغوية تحت شعار الاستقلال عن العرب و”تقرير المصير” متذرعة بالظلم واللا مساواة والتمييز الثقافي والاقتصادي. وتختلف أحجامها ودعاواها بين دولة وأخرى. ففي المغرب العربي الكبير يلاحظ تصاعد ملموس للتيار البربري الذي يلوّح بالثقافة الأمازيغية ويطالب بما يعتبره حقه التاريخي في السيطرة على شمال إفريقيا وصولاً الى التخوم المصرية. وفي المشرق العربي سجلت الحركات الكردية تقدماً مهماً في مسعاها الانفصالي بعد سقوط بغداد عام 2003 وتحول شمال العراق المستقل عملياً الى قاعدة آمنة للجماعات الانفصالية في الشرق الأوسط.

وليست كل هذه الحركات ممتدة في بلدان عديدة، فبعضها ينحصر في بلد واحد كالتكارير والولوف والسونينكي في موريتانيا، والمنظمات المسلحة وسط قبائل الزغاوة والفور والمساليت في دارفور غرب السودان، وقبائل الدينكا وغيرها في جنوبه، ناهيك عن الحركات السياسية القبطية في مصر والسودان التي تعتقد أن وادي النيل قبطي الأصل والفصل ويقع تحت “الاحتلال العربي”.

لقد نجحت هذه الحركات لسوء الحظ في تقديم نفسها بوصفها ممثلة لـ“أقليات مظلومة” مقابل “أكثرية عربية ظالمة” يساعدها على تثبيت هذا الادعاء جمع غفير من المنظمات الدولية وبعض الجهات الغربية التي تحتفظ بإرث استشراقي غني ممتد منذ عهود الاستعمار ينطوي على معرفة وثيقة بثقافات هذه المجموعات وتركيبها وعلى وسائل فعالة في صياغة خطبها وادعاءاتها.

كان يمكن النظر إلى هذه الحركات الانشقاقية بوصفها ظواهر متغربة عابرة وحنينية لو تم اندراجها في أجندة الفوضى “البناءة” في منطقتنا، ولولا تداخلها مع بؤر الانشقاق والتفتيت المفتوحة في ثلاث دول عربية أولها العراق وما أصابه من تفكيك اجتماعي منهجي في ظل الاحتلال الذي أشرف على تشكيل الطوائف والإثنيات وتوجيهها ضد بعضها البعض فصارت تتطلع الى محيط عربي يشبهها ويحميها ويبرر وجودها. وثانيها لبنان الذي ترعى الولايات المتحدة انقساماته الطائفية وتحول دون تشكيل حكومة وحدة وطنية فيه تلتف حول المقاومة وتدافع عن الحدود الجنوبية بمواجهة “إسرائيل”. وثالثها السودان الذي لا توافق واشنطن ومعها “اسرائيل” على أي حل في غربه يعزز سلطة الحكومة المركزية فيما تشجع جنوبه على الانفصال.

لقد صار واضحاً أن هذه البؤر محمية من قوى كبرى تتدخل فيها عن كثب وتنظم تنقاضاتها وتشرعها بحيث يتواجه الناس فيها مع بعضهم البعض الى أجل غير مسمى، الأمر الذي يغري جماعات انشقاقية في بلدان أخرى لاقتفاء هذا الأثر بداعي الاستبداد والحكومة الفاسدة الى غير ذلك من البيانات التي تتظاهر بالحق وتضمر الباطل.

وإذا كانت رياح التفتيت التي تهب على الفضاء العربي هذه الأيام قد تجاوزت ما يعرف بـ“الأقليات” الإثنية واللغوية في دول عربية لا تعيش فيها أقليات غير عربية وغير مسلمة وتسكنها جماعة عربية منذ أن وجد العرب على وجه الأرض، فهذا يستدعي إطلاق ناقوس الخطر الداهم وليس البعيد أو المحتمل.

والمذهل في هذا الخطر الذي لا مبالغة في وصفه بالمصيري أنه يضرب المشرق في عمقه ويحوم في سماء المغرب، وبالتالي يجرّد العالم العربي من هامش المبادرة وهو ما تأكد مراراً عبر تعطيل مفاعيل اتفاق الدوحة حول لبنان أو اتفاق مكة بين فتح وحماس أو مباحثات الدوحة حول دارفور أو مفاوضات القاهرة بين فتح وحماس، هذا حتى لا نتحدث عن الصحراء الغربية والصومال والموت السياسي للجامعة العربية.

عندما يتهدد الخطر مصير العرب وفضاءهم برمته يخطئ “الانشقاقيون” برفع راية “الأقلية والأكثرية”، فنحن نرى بأم العين الدمار الشامل الذي طال الآشوريين والكلدان في العراق، ونرى بأم العين أيضاً الضعف المتزايد والهجرة الواسعة التي تضرب الجماعات غير المسلمة في أكثر من بلد عربي، ونلمس القلق المتزايد في صفوف الأمازيغ في الجزائر، ويصل الى مسامعنا قلق الأكراد بعد رحيل الولايات المتحدة الأمريكية عن بلاد الرافدين.

في هذه اللحظات المصيرية ربما على “الانفصاليين” المتمسكين بخرافة “الأقلية والأكثرية” أن يدركوا أن الجماعات التي جاؤوا منها اندمجت في العالم العربي بواسطة الإسلام، وأن بعضها الآخر اندمج بواسطة اللغة العربية، وأن هذا الاندماج كان نموذجياً فعاش قروناً طويلة حتى ضاعت الحدود ونشأ فضاء واحد مفيد للجميع. واليوم كما بالأمس لا نجاة في فضاء العرب لأحد على أنقاض أحد.
"الخليج"

التعليقات