31/10/2010 - 11:02

“نهاية” الدراما الباكستانية../ عبد الإله بلقزيز

“نهاية” الدراما الباكستانية../ عبد الإله بلقزيز

ليس المرء في حاجة إلى كبير ذكاء ليدرك أن برويز مشرف، رئيس باكستان السابق، كان يملك أن يتحدى الدعوة الداخلية إلى استقالته فيرفضها، ويذهب إلى البرلمان ليدافع عن نفسه في وجه إجراءات العزل التي اعتزم القيام بها من طرف خصومه المتمتعين بالأكثرية النيابية، كان في جعبته ألف حيلة قانونية ليفلت من العزل أو ليعطل إجراءاته على الأقل في انتظار مساومة ما مع الخصوم، تماماً كما كان على هؤلاء الأخيرين أن يخوضوا معركة قانونية طويلة حتى يصبح العزل ممكناً. أما لو كان مشرف ينوي قطع دابر العزل منذ البداية، وإنهاء موضوع التهديد به، لاستعمل سلطته الدستورية ووقع قراراً بحل البرلمان. وإذا كان لقائل أن يقول إن هذا الخيار سيكلف باكستان أزمة سياسية خطيرة تهز استقرارها الهش، وقد يكلفها دماء وأرواحاً فإن الجواب الطبيعي هو أن مشرف ما تعود أن يمارس السياسة منذ جاء إليها بانقلاب ،1999 إلا بهذا المعنى، وما تعود أن يأخذ في الحسبان استقرار بلده وأمن مواطنيه وهو يقاتل خصومه من أجل السلطة.

كان يملك أن يتحدى الحكومة والبرلمان، وهما معاً بين أيدي حزبي “الشعب” و”الرابطة الإسلامية” لأن تاريخه في السلطة كان كذلك: تاريخ تحد، ماذا يمكن تسمية انقلابه العسكري على رئيس الوزراء المنتخب نواز شريف؟ ألم يكن تحدياً للشرعية الدستورية والديمقراطية ولأصوات عشرات الملايين من الناخبين وإرادتهم الحرة؟ وماذا يمكن تسمية دخوله في حلف مع أمريكا لغزو أفغانستان (المدى الاستراتيجي الحيوي للأمن القومي الباكستاني)؟ ألم يكن تحدياً لمشاعر شعبه، وللباشتون بخاصة، وتحدياً للمؤسسة العسكرية والاستخبارات التي كانت نافذة التأثير في الفناء الخلفي الأفغاني لباكستان؟ وماذا يمكن نعت الاستفتاء الهزلي الذي أجراه في البلاد في العام 2002 قصد التمديد له خمس سنوات؟ ألم يكن تحدياً لإرادة الشعب في رؤية سلطة مدنية تتحرر من العسكر وانتخابات حرة ونزيهة تأتي برئيس شرعي؟ وأين نضع إقالته للسيد افتخار شودري رئيس المحكمة العليا، في العام 2007؟ ألم يكن تحدياً لمؤسسة القضاء وللرأي العام المتعاطف مع القضاة ورئيس المحكمة؟ ثم أين نضع مجزرته المروعة ضد المسجد الأحمر ومئات المعتصمين فيه؟ أليس تحدياً للمشاعر الدينية الجماعية ولأرواح ودماء المواطنين؟ وأخيراً، ماذا نسمي قراره بإعلان حالة الطوارئ في البلاد، في نهاية العام 2007 وإقالته رئيس المحكمة العليا للمرة الثانية؟ أما كان تحدياً سافراً للجميع؟

لم يكن في سيرة رئيس باكستان السابق ما يمنعه من مكابرة خصومه ومواجهة تحديهم له، وليس يغير من هذه الطبيعة الصدامية في شخصيته أن بعض التغيير حصل في أوضاع باكستان السياسية بتحالف حزبي المعارضة الرئيسيين وفوزهما في الانتخابات وسيطرتهما على الحكومة والبرلمان، فهذا كله، على أهميته، لا يقيد سلطاته الدستورية الواسعة، ولا يمنعه من خوض معركة في البرلمان أو من اللعب على تناقضات الحزبين، وفي الأحوال جميعاً لا يبرر استسلامه السريع وخروجه من السلطة من دون معركة وعلى نحو يعفي خصومه من تقديم أي ثمن سياسي مقابل تنحيه.

ما الذي حمله على الاستقالة الطوعية إذاً، إذا كان في حوزته الكثير مما يقاوم به الضغط الداخلي عليه؟

حمله، باختصار شديد تخلي الإدارة الأمريكية عنه وتركها إياه يواجه مصيره وحده، لم يكن في حاجة إلى ذكاء كبير ليدرك أن تصريح رايس بأن الأزمة بينه وبين خصومه في موضوع الإقالة شأن داخلي، هو إعلان “جهير” بأن أمريكا رفعت غطاء الحماية عنه: هي التي كانت تتدخل للدفاع عنه في مسائل صغيرة أقل شأناً من مسألة رحيله عن السلطة، وليس من شك في أنه تأكد بنفسه من اتجاهات الموقف الأمريكي منه عبر مستشاريه أو وسطائه، وربما دار في خلده أن المطالبة بتنحيته حصلت على إجازة أمريكية وإلا ما كان لها أن “تغامر” بنفسها في مواجهة رئيس يعرف خصومه مقدار قدرته على الرد. هذه وسواها أسباب أقنعت مشرف بالرحيل من دون صخب.

هل لهذا الرحيل من دون صخب أسباب أخرى تفسره من قبيل منحه ضمانات بعدم الادعاء عليه أو تقديمه للعدالة على ما ارتكبه من تجاوزات فادحة أثناء توليه المسؤولية؟ ربما، لكنها لن تغير من حقيقة الأسباب الفعلية التي أجبرته على الاستقالة، فالضمانات لم تكن ما يطلبه مشرف لنفسه (إلا بعدما أصبح أمر الاستقالة وارداً عنده) وإنما مطلبه السلطة. أما وأن البقاء فيها لم يعد ممكناً مع خذلان أمريكا له، فقد يكون في الأولوية حينها ترتيب وضعه في مرحلة ما بعد تنحيه عن السلطة.

ما أغنانا عن القول إن رئيس باكستان السابق هو من اختار نهايته بنفسه وذهب إليها طائعاً. وهو ما اختارها بسياساته القاسية تجاه خصومه، وتحديه للمؤسسات والرأي العام فقط، وإنما أيضاً لأنه أقام حكمه على قاعدة الاعتماد على الولايات المتحدة في كل شيء بما في ذلك شرعية حكمه. وجوده في السلطة، منذ البداية، كان اغتصاباً للشرعية، ولم يكن في وسعه تأسيس شرعية أخرى بديل سوى شرعية الأمر الواقع، شرعية القوة، مستغلاً في ذلك قيادته للجيش واعتماده المطلق على الدعم الأمريكي. ولم يكن في وسع شرعية القوة أن تعوض يوماً قوة الشرعية أو تلغيها. ولأنه ما كان يمكن أن يكون حاكماً يحظى بالشرعية الداخلية، ولا كان يمكن للشرعية الممنوحة له من خارج أن يغطي نقص شرعيته الفادح فقد كان على أزمة الشرعية أن تنفجر في وجه نظامه يوماً، وهكذا انفجرت دون أن ينفعه دعم خارجي ربط مصيره فكانت نهايته أثراً لنهاية ذلك الدعم.

ولقد أحدث ارتباطه المصيري بالسياسة الأمريكية انقساماً لا سابق له في تاريخ باكستان: داخل الشعب، وداخل الطبقة السياسية، وداخل الجيش، وبين الشعب والجيش، ان الذين سقطوا في وزيرستان من المدنيين والعسكريين في حرب أمريكا على الإرهاب أكثر من عدد الذين سقطوا في الحروب بين باكستان والهند، والاغتيالات السياسية التي حصلت في عهده أعلى معدلاً من أي عهد سابق. وفي عهده كان على قادة الأحزاب أن يدخلوا السجن “نواز شريف” أو يعيشوا في المنافي “بينظير بوتو، نواز شريف”، وكان على القضاة أن تمتهن كرامتهم وعلى التظاهرات الشعبية أن تسحق من دون رحمة، وعلى قرار البلاد أن يستباح، وعلى الفتنة المذهبية أن تشتعل.. الخ لم يكن مستغرباً إذاً أنه انتهى هذه النهاية، المستغرب ربما أن هذه النهاية تأخرت كثيراً.
"الخليج"

التعليقات