31/10/2010 - 11:02

استقالة مشرّف: ملاحظات على الهامش../ جميل مطر*

استقالة مشرّف: ملاحظات على الهامش../ جميل مطر*
كانت استقالة برويز مشرف أمراً متوقعاً، توقعها البعض منذ عام أو أكثر، وبالتحديد عندما استجاب مضطراً لطلب خلع ردائه العسكري، وتوقعها بعض آخر قبل إعلانها بأيام، وبالتحديد عندما ووجه ببديلين أسوأهما مر: المحاكمة أو الاستقالة. لذلك ولأول وهلة يبدو إعلان الاستقالة في حد ذاته حدثاً لا يستحق التعليق أو التوقف عنده بعد أن صارت الاستقالة أمراً متوقعاً، ولكن التأمل في خلفيات الحدث، وفي قصة صعود وسقوط الجنرال وفي التجاوزات والانجازات التي تسبب فيها، يثير عدداً من الملاحظات أو التعليقات يستحق غالبها الاهتمام.

لاحظنا مثلاً أن الجهة أو الجهات التي دبرت أو خططت لسقوط الجنرال استخدمت أسلوباً مبتكراً في خطط تغيير أنظمة الحكم، وهو أسلوب التدرج أو سياسة الخطوة خطوة.

أما الخطوة الأولى، أو على الأقل إحدى الخطوات التمهيدية، فكانت حين شنت أجهزة الإعلام الأميركية حملة عنيفة ضد الرئيس مشرف بمناسبة نشر كتابه وخلال زيارة كان يقوم بها الى الولايات المتحدة. وقد بلغ عنف الحملة درجة دفعت الرئيس بوش إلى التدخل دفاعاً عنه. وتردد وقتها أن تدخل الرئيس الأميركي كان جزءاً من خطة موضوعة بإحكام هدفها تكثيف الضغط على مشرف ليشن حرباً بحماسة أشد ضد المتطرفين في مناطق الحدود. وفي أعقاب هذه الحملة تعددت تصريحات أدلى بها نواب وشيوخ في الكونغرس تشكك في الوثائق الباكستانية المتعلقة بأوجه إنفاق المعونة العسكرية الأميركية، وبعدها اشتركت قوى داخلية في باكستان مع قوى خارجية في توجيه دعوة إلى الجنرال مشرف لخلع الرداء العسكري وارتداء ملابس مدنية. وحينها عادت الولايات المتحدة تطالبه بتنفيذ التزامات كانت تعرف مسبقاً أنه غير قادر على تنفيذها.

واتسع نطاق الحملة ضد مشرف حين دخلت الصحافة الأوروبية طرفا فيها وصارت الحملة تركز على ضرورة إصدار عفو عن بينظير بوتو ونواز شريف وعودتهما من دون شروط إلى باكستان كدليل حسن نيات من جانب الجنرال واستعداده لإجراء انتخابات ديموقراطية، وجرت الانتخابات وحدث ما كان متوقعاً، إذ فشل فيها حزب الرئيس ونجح الحزبان المعارضان وشكّلا حكومة مدنية ائتلافية. وحين جاءت الضربة الأخيرة على شكل الدعوة إلى محاكمته على ممارساته ابتداء بالانقلاب الذي خطط له ونفذه قبل تسع سنوات، كان مفهوماً أن أسلوب الخطوة خطوة حقق أهدافه وأزفت ساعة النهاية لحياة مشرف في السياسة.

جاءت الملاحظة الثانية على هامش مسيرة نهاية الرئيس مشرف من خلال متابعة الدور الذي لعبه الجنرال في الحرب ضد الإرهاب، فقد أوضحت هذه المتابعة أن المشاركة في الحرب ضد الإرهاب كانت سبباً مباشراً في سقوط خمسة زعماء قرروا في أعقاب كارثة البرجين في نيويورك في 11/9 انضمامهم إلى التحالف الذي دعت إليه أميركا لمحاربة الإرهاب الإسلامي. كان الاسباني خوسيه ماريا ازنار أول الضحايا، وجاء بعده جون هوارد الاسترالي ثم خاروسلاف كازانسكي البولندي وكان رابعهم توني بلير رئيس وزراء بريطانيا والآن يأتي خامسهم الرئيس برويز مشرف. وقد يضيف متابع إلى القائمة ساشكافيلي رئيس جمهورية جورجيا الذي كان من اشد المتحمسين لإشراك قوات عسكرية من جورجيا في الحملة ضد الشعب العراقي. صحيح إنه لم يسقط بعد ولكنه تسبب في سقوط هيبة بلاده وسمعتها واضطر بين أشياء أخرى إلى سحب قواته من التحالف العسكري الذي يحتل العراق.

وتتعلق ملاحظتنا الثالثة بالرأي الشائع في الولايات المتحدة، وفي دوائر المسؤولين خاصة، عن الشكوك الأميركية الواسعة في صدق ولاء حلفائها في الحرب ضد الإرهاب. ولم يكن مشرف سوى مثال من ابرز الأمثلة على سياسيين أجانب كان ولاء أكثرهم لأميركا والحلف عموماً محل شك كبير، وقد سمعنا في واشنطن من يردد همساً وأحيانا جهراً أن مسؤولين عديدين في الولايات المتحدة غير واثقين من أن الزعماء الأجانب هم حقا حلفاء أم مزدوجو الولاء أم عملاء.

المثير في هذا الاتهام أو التشكيك انه هـو نفسه كان موضوعا للنقاش في مختلف دوائر الشعب الباكستاني. بمعنى آخر، وأياً كانت حقيقة نيات الرجل، لم ينجح الرئيس مشرف كحليف لأميركا في الحرب ضد الإرهاب في أن يحصل لنفسه على ثقة أميركا فيه كحليف مخلص، وفي الوقت نفسه وبسبب محاولاته إثبات ولائه لأميركا فقد ثقة الشعب الباكستاني الذي اعتبره عميلاً لأميركا أو خائنا لشعبه أو خارجا عن دينه.

وترتبط هذه الملاحظة بالملاحظة الرابعة، فالرئيس مشرف هو مثل غيره من الزعماء العسكريين وزعماء مدنيين كثيرين وافقوا على الانضمام الى التحالف مع اميركا، وخضعوا بدرجة أو أخرى لنفوذ أجهزة الاستخبارات وضغوطها وأحيانا لسيطرتها. ولا شك أنه في ظل الحرب ضد الإرهاب والتطرف الديني بشكل عام وفي مرحلة إعادة بناء الدولة بشكل خاص عادت هذه الأجهزة في غالبية الدول لتلعب أدواراً كانت في الماضي تعتبر استثنائية. نراها الآن وقد عادت تلعبها في روسيا وفي عديد من دول الغرب وفي الصين والهند ومعظم الدول العربية، وبشكل بارز في باكستان، وإن اختلف الأمر قليلا في باكستان حيث أنها كانت تقوم بكثير من الأدوار الاستثنائية منذ وقت طويل، وبخاصة في مرحلة الحرب الاولى على الإرهاب التي خططت لها ونفذتها استخبارات الولايات المتحدة مع الاستخبارات الباكستانية لإنهاك القوات السوفياتية التي كانت تحتل أفغانستان.

والمؤكد، على الأقل في نظر الأميركيين، أن الاستخبارات الباكستانية تلعب دوراً مزدوجاً، يتهمونها بأنها تقدم أنواعا شتى من الدعم لقوات «طالبان» المرابطة في مناطق الحدود الباكستانية والأفغانية، وتستخدمها للضغط على حكومة الهند وأفغانستان. وفي الوقت نفسه تساعد الاستخبارات الأميركية في جهود البحث والقبض على زعماء «القاعدة» وتنظيمات متطرفة أخرى. ويبدو منطقياً الاعتقاد السائد في بعض أوساط باكستان وفي المجتمع الاستخباراتي الهندي بأن هذه الأجهزة نفسها ساعدت في تنفيذ عملية إسقاط الرئيس مشرف حين شعرت أنه صار عبئاً على الأمن القومي الباكستاني حسب مفهوم الاستخبارات لهذا الأمن، وبخاصة بعد أن هبطت شعبيته إلى الحضيض وفقد احترام السلطة التشريعية، وبعد أن تعرضت مؤسسة القضاء لمهانة لم تغفرها له الطبقة الوسطى الباكستانية. وعلى الصعيد الدولي كان واضحاً أن الرئيس مشرف لم يعد يتمتع باحترام قادة العالم، بعد أن «تقزمت» باكستان بين عملاقين شامخين على حدودها وهما الهند والصين وتضاءلت إلى حد ادنى مقارنة بإيران جارتها الثالثة، حين استطاعت هذه الدولة أن تحقق لنفسها نفوذاً إقليمياً تجاوز بمراحل ما حققته باكستان في عهد مشرف وصار لها صوت في دوائر صنع السياسة في موسكو كما في بكين وبروكسيل وغيرها، وتؤثر في أنحاء الشرق الأوسط بأكثر مما أثرت باكستان في أي وقت منذ استقلالها.

تبقـى الملاحظـة الأخيرة على هامـش اسـتقالة الرئيس مشرف، وهي أن الرئيس المستقيل حقق لباكستان خلال معظم أيام عهده حالاً من الاستقرار السياسي لن يسجلها له التاريخ كإنجاز، لأنه نوع من الاستقرار تنشط في ظله وتحت عنوانه كل أنشطة الفساد وتثبط همم المبدعين والمفكرين وتثور الفتن بين الملل وتهرب أموال إلى الخارج وتتحرك أموال أخرى لتهيمن على حياة البلد ومستقبله.

والآن بعد أن استقال الرئيس الجنرال قد ينقشع هذا الاستقرار فتنكشف حقائق كثيرة. سيكون في مقدمة ما ينكشف المدى الذي وصل إليه اهتراء النخبة السياسية ممثلة في قيادات الأحزاب السياسية والتيارات الدينية وقيادات التعليم والثقافة. ولن يكون يسيراً استمرار الائتلاف القائـم بين حزبين كلاهما يسيطر عليه سياسيون متهمون بالفساد وصادرة ضدهم أحكام. سيعود إلى قيادة السياسة في باكستان نظام العائلة الحاكمة مختلطاً بالأصول العرقية والجهوية. رحل الجنرال عن سدة الرئاسة وانتهت مرحلة لن يذكرها التاريخ بخير وبـدأت مرحلة ستحتاج فيها باكستان إلى معجزة لتتغلب على صعوبات بعضها فقط من صنع الرئيس المستقيل.

التعليقات