31/10/2010 - 11:02

أمريكا تتقاعد.. فرنسا تتعاقد مع سوريا../ عصام نعمان*

أمريكا تتقاعد.. فرنسا تتعاقد مع سوريا../ عصام نعمان*
ما نطقت به الأحداث ميدانياً في لبنان وفلسطين والعراق وأفغانستان وباكستان أدركه المسؤولون في هذه الدول عندما تسنى لبعضهم أن يقابل أخيراً كوندوليزا رايس. فوزيرة خارجية الولايات المتحدة أفهمت هؤلاء المسؤولين، بالتصريح حيناً وبالتلميح حيناً آخر، أن إدارة بوش أعطت جل ما عندها ولا تستطيع أن تعطي أكثر، بل لعلها مضطرة إلى التراجع، قليلاً أو كثيراً، في هذه الساحة الإقليمية أو تلك إزاء التعثر الذي تعاني منه في ساحات المنطقة جميعاً.

المسؤولون المعنيون أدركوا واقع ما انتهت إليه سياسة إدارة بوش في منطقة غرب آسيا الممتدة من جبال باكستان شرقاً إلى بيداء سيناء المصرية غرباً مروراً بأفغانستان وإيران والعراق وسوريا ولبنان وفلسطين. بعضهم أخذ علماً بما حدث واكتفى بذلك. بعضهم الآخر أدرك أن ما حدث لن يتوقف عند مواقيت الحاضر، وأنه متطور باطراد وسينجب أحداثاً أخرى في المستقبل المنظور، وأن أولوية المصالح على الرغائب تقضي بالتحسب لما هو قادم والتعاطي معه بواقعية وحكمة.

في مقدم المسؤولين الواقعيين في المنطقة يأتي بشار الأسد، ومن جوارها الأوروبي يأتي نيكولا ساركوزي. فالأسد باشر واقعيته عشية انعقاد مؤتمر القمة العربية في دمشق (مارس/آذار 2008) وتسميته فيها رئيساً دورياً لها مدة سنة كاملة، وشروعه لتوّه بتطبيع العلاقات مع لبنان في إطار جدول شروط سياسية تخدم البلدين. أما ساركوزي فكان منذ منتصف العام الماضي قد أظهر بمواقف عدة اعتزامه التخلي عن سياسة سلفه جاك شيراك التي اتسمت بشخصانية فاقعة جعلت سياسة فرنسا خادمة لسياسة الولايات المتحدة في المنطقة ومطية لأهواء ومصالح فريق من السياسيين اللبنانيين المنقلبين على دمشق والمعادين لها بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري. من هذا الباب ولج ساركوزي ساحة تطبيع العلاقات مع سوريا، مشترطاً من أجل ترفيعها إلى مرتبة التعاون الوثيق على المستوى الإقليمي، أن تبادر دمشق إلى الوفاء بوعودها اللبنانية بلا إبطاء: المساعدة في انتخاب رئيس لبناني جديد، وإقامة علاقات دبلوماسية وترسيم الحدود بين البلدين، وتسهيل إجراء انتخابات نيابية في ربيع العام المقبل.

وفّى الأسد بوعوده جميعاً لساركوزي تجاه لبنان من خلال موقف حلفائه اللبنانيين في مؤتمر الدوحة وبعده، كما كان باشر قبل ذلك مفاوضات غير مباشرة مع "إسرائيل" عبر تركيا لاستشفاف مدى جديتها في قبول تسوية مع سوريا تُخلي بموجبها الجولان إلى الخطوط التي كانت قائمة بين الدولتين في 4/6/1967. هذه المواقف والإنجازات أقنعت الرئيس الفرنسي بجدوى التقرب من سوريا للتعاون سوية في ما يتجاوز الساحة اللبنانية الضيقة الى الساحة الإقليمية الواسعة.

وفي غضون ذلك أمكن للرئيس السوري ان يدرك من خلال جولات كوندوليزا رايس الوداعية في المنطقة ومباحثات وزير خارجيته وليد المعلم في باريس ومباحثات وزير الخارجية الفرنسي برنار كوشنير في دمشق ان أمريكا تقاعدت من دورها الإمبراطوري الهجومي في المنطقة، وانه أصبح في وسع فرنسا الشروع في الحلول محلها جزئياً في بعض الساحات وفي ما يتعلق ببعض القضايا الحساسة، وأن تتعاقد مع سوريا في هذه المجالات بما يخدم الحوار بين الأطراف الإقليميين والسلام في المنطقة والعالم.

إلى هذه الخلفية من المشتركات السياسية الإقليمية بين سوريا وفرنسا، لاحظ الأسد أن موقعه كرئيس دوري للقمة العربية، وموقع ساركوزي كرئيس دوري للاتحاد الأوروبي، وموقع الشيخ حمد بن خليفة كرئيس دوري لقمة مجلس التعاون الخليجي، تسمح له بالدعوة إلى عقد قمة في دمشق تجمع، إلى الرؤساء الثلاثة، رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان الذي تضطلع بلاده بدور الوسيط في المفاوضات غير المباشرة بين دمشق وتل أبيب.

استجاب الرؤساء الثلاثة الدعوة إلى قمةٍ رباعية جمعتهم برئيس الوزراء التركي لبحث طائفة من القضايا الإقليمية العالقة وخصوصاً بين سوريا و"إسرائيل"، ولبنان و"إسرائيل"، والسلام في منطقتي البحر الأسود (جورجيا) والخليج (الملف النووي الإيراني)، وهموم لبنانية وسورية مشتركة في مقدمها ترسيم حدود مزارع شبعا، وتحسين الوضع الأمني، وإجراء الانتخابات في الربيع المقبل.

لعل أهم ما انتهت إليه قمة الرئيسين ساركوزي والأسد هو اقتناع كل منهما بل الدعوة علناً لأن يكون لكل من سوريا وفرنسا دورٌ ناشطٌ في المنطقة. ففي حديث أجرته معه، عشية القمة، صحيفة "الوطن" السورية صرح ساركوزي: "إنني مقتنع بأن طريق السلام في هذه المنطقة يمر عبر بلدينا، ومن الضروري ان تضطلع سوريا بدور إيجابي في المنطقة".

الأسد ردّ على تحية ساركوزي بأحسن منها بقوله لقناة "فرانس3" الفرنسية للتلفزيون: "نريد دوراً رئيسياً لأوروبا من خلال فرنسا، ولجميع الدول العربية من خلال سوريا وقطر".

في قمتي دمشق الثنائية والرباعية المتعاقبتين تردد انه جرى بحث جميع القضايا الإقليمية العالقة وأمكن التوصل في شأنها إلى تفاهم عملي باستثناء قضية البرنامج النووي الإيراني. ذلك أن فرنسا ترأس الاتحاد الأوروبي وهي مضطرة إلى احترام موقفه الرسمي من إيران. ومع ذلك فقد بدا انها راعت موقفي سوريا وقطر اللتين تؤيدان مقاربةً سلمية لمسألة البرنامج النووي الإيراني وتحذران من مغبة اندلاع حربٍ في منطقة الخليج.

الى ذلك كانت سوريا حريصة على إبراز خطورة الوضع من خلال التحذير الذي أطلقه الأسد عبر الفضائية التلفزيونية الفرنسية عشية قمته الثنائية مع ساركوزي من ان أي هجوم عسكري "إسرائيلي" على إيران ستكون له "نتائج كارثية"، وان هجوم "إسرائيل" لن يستهدف إيران وحدها بل قد يتناول لبنان وسوريا. أكثر من ذلك، حذّر الأسد من أن "أي هجوم من جانب "إسرائيل" أو أي طرف آخر ستكون له نتائج كارثية ليس فقط على المنطقة وإنما أيضاً على العالم أجمع".

إذْ تتقاعد الولايات المتحدة اضطرارياً (ومؤقتاً؟) عن ممارسة سياسة العصا الغليظة في المنطقة وتثب فرنسا بشخص ساركوزي، ومن ورائه دول أوروبا، إلى محاولة الحلول محلها بالتعاقد بالأحرف الأولى مع سوريا بشخص الأسد، ومن ورائه قطر وبموافقة ضمنية من إيران، فإن تداعيات فشل سياسة إدارة بوش في المنطقة كما في جورجيا تشجع الرئيسين الفرنسي والسوري على التعاون الوثيق على الصعيدين السياسي والاقتصادي، ثنائياً وإقليمياً، في مبادرة جريئة لا تنقصها الرصانة لإخراج المنطقة من "الفوضى الخلاقة" وآثارها السلبية المدمرة على جميع المستويات، والدخول في مرحلة التعددية القطبية البازغة وآثارها الإيجابية المرتقبة.
"الخليج"

التعليقات