31/10/2010 - 11:02

الانتروبولوجيا" للدمار الأهلي الشامل../ فيصل جلول

الانتروبولوجيا
كشف تقرير صادر عن لجنة الشؤون الخارجية في مجلس العموم البريطاني في مطلع أغسطس/ آب الجاري ما كان مكشوفاً في الحرب التي يشنها الحلف الأطلسي على أفغانستان منذ العام 2003. فهو يتحدث عن افتقار الحلف إلى “استراتيجية متناسبة مع الحقائق التاريخية والثقافية والسياسية الأفغانية”.

ويحمل التقرير على “النقص الكبير في الحساسية الثقافية” لدى بعض المكونات العسكرية للحلف التي ارتكبت أخطاء كان بالإمكان تفاديها كردود الفعل العسكرية الطائشة. أما “الأضرار الناجمة” عن هذا النقص فسيكون من الصعب معالجتها.

ويعبر أعضاء اللجنة عن قلقهم ازاء استخدام سلاح الطيران الأمريكي في القصف الجوي الكثيف في أفغانستان وباكستان وما تسبب به من خسائر في صفوف المدنيين ويرون أن هذا الأمر “أساء إلى سمعة الولايات المتحدة”.

ويأسف التقرير لكون المجهود الحربي المبذول في أفغانستان ملقى بجزئه الأكبر على بضع دول اطلسية فيما دول أخرى تشارك بطريقة رمزية ويخشى من أن تتعرض سمعة الاطلسي للأذى ما لم يشارك جميع الأعضاء في الحرب بطريقة “عادلة” ذلك بأن “امتناع بعض الدول عن المشاركة في تحمل العبء العسكري بطريقة متساوية يؤدي الى تركيز الضغط الحربي على قبضة من الدول وهذا غير مقبول”.

واذا كان التقرير يأتي في وقت غير ملائم لحكومة الوزير الأول البريطاني غوردن براون، التي تعاني من صعوبات على كل صعيد، فهو يستبق الانتخابات الافغانية المقرر أن تتم في العشرين من الشهر الجاري، وبالتالي من الصعب أن يزيد مرشحي الاحتلال الاطلسي قوة ومصداقية.

والواضح أن التقرير يعترف متأخراً بمشكلتين كبيرتين ظهرتا في غمرة احتلال أفغانستان، الأولى تتعلق بقدرة الحلف الاطلسي على خوض حروب ليس مؤهلاً لخوضها، والثانية تنتسب الى التعقيدات الافغانية الثقافية والاجتماعية والتاريخية فضلا عن الطبيعة الجبلية لهذا البلد الذي ساهم في الاطاحة بالامبراطوية السوفييتية وفي انهيار الحرب الباردة.

فقد نشأ الحلف الاطلسي في مواجهة حلف “وارسو” الشيوعي، وعمل خلال الشطر الأكبر من القرن العشرين على توفير شروط التفوق عليه وفق سيناريوهات حرب كلاسيكية بين جيوش أوروبية تقليدية، وكان عليه أن يعيد النظر باستراتيجيته وتكوينه بعد سقوط جدار برلين بما يتناسب مع مسارح عمليات جديدة ومختلفة وأعداء جدد يحتفظون بثقافة ووسائل قتال لا تتناسب مع ترسانة الحلف الثقافية والعسكرية، غير أن الوقت والجهد المطلوب لإعادة التأهيل والتكوين ما كان متاحاً للحلف الذي خرج سالماً من معمودية النار في كوسوفو ليجد نفسه غارقاً بلا عدة كافية في حرب افغانستان المنهكة.

وفي الحربين كان يستند الى تفوقه الجوي فكان أن ربح الحرب الأولى مستفيداً من عزلة ميلوسوفيتش وغبائه، وأن يتعثر في الحرب الثانية بسبب عجزه عن استخلاص الدروس المفيدة من حروب القرن العشرين التي شهدت فشلاً ذريعاً للقوى العظمى في مواجهة شعوب مناهضة للاحتلال ومصممة على فرض إرادتها على الجيوش الغازية.

وإذ يكتشف تقرير مجلس العموم البريطاني التعقيدات الثقافية والاجتماعية والتاريخية والتضاريس الأفغانية الصعبة التي اكتشفتها الصحافة الغربية وأعادت اكتشافها مراراً، فهو يستعيد ما عرفته بريطانيا في هذا البلد من قبل دون أن تردعها هذه المعرفة عن السقوط ثانية في الوحل الافغاني. فالنخبة العسكرية والثقافية البريطانية كانت تعرف منذ اليوم الأول للحرب أن سقوط كابول قد تم بواسطة تحالف الشمال بقيادة “الطاجيك” من رفاق أحمد شاه مسعود و”الازبيك” بقيادة عبدالرشيد دوستم، فضلاً عن ترحيب الهزارة الشيعة، وكل هؤلاء كانوا متضررين من قبائل “الباشتون” المتعاطفة مع طالبان والملا عمر، وأن الفشل أو النجاح في الحرب يتوقف على كيفية التعاطي مع الباشتون فكان التعاطي معهم بالقصف الجوي وتهديدهم بالإبادة يشد من عزيمتهم ويصقل تصميمهم على طرد الأطلسي من بلادهم بدلا من إخضاعهم وإغرائهم بالتعاون مع المحتل، كما حصل مع عراقيي الأنبار وغيرهم.

ولعل الأطلسي فوجئ بحجم وعمق التضامن البشتوني الباكستاني مع “الباشتون الأفغان”، الأمر الذي يهدد اليوم استقرار باكستان نفسها، وهي الحليف الأهم للولايات المتحدة والأطلسي في شبه القارة الهندية.

واللافت في التقرير البريطاني أنه يأتي كالعادة منسجماً مع تصريح للرئيس الأمريكي بارك أوباما صدر قبل عشرة أيام وفيه يؤكد على وجوب الخروج من أفغانستان وفق استراتيجية جديدة. والراجح أن يتم ذلك على الطريقة العراقية وعبر سلاح “الانتروبولوجيا” الذي استخدم في العراق.

وللعلم فإن “الانتروبولوجيا” التي اصطلح على ترجمتها بعلم الأناسة، نشأت ونمت في المستعمرات الغربية في العالم الثالث، وهي ساهمت بتشكيل وعي الشعوب المحتلة بوصفها طوائف واثنيات وقوميات وليست شعوباً وأمماً تمتد جذورها في عمق التاريخ وأقاصيه البعيدة.

وبالاستناد الى “الانتروبولوجيا” هدم المحتل مرجعية الدولة العراقية، وحمل العراقيين على طلب الحماية والتحكيم في طوائفهم ومذاهبهم وقومياتهم، وهو اليوم يستعد ربما للخروج من أفغانستان عبر إعادة تنظيم حرب إثنية طويلة الأمد بين “الطاجيك” و”الأوزبيك” و”الهزارة” من جهة و”الباشتون” من جهة أخرى، ولعل لسان حال المحتل في البلدين يقول للمعنيين: لم تخضعوا بالقصف الجوي و”الديمقراطية” فإلى الجحيم بالقصف “الانتروبولوجي”، أي بالفوضى الخلاقة كما لاحظ وليد جنبلاط محقاً في آخر “تجلياته” السياسية في لبنان.
"الخليج"

التعليقات