31/10/2010 - 11:02

دماء وقهر وحصار.. وانعكاس مخاطر الانقسام../ ناصر السهلي

دماء وقهر وحصار.. وانعكاس مخاطر الانقسام../ ناصر السهلي
لم يعد من المستغرب كثيرا أن تحمل أنباء غزة كل هذا الكم الدموي في صياغة الخبر المتعلق بيومياتها.. فكما حمل صباح الثلاثاء الماضي كل منغصات التفاصيل في سقوط هذا العدد من البشر بين قتيل وجريح تحت مسمى "حملة أمنية"، فإن اليوميات الأخرى لم تختلف كثيرا في حصد المزيد من الأرواح في زمن التهدئة غير الموفقة تماما، والتي يحمل فيها الاحتلال مفتاح إغلاق وفتح المنافذ ويقدم الروايات عن سقوط صاروخ أو قذيفة لمزيد من الإغلاق ونشر الموت بين المرضى والمحتاجين، فإننا في الجانب الآخر حين كنا ننتقد عنف الاحتلال في حصد الأرواح باسم "الحملات الأمنية" وهدم البيوت على المتحصنين فيها من مقاتلين وغير مقاتلين نتوقف أمام مشهد غير مبشر لطريقة تعامل من يمسك بمقاليد السلطة في غزة المحاصرة مع ما يسمى حملات أمنية..

قبل شهرين تقريبا، ورغم رفض ما جرى من تفجير أودى بحياة عناصر من حماس وأخرى مدنية، رأينا مشهدا من المشاهد المشينة التي كنا نعرضها على العالم على أنها صور احتلالية بشعة.. صور التعرية والإذلال التي لا يمكن القبول بها مهما كانت المبررات وهي بالأساس تتم بأيد فلسطينية ضد فلسطينيين، وبهذا تصبح للرواية الصهيونية مكانة عن أنها ليست مضطرة لتحمل مسؤولية ما اقترفه جيشها بحق الفلسطينيين، والتي تدخلت الأمم المتحدة هذه الأيام فيها مطالبة إسرائيل بدفع التعويضات لضحايا سقطوا في 2006.. ولا يمكن القبول بأن تنتقل آلة الاختلاف بالبندقية والأسلحة الثقيلة والمتوسطة من حي إلى آخر ومن عائلة إلى أخرى تحت مبررات سلطوية أساسا تتهم وتحاكم وتنفذ قبل أن تُكتشف الحقيقة..

في غزة شيء لا يمكن أن يحتمل في مجمل المشهد الفلسطيني، لما يحمله ذلك من انعكاسات نفسية تراكمية قد لا يراها منفذوها اليوم وقد يجدون أنفسهم أمام مفاجأة من العيار الثقيل إن هم استمروا في هذا الأسلوب المشوه لصورة أراد أصحابها أن تكون مغايرة لصورة من مارسوا ما مارسوه من انفلات أمني فيها..

انعكاس أزمة البرامج على الساحة الفلسطينية – وهي أزمة لم تعد تعرف يسارا ولا يمينا في مشاركة الكل بها- لا يعفي من توسعة الصورة قليلا لتطال أيضا حركة حماس المرتبكة في تقديم البديل المغاير، حسب قراءتها للبرامج الأخرى، بما فيها برامج السلطة الفلسطينية وفصائل منظمة التحرير.. ولا يمكن القفز عن الانعكاسات المأزومة في عدم الدخول الفوري في حلول أقل ما يقال عنها أن تحفظ بعضا من ماء وجه تضحيات شعب فلسطين بعد أن جرى تشويه كل التضحيات والتراكمات بهذه الصورة المشينة التي عبر عنها وبفجاجة في الاحتكام إلى سلطة البندقية والإغلاقات الإذاعية والمنع الإعلامي وبالتالي الحجر على العقل والرؤية المختلفة مع استفراد متبادل بقرار احتكاري: "المصلحة الوطنية العليا"!

فمن قال إن كل فصيل فلسطيني يملك باراموميتر يحتكر من خلاله تصنيف هذه المصلحة؟ ومن الذي أعطى هؤلاء، الذين يرون حجم الانتهاكات اليومية للاحتلال لما يسمى "التهدئة"، كل الحق في تنصيف ماهية الردود عليها من عدمه؟

ألم تكن المسألة هي ذاتها حين كانت حركة حماس تتهم السلطة الفلسطينية بأنها تلاحق المقاومة بحكم التفاهمات الأمنية مع الاحتلال؟.. إذا ما الذي تغير حتى يتقرر اليوم بأنه ما من أحد يحق له أن يرفع صوته وبندقيته ليرد على الخروقات، وخصوصا أن هذه التهدئة لم تجلب ما كان يراد لها أن تجلب لأهل غزة وباعتراف المنظمات الدولية..

إن غزة اليوم تتحول إلى النموذج الصارخ في تيه نضالي فلسطيني يهدر وقته وجهده ودمه في سبيل الحفاظ على سلطة وهمية في بقعة مسيجة بحصار وبفوهات المدافع والطائرات التي تستبيح كل الأرض الفلسطينية، وكله في زمن غابت فيه الرؤية الواضحة لمشروع وطني مُجمع عليه..

غزة التي شكلت قوة ميدانية في صمود القضية الفلسطينية تتحول إلى نموذج واقعي وفعلي في تحطيم هذا الصمود، ودفع الكثيرين نحو مربعات اليأس من مشاريع عاجزة عن الجمع بين السلطة والمقاومة.. وانعكاسات المسألة لا تطال فقط البقع الجغرافية التي تقع في عين الحدث، بل تمتد لتشمل كل الحالة الفلسطينية..

البعض يقرأ سقوط هذا العدد أو ذاك بأيد وسلاح فلسطيني بكثير من التسطيح والاستخفاف، لكنه وبفعل حسابات ضيقة، تبريرية أيضا، يساهم في تكوين الصورة الممسوخة للمجتمع الفلسطيني الذي قدم عشرات آلاف الضحايا من أجل وحدته ووحدة قضيته، لترد إلى عباءة العشيرة والقبيلة والعائلة والإقلاع عن قراءة الصورة الشاملة لمؤثرات هذا التسطيح والانقسام الحاصل.. ومن العجيب جدا أن لا يدرك هؤلاء جميعا بأن الانعكاسات أخطر مما يتوقعها أصحاب الاجتماعات الضيقة في غرف محروسة بعناية..

في هذا الصدد تحتاج حماس وفصائل م.ت.ف جميعها، والسلطة الفلسطينية كذراع للمنظمة وليس العكس، إلى حالة ملموسة في المجتمع الفلسطيني باتت اليوم أخطر على مستقبل القضية الفلسطينية مما يعتقده البعض من هؤلاء الذين يجدون أنفسهم أسرى برامج وأهواء وامتيازات ضيقة سرعان ما تنهار بغياب التحصينات الوطنية الأشمل..
في الشتات الفلسطيني ثمة ما يسترعي الانتباه- لكن من ينتبه لكل هذه الانعكاسات الخطيرة؟- في مشهد البحث عن مبررات للانفضاض عن تراكمات نضالية وكفاحية تاريخية عمدها هؤلاء بالدم والمعاناة بكل أوجهها.. مشهد مؤلم هو هذا المشهد الذي يختار اللامبالاة سبيلا للخلاص من صورة مشوهة ومخجلة.. مشهد مؤلم وموجع أن يصل في هذا الشتات الفلسطيني بعض من اليأس إلى "خزان وقود القضية"، ولم تعد المسألة محصورة في قطاع محدد بل يمتد الأمر حتى إلى مناصري وأصدقاء قضية الشعب الفلسطيني من عرب وغير عرب حول العالم.. إنه السؤال المحير والكبير: ماذا تفعلون بأنفسكم؟

وبما أن القضية لم تعد لا عاطفة ولا وجدانا فلا جواب عمليا طالما أن مقولة "إذا كان المركز بخير فالأطراف كذلك والعكس صحيح" تنطبق على الحالة الفلسطينية الباحثة عن جواب عن سؤال وجودي كبير تضيع تفاصيله في كل هذا التشظي الذي لا يمكن الإجابة عليه لا في إطار التنظيرات الطبقية ولا البرامجية ولا حتى السياسية..

حتى في الداخل الفلسطيني.. الذي ما أن تتجول في رام الله وغزة وغيرهما من المدن والمحافظات الفلسطينية حتى تكتشف حجم الكارثة.. فالواقع مؤلم أكثر مما يصوره مقدموه.. وهم يعرفون تماما عما نتكلم، أكان في رام الله أم كان في غزة..

داخل الخط الأخضر وعند عرب 48 لا يختلف الأمر كثيرا، إذا لم يكن أكثر إيلاما ووضوحا، فهؤلاء الذين يجدون أنفسهم، بعد صمود أسطوري بوجه الاحتلال المباشر وغير المباشر ومحاولات تهويد الأرض وترويض العقل، عرضة لمؤثرات ما يجري على الساحة الفلسطينية.. وفي أحاديث مباشرة مع من هم في عين الصراع والقرار عبر هؤلاء عن مخاوفهم من فداحة الخسائر الناجمة عن استمرار وتعمق الأزمة الفلسطينية.. وهؤلاء في الواقع هم أكثر الناس إدراكا لمخططات الإسرائيلي الباحث عن حلول مبتورة وتصفوية لقضية الشعب الفلسطيني، وما من شك بأن فلسطينيي 48 يعتبرون أنفسهم جزءا أصيلا من شعبهم ويرتبطون مباشرة بأية حلول مستقبلية لقضيتهم الوطنية، وأي مس لقضية حق العودة يعتبر مسا بوجودهم لما يحمله ذلك من مخاطر تاريخية على وجودهم ومستقبلهم فوق أرضهم بفعل السعي الإسرائيلي لكسب الاعتراف بيهودية الدولة في ظل الضعف البين في الموقف الفلسطيني المنقسم على نفسه..

قراءة الانقسام الفلسطيني لدى الشعب الفلسطيني داخل الخط الأخضر تبدو أكثر حدية مما يتصوره البعض، فبعض القوى السياسية التي تقدم نفسها على أنها تحمي مصالح هذا الشعب باتت مندفعة بدون حدود نحو التماهي مع الأحزاب الصهيونية وهو أمر يحمل الكثير من المخاطر حتى حين يرتبط الأمر بالحفاظ على المصالح القومية لهؤلاء..

مع الأسف الشديد فإن فصائل م.ت.ف قامت بطريقة أو أخرى بما يمكن أن يُطلق عليه "فك ارتباط" من طرف واحد مع الحركة الوطنية داخل الخط الأخضر، وهو أمر يعكس أزمة تلك الفصائل في انشغالها بما هو أضيق من مسألة وحدة الشعب الفلسطيني ومصيره أينما كان.. وبإمكان أي مراقب أن يشهد انعكاس صورة التمزق الحاصل على الساحة السياسية الفلسطينية على هؤلاء ومكوناتهم السياسية الرافضة تماما لمسألة التحول إلى أحزاب ذيلية، وإن بلسان عربي، للسياسة الصهيونية.. وقد عادت من جديد أصوات بعض الأحزاب "العربية" داخل الخط الأخضر لتلعب على وتر الانقسام الحاصل من خلال عرض برامج وأطروحات سياسية أضيق من تلك التي يحملها أصحاب الأزمة في الضفة والقطاع.. فالخطاب التخويني الذي تردده كتابات الجدران يعكس الإفلاس البرامجي، تماما مثلما يعكس البعض تسابقه لإعلان مجاني لدولة إسرائيل في أية قضية ملفقة ضد بعض الشبان العرب.. بل من المذهل أن يضيق أفق البعض في حمل شعار "أصوات المسلمين للمرشحين المسلمين".. وهي عودة للتقسيمات الصهيونية للمجتمع الفلسطيني على أساس مذهبي وديني.. بل وتصنيف البدو العرب كأقلية في حد ذاتها.. وهو أمر لا يمكن تبرئة الجو السياسي الفلسطيني منه..

حتى في مسألة رفع الشعار الديني لا يمكن المرور ببساطة على الانتهازية التي تطبع رافعي هذا الشعار داخل الخط الأخضر، وفي المسألة أوجه أخرى متناقضة مع ما يظهر، وسنمر في فترات قادمة بتفصيلات أكثر على واقع حال أصحاب تلك الشعارات وتناقضاتهم وازدواجية المعايير لديهم حتى في أحاديثهم للصحف العبرية عن تجارب الاعتقال والملاحقة، فمن غير المفهوم لقارئ بسيط مثلي كيف تلعب شخصيات سياسية على الوتر الديني والعاطفي في ذات الوقت الذي ترتبط أجندتها مع أجندة دولة الاحتلال.. وكقارئ بسيط أيضا لا أفهم المغزى من شعارات التخوين بحق شخصيات وأحزاب عربية إلا أن تجري عملية تزوير واستلاب للصوت العربي تحت سقف الشروط الصهيونية..

من غير المفهوم تماما كيف أن العلم الفلسطيني الذي كان شباب الحركة الوطنية الفلسطينية يقدمون الغالي والنفيس، في ظل ملاحقة من قبل "راكاح" وغيره، لرفعه داخل الخط الأخضر في تظاهرات المناسبات الوطنية يتحول اليوم إلى مادة مزايدة على من قضوا في المعتقلات الصهيونية أشهرا، بسبب القراءة الملتوية للمزايدين لمفهوم الانتماء القومي عند هذا الجزء الأصيل من الشعب الفلسطيني..

انعكاس الانقسام الفلسطيني على ساحة العمل السياسي داخل الخط الأخضر يحتاج إلى نظرة فاحصة لاكتشاف حجم الكارثة التي خلفتها مرحلة كسر المحرمات في التعامل مع دولة الاحتلال تعاملا وفق مبدأ تبويس اللحى من ناحية، وتجريم من يصر على الخطاب المحذر من كارثة الإنفلات والتشظي الملموس في أجواء انتخابية بلدية أو للكنيست في الوسط العربي... ورغم معرفتي المتواضعة بوجود طيف سياسي واسع في أوساط الفلسطينيين داخل الخط الأخضر، إلا أنني لمست روحا انهزامية تسيطر على عقليات تقود حملة شرسة بحق طرف خلق هزة حقيقية في الوسط العربي بدل التركيز على حالة "الابرتهايد" المترسخة في تعامل حكومة الاحتلال مع المدن والقرى العربية.. وبدل الانشغال الأوسع بكيفية سحب البساط من تحت أقدام الأحزاب الصهيونية لكسب الأصوات العربية من خلال خلق تحالفات واضحة وصريحة تأخذ بالحسبان مسألة الانتماء القومي، وبأن هؤلاء هم أصحاب الأرض الأصليون، فإننا وللأسف الشديد لاحظنا أن بعض رؤساء البلديات وأعضاء كنيست قد استفادوا من حالة الانقسام الفلسطيني الداخلي ليعززوا خطابهم الانهزامي والانعزالي في حضن ومسار التنافس البيني..

ويبقى أن نشير إلى أن مسألة خطيرة من مسائل الوجود المستقبلي والحفاظ على ما انتزعه هؤلاء الصامدون فوق أرضهم تحولها العقليات الانتهازية إلى شعارات على الجدران، وانشغال بما كتبه رئيس تحرير صحيفة عربية، بدل الانشغال بما يصل المدن العربية من مياه وخدمات في ظل الممارسات العنصرية الواضحة والدعوات المستمرة لتهويد الجليل وطرد السكان العرب، وإن بطريقة ملتوية عبر تصفية قضية اللاجئين.. لقد لمست شخصيا كيف أن قرية الرينة القريبة جدا من الناصرة تجثم على مخزون ضخم من المياه بينما سكان هذه القرية يتظاهرون، وفي رمضان، للحصول على بضع لترات من مياههم التي تتحكم بها العقلية العنصرية لمصلحة المستعمرات اليهودية المحيطة بالرينة والناصرة وغيرهما من المدن داخل الخط الأخضر.. في وقت يُستقبل فيه أُولمرت بكثير من السذاجة وقليل من الكياسة عند مفارق القتل بدم بارد لأبناء الجليل في عام 2000... بل ليقبل منا هؤلاء، الذين هم فرحون بالأحزاب الصهيونية التي تدعي اليسارية والعلمانية، سؤالا يتعلق بما فعلوه على الأرض للتضامن مع المفكر العربي عزمي بشارة الملفقة بحقه تهما يمكن أن تطال أي واحد منهم لا يسير على الصراط المستقيم للأسرلة المسطرة والمحددة العناوين؟

وإن دل ذلك على شيء فإنه بكل تأكيد يشير إلى واحدة من انعاكاسات المأزق الذي وضعت الأزمة الفلسطينية الداخلية بصماتها على مجمل أوضاع الفلسطينيين.. والداخل أهم محطاته لما يشكله من عنوان يفضح كذبة الشعار الصهيوني "أرض بلا شعب لشعب بلا أرض"..
ندرك كم أصاب حجم الكارثة الجسم السياسي الفلسطيني منظمة التحرير الفلسطينية وفصائلها، لكنني أشك بأن تلك الفصائل تعرف تماما الانعكاسات الخطيرة على شرعية شعارها "الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني".. بل أشك أكثر إن كانت تهتم في الأصل لما ولدته الأزمة من عزوف الناس عن التصديق بهذا الشعار وهم يلمسون حجم العمل الميداني الذي يُخلى لمصلحة شعارات فضفاضة وغيبية لتشكيلات باتت تعتبر نفسها بديلا للمنظمة..

لا يكفي المنظمة أن تردد بديهيات ترددها جماعة أميركا في لبنان عن التوطين ورفضه.. ولا يكفي أن يُقال للشارع الفلسطيني أنها لن تتخلى عن الثوابت.. ولا يكفي أبدا كل هذا الادعاء بالشفافية ونحن العارفون بقضية تداخل المنظمة بالسلطة وتحويل المنظمة إلى مجرد ذراع للسلطة السياسية.. وسواء رغبت أم لم ترغب فصائل المنظمة فعليها أن تنزل إلى الشارع لتعرف ما يدور عند من تمثلهم.. وبكل بساطة المنظمة مسؤولة مسؤولية مباشرة عما آلت إليه أوضاع القضية الفلسطينية.. لم تعد الشعارات كافية طالما أن الشعب الفلسطيني يُدفع باتجاهات الانشغال بالإضرابات والرواتب وتأمين لقمة العيش..

إن غياب التجاوب مع مبادرات إعادة تنظيف وترتيب البيت الفلسطيني أضحت اسطوانة مخجلة، هذا إذا كنا ندرك كم من الطاقات والكوادر يملك الشعب الفلسطيني.. والمأساة الحقيقية أن الأكاديميا الفلسطينية يُراد لها إما أن تكون في معسكر حماس أو في المعسكر المقابل.. أي عملية فرز تسخيفي من مكانتها عوضا عن تسخيرها في خلق حالة راقية من البحث ووضع الحلول الحقيقية..
لا يشك أحد بأن حماس بعيدة عن تحمل القسط الكبير من مسؤولية هذا الغيض من فيض الحالة الفلسطينية.. أبدا، هي تتحمل وبعد أكثر من عام وبضعة أشهر على سيطرتها على غزة مسؤولية مزدوجة.. في وجهها الأول أنها قدمت نفسها كجزء من الحركة الوطنية في مرحلة التحرر الوطني فانكفأت في وجهها الثاني نحو ممارسة سلطوية جاعلة الهوة أوسع بين حماس المقاومة وحماس السلطة.. وهنا أيضا يدور في أذهان الناس ما تتجاهله حماس، فما هي البرامج والأدوات البديلة التي تبتعد قليلا عن الخطاب العاطفي؟

في المجمل لا تجد كثيرا.. وهي إلى حد بعيد حالة تشبه ما لدى الحركة الإسلامية داخل الخط الأخضر.. دغدغة مشاعر الناس باسم المقدسات، وكأن لا أحد يدركها غير من يعتلي المنابر ليدخل ويخرج من رحمة الله من يشاء..

لقد تحولت السياسة الداخلية الفلسطينية في بحثها عن الحلول لأزماتها إلى ما يشبه "فهلوة" السياسة الأميركية في إبقاء "العملية" مستمرة ولو بدون نتائج.. ومن يشكك بقدرات الشعب الفلسطيني الفكرية والعملية في التمييز بين الفساد والنزاهة يجانب التاريخ.. ومن يشكك بقدرة هذا الشعب، الذي وصل به الحال إلى حد القرف من سياسة ارتجالية وتراجعية،على التمييز بين الباحث عن سلطة و شهرة والباحث عن تحرير وحماية مصالح شعبه فهو يجانب كل تجارب هذا الشعب..
الشعب الفلسطيني، الذي وإن بدا اليوم بصورة يتمناها له أصحاب القرار( كلهم دون استثناء) منشغلا بما هو خارج تجربته التاريخية، لن يفاجئني إذا ما هب لنفض كل ما علق به من ملوثات السياسة الانتهازية..

حين قابلت د. صائب عريقات على عجل في رام الله أهداني كتابه "الحياة مفاوضات".. وقد أسمعت الدكتور عريقات بهذه العجالة ما لدي.. وحين تفحصت في اسطنبول كتابه استوقفتني جملة في الصفحة 15 " إن نجاح أية مفاوضات لا يعتمد على الملفات والخبرات لبناء موقفك التفاوضي فقط، فلا بد من دراسة الطرف الآخر من كافة الجوانب وبأدق التفاصيل".. جملة تستحق التأمل.. فكم من التخمة المعرفية أصابتنا بهذا الذي صارت فيه "الحياة مفاوضات".. فما بالنا بمفاوضة ذاتنا؟ هل نحتاج إلى تراكم التخمة المعرفية لنعرف بعضنا البعض حتى نتفق على أن الوحدة ضرورة؟

ثم استوقفتني جملة أخرى في ذات الصفحة عن المفاوضات أيضا "... فهي الطريق لاستثمار التضحيات والبطولات والصمود والوفاء لها وترجمتها إلى حقائق على الأرض.." ويا ليت صديقنا الدكتور صائب عريقات أخبرنا بالمزيد عن الكيفية التي جرى استثمار تضحيات الشعب الفلسطيني وكل تراكمات النضال التي باتت مثار لغط بل واتهام بينما تستمر مع العدو القنوات المفتوحة فهي أشبه ما تكون قد صدئت مع الأخ وصاحب القضية..!

إذا لم تتدارك الحالة الفلسطينية، بكل مكوناتها من غزة مرورا برام الله والناصرة وأم الفحم وشفاعمرو وعين الحلوة واليرموك، حالتها المترهلة فلست واهما وبقراءة بسيطة بأن الشعب الفلسطيني الذي اجترح المعجزات سيجد نفسه مضطرا للفظ كل الشخوص والمكونات منتفضا هذه المرة انتفاضة لن يكون بمقدور أحد لا أن يتبناها ولا أن يستغلها في الطرق الملتوية نحو سلطات واهية غير ذات جدوى، تحت سقف غياب الحريات والديمقراطية والتعددية الفكرية والسياسة وغياب المساواة.. بل والأنكى تحت حراب المحتل المتحكم بكل شاردة وواردة!

التعليقات