أزمة الطاقة العالميّة: عاصفة في طور التكوين؟ (2/4)

لا يمكننا فهم أزمة الطاقة الغربية في السبعينيات دون أن نشير بصريح العبارة أنها أزمة وقعت بسبب التدخلات الحكومية

أزمة الطاقة العالميّة: عاصفة في طور التكوين؟ (2/4)

(Getty)

تناولنا في المقال الأول أثر الغزو الروسي لأوكرانيا على العالم وعلى نظام الطاقة العالمي، وكيف أنه دفع بالحكومات الغربية إلى التدخل في السوق الحُرة لتخفيف من تبعات العقوبات على أسواقها، وفي هذه المقالة، نقدم كيف يمكن للتدخلات الحكومية أن تكون سيئة إذا لم تكن مدروسة، ويشير كاتبي المقالة بوضوح إلى التدخلات الأميركية إبان أزمة النفط في سبعينيات القرن الماضي.

أزمة الطاقة العالميّة: عاصفة في طور التكوين؟ (1/4)

أزمة الطاقة العالميّة: عاصفة في طور التكوين؟ (2/4)

أزمة الطاقة العالميّة: عاصفة في طور التكوين؟ (3/4)

أزمة الطاقة العالميّة: عاصفة في طور التكوين؟ (4/4)

***

مع تنامي دور القومية الاقتصادية في الآونة الأخيرة ومع تراجع العولمة، ستكون السمة الرئيسة لنظام الطاقة القادم كما يحددها عدد من المحللين: «التدخل الحكومي في قطاع الطاقة على نطاق لم نشهده في الذاكرة الحديثة»، إذ أدركت الحكومات الغربية الآن، بعد أربعة عقود سعت خلالها عموما إلى الحد من نشاطها في أسواق الطاقة، الحاجة إلى تأدية دور متوسِّع في كل شيء مثل بناء (وتقعيد) البنية التحتية للوقود الأحفوري والتأثير على الأماكن التي تشتري وتبيع فيها الشركات الخاصة الطاقة والحد من الانبعاثات من خلال تسعير الكربون، والدعم، والتفويضات، والمعايير.

يدعو هذا التدخل بالغالب إلى مقارنته مع التدخل الحكومي في السبعينيات وكيف أدَّى إلى تفاقم أزمات الطاقة المتكررة، إلا أنَّ التدخل الحكومي الحالي لن يكون سيئًا مثل سابقه إذا أدارته الحكومات إدارة صحيحة، حيث يمكن للتدخلات المحدودة والمصممة بدقة لمعالجة إخفاقات السوق المحددة أن تمنع أسوأ آثار تغير المناخ، وأن تخفف من العديد من أخطار أمن الطاقة، وأن تساعد في إدارة أكبر التحديات الجيوسياسية للانتقال القادم للطاقة.

التدخل الحكومي: علاجٌ أسوأ من المرض

لا يمكننا فهم أزمة الطاقة الغربية في السبعينيات دون أن نشير بصريح العبارة أنها أزمة وقعت بسبب التدخلات الحكومية، وحتى قبل أن تخفِّض الدول الخليجية الأعضاء في منظمة الدول المصدرة للنفط (أوبك) الإنتاج وتفرض حظرا نفطيا على الولايات المتحدة ودول أخرى دعمت إسرائيل خلال حرب أكتوبر عام 1973، سعت واشنطن بنشاط إلى إدارة أسواق النفط الأميركية، حيث حدد الرئيس الأميركي دوايت أيزنهاور في عام 1959، على سبيل المثال، حصصًا على واردات النفط من أجل حماية المنتجين الأميركيين، وكان لهذه الحصص تأثيرها المقصود، مما سمح للمنتجين الأميركيين بالازدهار وزيادة العرض طوال فترة الستينيات، إلا أنها فشلت في حماية المستهلكين من ارتفاع التكاليف، ومع توجه الأميركيين إلى الضواحي، وشراء المنازل والسيارات في تلك الفترة، تجاوز استهلاك النفط العرض، وأخذت الأسعار بالارتفاع في نهاية المطاف.

جرب الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون، للحفاظ على الأسعار تحت السيطرة، عددا من السياسات، حيث فرض في عام 1971، في نفس الوقت الذي أنهت فيه إدارته معيار الذهب[1]، سلسلة من الضوابط على الأجور والأسعار، بما في ذلك على النفط والغاز، لكن هذه الإجراءات زادت فقط من الطلب على النفط بينما دفعت العرض المحلي إلى الانخفاض. أجبر نقص الوقود بحلول شتاء 1972-1973 بعض المناطق التعليمية على الإغلاق في أيام مختلفة، وكانت وسائل الإعلام تحذر من أزمة طاقة تلوح في الأفق.

رضخ نيكسون في ربيع عام 1973 للضغوطات وألغى حصص أيزنهاور لاستيراد النفط، وحث الأميركيين في الوقت نفسه على ترشيد استهلاك وقود السيارات. وبحلول يونيو/حزيران من العام ذاته، أي قبل عدة أشهر من الحظر النفطي العربي، أبلغ ما يقرب من نصف محطات الوقود في البلاد عن مشاكل ونقص يعوق عملها، وكافح السائقون للعثور على الوقود.

وبدلا من التراجع عن دور الحكومة في أسواق الطاقة وقتها، ضاعف نيكسون الإجراءات، وأثبت أن العلاج أسوأ من المرض. أنشأ نيكسون في نوفمبر 1973 برنامجًا فيدراليًا حدد من خلاله المسؤولون الحكوميون كيفية تخصيص البروبان ووقود التدفئة ووقود الطائرات والديزل وأنواع الوقود الأخرى. كان هذا البرنامج، وفقًا لوليام سايمون، الذي ترأس إدارة الطاقة الفيدرالية[2] في ذلك الوقت، بمثابة «كارثة». أدى حظر النفط العربي في ظل هذه الخلفية من التدخل الحكومي إلى «ذعر الشراء»[3] ولطوابير في محطات الوقود في جميع أنحاء أميركا.

(Getty)

شهدت نهاية السبعينيات أزمة نفطية أخرى، أججتها العديد من نفس القوى، حيث أدت انتفاضة شعبية في إيران في أواخر عام 1978[4] إلى توقف إنتاج النفط هناك، مما تسبب في نقص في الولايات المتحدة وبلدان أخرى ورفع الأسعار ارتفاعًا جنونيًا، وكما حدث خلال الأزمة السابقة، لم تؤد ضوابط الأسعار الفيدرالية والجهود المبذولة للتخصيص إلا إلى تفاقم الأمور، ومرة أخرى، انتظر الأميركيون في طوابير الغاز، واقتصروا على التزود بالوقود في أيام معينة، واستمعوا إلى الرئيس جيمي كارتر يلقي خطابه الشهير حول «أزمة الثقة»[5].

وتعلمت الحكومات الغربية دروسًا متعددة من إخفاقات الإفراط في الإدارة الجزئية لاقتصاد الطاقة وأنها قد تعود عليها بنتائج عكسية. بدأ كارتر في تحرير أسعار الطاقة، وهي العملية التي بادر الرئيس الأميركي رونالد ريغان بعد ذلك إلى تسريعها. قلصت حكومة الولايات المتحدة تدريجيا على مدى العقود القليلة التالية دورها في اقتصاد الطاقة، إذ ألغت شيئا فشيئا حصص الاستيراد، وأنهت ضوابط أسعار النفط والغاز، وألغت نظام التخصيص.

وسَّعت الحكومة الأميركية دورها في المقابل في المجالات الأخرى المتعلقة بالطاقة، ووضعت معايير الاقتصاد في استهلاك الوقود وحدود السرعة المنخفضة، ودعمت الوقود الاصطناعي ومبادرات تدفئة المنازل، وإنشاء احتياطي البترول الاستراتيجي، وتوسيع التأجير للاستكشاف والإنتاج في خليج المكسيك وألاسكا. إلا أنها، ومخالفة لقاعدة عدم التدخل، استخدمت عقوبات متكررة ضد عدد من الدول المنتجة للطاقة، مثل فنزويلا وكوبا وإيران.

استرشدت العديد من التغييرات الأكثر أهمية في قطاع الطاقة منذ أزمات السبعينيات، مثل تحرير مبيعات الغاز الطبيعي وخلق منتجي طاقة تنافسيين وأسواق طاقة بالجملة، بإجماع عام على أن أمن الطاقة والتكاليف المنخفضة يتم ضمانها بشكل أفضل ببساطة عن طريق السماح للسوق بالعمل من تلقاء نفسها دون تدخلات خارجية، خصوصًا أن التدخلات الحكومية غير المدروسة، تكون علاجًا يزيد من وطأة المرض، بدل من أن تكون ترياقًا ينهي وجوده.


إحالات:

[1] أعلن الرئيس الأميركي نيكسون في عام 1971 عددًا من التدابير الاقتصادية لمواجهة زيادة التضخم، أهمها كان إلغاء التحويل الدولي المُباشر من الدولار الأميركي إلى الذهب، وعرف هذا الأمر بـ «صدمة نيكسون»، حيث ساهمت في رفع مؤشرات السوق وزيادة حجم التداول في البورصة الأميركية، واستمر السوق بالارتفاع لمدة عام ونصف تقريبًا، إلا أنها لم تكن كافية لتعويض أثر الاضطرابات الاقتصادية التي تلتها.

[2] الإدارة التي أنشأها ريغان في السبعينيات للتعامل مع أزمة النفط.

[3] يشير المصطلح إلى نزعة الناس إلى شراء المواد الأساسية بشكل جنوني خوفًا من انقطاعها، وهو ما يحصل في أوقات الأزمات عمومًا.

[4] وهي انتفاضة أهالي قم، والتي شكلت نواة الثورة الشعبية التي أطاحت بالنظام الملكي في إيران، وقد بدأت الاحتجاجات ضد مقال نشره نظام الشاه يسيء فيه إلى شخصية الإمام الخميني.

[5] خطاب من الرئيس الأميركي آنذاك جيمي كارت ينتقد فيه ويستنكر أسلوب الحياة الأميركي القائم على الأنانية وعلى الاستهلاكية وعلى تجزأ الرأي الأميركي، وجاء الخطاب على إثر انقطاع النفط الإيراني وغليان الأزمة في الشارع الأميركي. طالب كارتر الشعب الأميركي في خطابه أن يتوجد وأن يتجاوز أنانيته لأجل الصالح العام ليتمكنوا جميعًا من حل الأزمة معًا.

التعليقات