31/10/2010 - 11:02

الأرض أولا../ علي جرادات

الأرض أولا../ علي جرادات
يشكل شهر تشرين الثاني شهراً استثنائياً في تاريخ الفلسطينيين وقضيتهم، فهو شهر زاخر بالمحطات المفصلية، التي على اختلاف تواريخها ومناسباتها، تلتقي في دلالاتها. فبين الذكرى التسعين لوعد بلفور (2/11/1917)، الذي مهَّد الطريق الى نكبة الشعب العربي الفلسطيني، والذكرى الثالثة لإستشهاد القائد الفلسطيني الإستثنائي ياسر عرفات (11/11/2004)، الذي نال شرف اشعال الشرارة الأولى للطور المعاصر مِن ثورة شعبه، هناك الذكرى التاسعة عشرة لإعلان الاستقلال الوطني الفلسطيني (15/11/1988)، الذي جاء كتتويج سياسي لنضالات الفلسطينيين في الوطن والشتات على مدار عقود، والذكرى الستون للقرار الدولي بتقسيم فلسطين (29/11/1947)، الذي استطاع الفلسطينيون (بنضالاتهم المديدة) تحويله الى يوم تضامن دولي معهم كشعب أقتلع مِن أرضه بعد ابتلاعها، وأرتكبت بحقه عملية تطهير عرقي، هي الأبشع والأطول في التاريخ الحديث والمعاصر.

أمام هذه المناسبات الأربع يجب التوقف. فهي مجتمعة، وكل منها على حدة، تنطوي على دلالات سياسية متنوعة وبعيدة المدى، ربما يكثفها القول: دعوكم مِن غربالٍ يُرادُ منه التغطية على شمس أن الأرض والسيطرة عليها شكلت، وما زالت تشكل، جوهر الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، كما برهن تاريخ التجربة العملية قبل النكبة وبعدها.

فوعد بلفور كان غطاء سياسيا دولياً استعمارياً، قادته بريطانيا كدولة إستعمارية أولى آنذاك، لإسناد أحلام المشروع الصهيوني في إفراغ الأرض الفلسطينية مِن سكانها الأصليين، وإحلال المهاجرين اليهود مكانهم، عبر الإستيلاء عليها واستيطانها. وقرار تقسيم فلسطين كان قراراً دولياً مجحفاً، مزق الأرض الفلسطينية، وشكل مقدمة للاستيلاء عليها كاملة فيما بعد، وتحديداً في العام 1967. وقرار إعلان الإستقلال الوطني الفلسطيني كان قراراً وطنياً فلسطينياً، رمى الى التثمير السياسي لذروة النضال الوطني الفلسطيني، إنتفاضة العام 1987، وشكل رداً سياسياً لسد الفراغ القانوني الذي خلفه القرار الأردني بفك الإرتباط القانوني والإداري مع الأرض المحتلة في الضفة الغربية. وقرار إغتيال أبي عمار كان قراراً إسرائيلياً بدعم أمريكي، للتخلص مِن قائد فلسطيني استثنائي رفض التوقيع على شروط الاستسلام، وأبى الإقرار بإختزال الحقوق الفلسطينية في صيغة حكم ذاتي لمجموعة سكانية تعيش على "أرض إسرائيل الكاملة". وبكلمات إنها مناسبات أربع تتقاطع في دالة الصراع على الأرض والسيطرة عليها.

لا جديد فيما أسلفنا مِن استخلاص، وربما قاله أو صاغه أو أكد عليه أو كتبه غيرنا، مراراً وتكراراً، وبلغة أعمق وصياغات أبلغ. وبالتالي، يغدو السؤال: ترى لمَ تكرار تسجيل هذا الاستخلاص (الدرس) إذاً؟!!!

ببساطة وإيجاز لأن:
أولاً: أهمية هذا الإستخلاص لا تكمن في وعيه النظري المجرد، أو استمرار تكراره الإنشائي كقصيدة محفوظة عن ظهر قلب، بقدر ما تكمن في اتخاذه أساساً ومنطلقاً للسلوك ورسم السياسات.

ثانياً: ترجمات وعي هذا الاستخلاص والتصرف السياسي بالإنطلاق منه، وعلى أساسه، يجب أن لا تحكم كيفية إدارة التناقض الرئيسي مع المحتلين فقط، بل يجب أن تشمل أيضاً كيفية إدارة التناقضات الثانوية في صفوف الشعب والتعارضات بين ألوان طيفه الفكري والسياسي.

ثالثا: القول بمركزية الأرض وأولويتها في الصراع، لا يمكن أن يلبيهما، حتى لا أقول يتعارض معهما، سلوك سياسي فلسطيني، يساهم، بوعي أو مِن دونه، في تمزيق وحدة الأرض، المستهدفة أصلاً، منذ نشأ الصراع عليها مع المحتلين وحتى يوم الناس هذا، اللهم إلا إذا كان هناك مَن لا يرى الكتل الإستيطانية وتناميها البكتيري، أو لا يعي معنى رفض المحتلين لتفكيكها، وهذا ما لا أعتقد بأن فلسطينياً واحداً يجهله.

رابعاً: كل ما تقدم لا ينسجم معه، بل ويتعارض معه على طول الخط، سائد السلوك السياسي البائس، الذي قاد فيما قاد الى فصل غزة عن الضفة، اللتين أصبحتا كيانين بحكومتين وجهازين قضائيين و"سلطتين تشريعيتين"، ولهول المفارقة، برغم أنهما لا تزالان تحت السلطة الفعلية لاحتلال أجنبي غاشم، يستبيح أرضهما وسكانهما على مدار الساعة، بل ولا يلوح في الأفق، ما يشير الى امكانية أن سائد سياسته (الاحتلال) في وارد التزحزح قيد أنملة عن تمسكه بالأرض ومواصلة السيطرة عليها. ولا يلغي هذه الحقيقة المرة، لجوء الإسرائيليين الى صيغة "الاحتلال عن بُعْد"، بما يخفف عنهم تبعات احتلالهم وتكاليفه السياسية والمالية والأخلاقية.

والسؤال: ترى، مع كل هذه المعاني السريالية في المشهد الفلسطيني، هل حقاً ما زالت الأجنحة القيادية للوعي الوطني الفلسطيني، تتصرف بناء على أن الأرض والسيطرة عليها، وليس "السلطة"، بمعنى "الحُكم"، هي الأساس والمنطلق والقول الفصل وبيت القصيد في رسم السياسة العامة وتكتيكاتها الملموسة وسلوكها اليومي المباشر؟!!!

إذا كانت الإجابة بالنفي، وهي، على ما أعتقد، كذلك بإمتياز، يغدو السؤال: ما هو المصير القريب والمتوسط والبعيد للأرض الفلسطينية، أو على الأقل مصير ما أحتل منها عام 1967؟!!! ولماذا نلوم نحن الفلسطينيون تلك الأطروحات الدولية، أعني الأمريكية أساساً، التي تدعم رؤية الإسرائيليين، الذين يرون أن الفلسطينيين مجرد مجموعة سكانية، (لم يقووا على اقتلاعها)، ينهي مشكلتها صيغة الحكم الذاتي لإدارة شؤونها الذاتية تحت الاحتلال والسيطرة على "أرض إسرائيل الكاملة"، وذلك انطلاقاً مِن قاعدة إسرائيلية ثابتة تقول: "أيها الفلسطينيون لسنا على استعداد للبحث في حقوقكم كشعب مهما صغرت، وأننا على استعداد للبحث في احتياجاتكم كمجموعة سكانية مهما كبرت".

هذا هو المغزى الحقيقي للسياسة الإسرائيلية ومواقفها الراهنة، بل هذا هو أحد المعاني السياسية لوعد بلفور، الذي رفضه الفلسطينيون منذ نشوء حركتهم الوطنية، وجاء إعلان الاستقلال الوطني الفلسطيني كذروة لهذا الرفض، وهو ذات المعنى السياسي الذي كان تمرد عليه الراحل أبو عمار، وأشعل شرارة الطور المعاصر للثورة الفلسطينية في مواجهته.

بلى، دون حسبان إستخلاص أن الأرض والسيطرة عليها، وليس "السلطة" والتنازع عليها، هي ما يجب أن يحدد السياسة الفلسطينية وسلوك قياداتها وأطرافها وتنظيماتها وتلاوينها، يغدو العمل السياسي الفلسطيني، وهو النضالي بالضرورة، قاصراً وعاجزاً، بل يصبح شكلاً مِن أشكال التلهي وإضاعة الوقت والإمكانيات وهدم ما بناه الأجداد والآباء، بدمهم قبل عرقهم. وسيأتي اليوم الذي تحاكم فيه الأجيال كل مَن ساهم في إغراق الفلسطينيين في متاهاته، وهم الذين كانوا حتى الأمس القريب، رغم هول تشريدهم وعذاباتهم وتضحياتهم، كتلة متراصة متلاحمة في الدفاع عن أرضهم، التي دون استعادتها يصبح الحديث عن حريتهم واستقلالهم وعودتهم مجرد لغو فارغ، وخطاب سياسي خالٍ مِن أي معنى ومضمون. وهذا ما لا يخفى حتى على مَن لا يعرف مِن السياسة غير اسمها. فما بالك على الفلسطينيين كأصحاب تجربة نضالية مديدة، مضى عليها ما يقرب مِن قرن مِن الزمان، لا تعدو مناسبات تشرين الثاني أكثر مِن غيض مِن فيض ما ذاقوا، وما عرفوا، وما خبروا، وما سيحاكمون قياداتهم على أساسه لاحقاً. فهل تتعظ تلك القيادات المنشغلة في كل شيء، ولا يغيب عن بالها غير ما هو مفصلي وجوهري في حياة الفلسطينيين، أي أرضهم ووحدتها ومصيرها. فهل تنتفض هذه القيادات التائهة على نفسها، وعلى ما أصابها مِن شهوة للسلطة، هي مع شديد الأسف ليس أكثر مِن سلطة صورية، يعوزها أول ما يعوزها الركن الركين لأي سلطة، أي الأرض أولاً.

التعليقات