31/10/2010 - 11:02

لبنان المقاوم ظاهرة مرفوضة من بعض العرب وكل اسرائيل../ عصام نعمان*

لبنان المقاوم ظاهرة مرفوضة من بعض العرب وكل اسرائيل../ عصام نعمان*
لبنان مجتمع متنوع، كذلك أزمته، متعددة الجوانب ومزمنة. يتفجر جانب من أزمته حيناً وما أن يهدأ حتى يتفجر آخر، ويحدث في زمنٍ صعب ان تتفجر جوانب عدة من الأزمة المزمنة فإذا بالبلد غارق في لجة حرب أهلية. لبنان اليوم يعاني من تفجير ثلاثة أو أربعة جوانب من الأزمة دفعةً واحدة ما يضعه على مفترق بالغ الخطورة. أي من جوانب الأزمة المستفحلة أخطرها، وكيف السبيل إلى مواجهته في سياق مواجهة أوسع وافعل للأزمة المزمنة كلها؟

الجانب الأخطر من الأزمة هو ما تتصل مفاعيله بإسرائيل. انه وجود المقاومة وعلاقتها بالجيش اللبناني، لا سيما من حيث الاجابة عن سؤال مفتاحي: لمن قرار السلم مع الكيان الصهيوني والحرب ضده؟ ثمة جواب نظري بديهي عن هذا السؤال: الدولة هي صاحبة قرار الحرب والسلم ومؤسساتها، لا سيما الجيش، هي ذراعها ويراعها في آن واحد.

لكن، هل ثمة دولة في لبنان؟ وأين جيشها وفعالية ردعها؟ ثمة فريق من أهل السياسة وأركان النظام يشير إلى هيكلية السلطة المرسومة معالمها في الدستور والقائمة مؤسساتها على أوراق التخاطب البروتوكولي والممارسة الشكلية ليقول انها هنا موجودة أو بالأحرى محسوسة.

ثمة فريق آخر، أقليته من سياسيين محترفين وأكثريته من قادة رأي وقوى حية، تجزم بغياب الدولة وتقرر ان ما نقع عليه حيناً أو نحس به حيناً آخر هو مجرد آلية لتقاسم السلطة والمصالح والمغانم بين أركان طبقة سياسية قابضة ومتحكمة قوامها متزعمون في طوائف، ورجال أعمال وأموال، وآمرو أجهزة أمنية.

اذا كان القضاء هو الحكم بين المتخاصمين والمتقاضين في الأمور المدنية والجزائية، فان قاضياً كبيراً سابقاً ومحامياً قديراً حالياً نظر أخيراً في القضية الخلافية العالقة بين القائلين بوجود الدولة والجاهرين بغيابها واصدر فيها، بعد فحص دقيق لمجمل الواقعات والشواهد والأدلة والقرائن، حكما صارماً بل آية ناطقة بالمنطق والموضوعية والرؤية. انه حكم الرئيس سليم العازار، رئيس محكمة التمييز وعضو المجلس الدستوري سابقاً، كما جاء في المقالة الدارسة المنشورة له في جريدة 'النهار' بتاريخ 2/9/2008.

قارب الرئيس العازار أزمة لبنان في ضوء ما يتردد في الوقت الحاضر من مطالبات واقتراحات حول ضرورة إحياء طاولة الحوار الوطني في القصر الجمهوري، عارضاً ما مرّ في 'الدولة' الغائبة وعليها من أحداث ومفارقات، وما ينتظرها من تحديات، وما يمكن أن ينفع في مداواتها من علاجات، ليخلص إلى اصدار حكمه الصارم بغيبوبة الدولة، وليختمه بسؤال مترع بالمنطق وبالحس الوطني: 'هل المطلوب من المقاومين الأبطال تسليم سلاحهم الآن ومدّ رقابهم كي تذبحهم اسرائيل فتتباهى 'الدولة' عندئذ كذباً أمام أمريكا بأنها تمسك بقرار الحرب والسلم'؟! اذ يتلهى بعض السياسيين، بالأصالة أو بالوكالة، بتصريحات وخطابات ومطالبات حول سيادة الدولة وحتمية أن تكون لجيشها القيادة والإمرة على أرضها واحتكار حمل السلاح واستعماله، تمضي اسرائيل في الإعداد والاستعداد لمواجهة التحدي الأكثر خطورة في تاريخها وهو ايران النووية، أو بالأحرى منع ايران من ان تتطور إلى قوة نووية.

غير ان التصدي لايران، حاضراً ومستقبلاً، تحكمه في العقل الاسرائيلي الاستراتيجي عوامل واعتبارات عدة ليس أقلها دور حلفاء ايران الاقليميين في المواجهة المحتملة. كيف تعتزم اسرائيل التعامل مع حلفاء ايران؟ حكومة ايهود اولمرت منخرطة في الوقت الحاضر، عبر تركيا، في مفاوضات غير مباشرة مع سورية، صحيح ان اولمرت سيستقيل منتصف الشهر الجاري عقب فراغ حزبه (كاديما) من اختيار خليفة له في القيادة ورئاسة الحكومة، لكن ذلك لن يفضي إلى التخلي عن خيار المفاوضات، فالتفاوض مع دمشق قرار اتخذته القيادة العليا الاسرائيلية حيث للجيش دور رئيسي وتأثير وازن . وهو قرار يخدم على ما يبدو غرضاً استراتيجياً حيوياً: محاولة تحييد سورية وفك تحالفها او تفاهمها الاستراتيجي مع ايران باعطائها قسماً من حقوقها المحددة في قرارات الأمم المتحدة، وبوعدٍ بإعطائها القسم الباقي من خلال 'رزنامة' زمنية متدرجة، كل ذلك من أجل ضمان استفراد ايران في المستقبل بمعزل عن أي مشاركة أو عون لها من طرف عربي.

سورية تدرك جيداً أغراض اسرائيل في المدى القصير والمدى الطويل، ولن تتورط بالتأكيد في أي صفقة تمس حقوقها وأمنها القومي ومستقبل علاقتها الاستراتيجية مع ايران. في هذا السياق، يقتضي التحسب أيضا لما تريده اسرائيل من سورية في لبنان. فقد اصبحت ايران، بالمعنى الجيوستراتيجي، على حدود اسرائيل الشمالية مع لبنان من خلال حزب الله، وعلى حدودها الجنوبية مع قطاع غزة من خلال حركتي 'حماس' و'الجهاد الاسلامي'. ذلك ان اسرائيل تعتبر المقاومة اللبنانية والمقاومة الفلسطينية حليفتين للجمهورية الاسلامية الايرانية ويقتضي، تالياً، ضمان تعطيل فعاليتهما، اللوجستية ومن ثم العسكرية، في أي صفقة يمكن لتل أبيب ان تتوصل اليها مع دمشق.

يصعب على سورية، ان لم يكن يستحيل عليها، ان تتخلى عن تحالفها مع ايران والمقاومة اللبنانية والفلسطينية مقابل تنازلات اسرائيلية جزئية في الجولان. ان ثمن مصالحة اسرائيل هو من الضخامة بحيث لا يقل عن تسوية شاملة كاملة تنسحب بموجبها اسرائيل من كل الأراضي السورية واللبنانية المحتلة، على ان تدفع للبلدين بالتزامن معها تعويضات ضخمة عن الخسائر والأضرار الناجمة عن حروبها الوحشية والتدميرية، كما تنسحب بموجبها إلى خطوط وقف النار في فلسطين كما كانت عليه في 4/6/1967.

وترضخ بموجب معاهدة تضمنها الأمم المتحدة والولايات المتحدة لقرار عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم والتعويض عليهم، وقيام دولة فلسطينية سيدة مستقلة على كامل الأراضي الفلسطينية كما كانت عليه في 4/6/1976. هذه هي، أو يقتضي ان تكون، تسوية الحد الأدنى بالنسبة لسورية. فهي لا تستطيع ان تقبل، او يقتضي ان لا تقبل، بأقل منها، لكنها في الوقت ذاته تسوية الحد الأقصى بالنسبة لاسرائيل، وليس في مصلحتها، أو هذا ما يبدو لها على الأقل، ان تقبل بها في ظل موازين القوى الراهنة في المنطقة.

لا تسوية منتظرة، والحالة هذه، بين سورية واسرائيل في الحاضر والمستقبل المنظور. يتأسس على ذلك ان لا فرصة للتعايش تالياً بين اسرائيل القلقة على أمنها القومي من التحدي النووي الايراني ومن تحدي حلفائها المقتدرين في لبنان وغزة.

هذا هو رأي اسرائيل كما يتبدى في مواقف وتصريحات قادتها وفي آراء وتعليقات كتابها وصحافييها، وهو أيضا رأي قادة المقاومة اللبنانية كما المقاومة الفلسطينية. ففي مقابلة تلفزيونية جرت أخيراً، أكد نائب الأمين العام لحزب الله الشيخ نعيم قاسم ان المقاومة تستبعد ان يكون في وسع اسرائيل ان تشن الحرب مجدداً على لبنان في هذه الآونة. غير انه استدرك متوقعاً وقوعها في حالتين استثنائيتين: اندلاع الحرب بين اسرائيل (وامريكا) وايران ما يؤدي إلى خلط الأوراق وانفتاح الآفاق على احتمالات شتى، وقيام اسرائيل بشن الحرب على لبنان انتقاماً لقيام حزب الله بردٍ قاسٍ على عملية اغتيال عملاء اسرائيل للقائد المقاوم عماد مغنية.

في ظل وضع اللاتعايش الكامل بين اسرائيل ولبنان المقاوم، يقتضي رصد التطورات والتحسب للتحديات ورسم الاستراتيجيات. فما هي لوحة المواقف القائمة والمحتملة لدول المنطقة؟ اسرائيل لا تحتمل وجود مقاومة قوية ومصممة على التصدي لها في لبنان، واذا كان يتعذر على اسرائيل اقتلاع المقاومة فان خيارها البديل هو الهاؤها بتحديات واضطرابات محلية وصولاً إلى تعطيل فعاليتها، فلا تعود قادرة على الهجوم ولا تكون متمكنة او فاعلة في حال الدفاع عن النفس. لذلك فإن سياسة اسرائيل ووكلائها وحلفائها المستترين في لبنان هي محاصرة المقاومة بمواقف العداء السياسي، واستنزافها بعمليات التصادم الطائفي والمذهبي، ومحاولة جرها إلى اشكال من الاقتتال الأهلي لتجويف قدراتها وفعاليتها.

دول 'الاعتدال' العربية لا تحتمل هي الأخرى ظاهرة لبنان المقاوم. ذلك انه يستجر منها، بل يفرض عليها، التزامات سياسية ومالية لا تريدها. من هنا فانها تميل إلى دعم القوى السياسية المناهضة للمقاومة، مؤملة ان تتمكن هذه القوى من بناء موازين قوى محلية متعادلة ما يؤدي في ظنها، إلى احتمالين: تحويل المقاومة إلى قوة سياسية وبالتالي تقليص قدراتها القتالية، أو استنزاف هذه القدرات بما يؤدي إلى تعطيل دور المقاومة القتالي وربما انهائه.

في ضوء هذه الواقعات والتحديات والاحتمالات، ما عاد في وسع الأطراف المعادية للمقاومة ان تطالب بحوار وطني لتعاود طرح شعاراتها ومطالبها التقليدية القديمة الجديدة. فلا الدولة في لبنان قائمة فعلاً لتطلب لها السيادة أو لتتمكن بوضعها المهترئ الحالي من ممارستها. ولا الجيش بتنظيمه وتسليحه الراهنين قادر على استيعاب المقاومة ناهيك عن تجريدها من السلاح، فما بالك باضطلاعه بمسؤولية الدفاع عن البلد او انهاء احتلال اسرائيل لقسم من اراضيه. ولا ميزان قوى سياسياً يسمح للقوى المعادية للمقاومة بأن تفرض ارادتها السياسية عليها وعلى حلفائها.

ان كل ما يستطيع ان يفعله الوطنيون العقلاء، لا سيما منهم أهل التفكير والتدبير، هو ان يجترحوا استراتيجية للدفاع الوطني يكون التركيز فيها على المناهج والآليات والمقاربات والأدوات التي تكفل أعلى درجات التضامن والتعاون والتنسيق، نعم التنسيق، بين الجيش والمقاومة، ولا سيما في هذه المرحلة الانتقالية التي تمر فيها المنطقة نتيجة التغيير المحتوم في قيادتي اسرائيل والولايات المتحدة. ان من شأن استراتيجيا للدفاع تجمع المواصفات والأهداف التي ذكرنا تقوية لبنان في قدرته الرادعة الناجمة عن اتحاد الجيش والمقاومة في وجه اسرائيل، فلا تعود دولة العدوان قادرة على ان 'تستوطي حيط' أمنه بمغامرات عسكرية كتلك التي ارتدت عليها اندحاراً في حرب صيف 2006.
"القدس العربي"

التعليقات