"أنا إسمي خالد محمّد سعيد"..

"تحطّمٌ في الجمجمة، نزفٌ من الرّأس والأنف والفم، أسنانٌ منزوعةٌ، كسرٌ للفكّ السّفليّ، كسرٌ في الذّراع والسّاق، كدماتٌ زرقاء وأخرى حمراء في كلّ أنحاء الجسد الممزّق"..

كأسطول الحرّيّة، كحذاء منتظر الزّيديّ، كشهيدة الحجاب مروى الشّربينيّ، كمحمّد الدّرّة، كالطّفلة المغربيّة المعذّبة زينب، كالشّاب صادم السّعود، كسامي الحاج، قرعَ صاحبنا جدارَ الخزّانِ وصمت ليتحدّث الجميع..

خالد محمّد سعيد، ما كنتُ أعرفهُ يومًا، ما وقعتُ على اسمِهِ إلاّ صُدفَةً... عرّفتني إليهِ مؤخّرًا صديقةٌ جزائريّةٌ تقيمُ في مصر، ومنذ ذلكَ الحينِ تعاهدنا على ألاّ نفترق.

كنّا وقتها نتحدّث عن خسارة الجزائر في أولى جولاتها بالمونديال، ومن حيثُ لا أدري بدأتُ أشكو لها أمر منعي دخول الأردن، فشكت لي أمر ضربها في إحدى المظاهرات الغاضبة لخالد، ثمّ أبرقتْ برابطٍ قادني إليه، ليكون أوّل لقاءٍ يجمع بيننا، وقفتُ خلاله على حكايته، لا يرويها هو، إنّما أقوامٌ كثرٌ غيره، فقد أضحى في ليلةٍ وضحاها حكايةً شعبيّةً ومن مأثورِ الكلام.

ما كنتُ أعرفُ خالدًا، ولولا فلاشات الجراحِ والوجع والجريمة، لما عرفتهُ صديقتي الجزائريّة، ولا عرفته أنا البعيد المتخفّي في سهولِ فلسطين، ولا عرفه غيرنا، ولظلّ حتمًا حبيسَ ظلّه أبدا... لم يُرِدْ الشّهرَةَ، ولكنّها أرادته غيابيّا..

" أنا اسمي خالد محمّد سعيد ": عنوان صفحة التّضامن المركزيّة مع خالد على الفايس بوك، بلغ عدد المنتسبين إليها خلال أيّامٍ معدوداتٍ أكثر من مئتين وأربعين ألفا، إلى جانب مئات الصّفحات الأخرى والمدوّنات والصّحف والمجلاّت وأفلام الفيديو والمواقع والكليبات الّتي تناولت حكايته الغرائبيّة العجائبيّة الشّهرزاديّة، يرِدُها عشرات الآلاف يوميّا.

ابنُ ثمانيةٍ وعشرين حلمًا وأملا، يعرفُ أبجديّة البحر الاسكندرانيّ من ميم موجه لحاء محاره، يعيشُ في متعة وحسرة الظّلّ المصريّ الملايينيّ، بعيدًا تمامًا عن أعينِ المتصفّحين والفضوليين، له حياةٌ تحتفظُ بتفاصيلها لنفسها... ظلّ كذلك إلى أن ابتسم لهُ القدرُ مكرًا، فلم يبقى مصريٌّ حرٌّ لا يعرفُ اسمه ويهتف به.

اليوم أكتب عنه وأكتب له، خاصّةً وأنّ قصّته لا تعود إليه وحده، وليست ملحمةً نادرةً يتيمةً لبطلٍ نادرٍ متفرّد، بل هيَ فصلٌ من روايةٍ لم تكتب نهايتها مُذ أبرهةَ الأشرَمَ وكسرى ورمسيسَ ونيرون، توقّع أن تجدَ شبيهاتها اليومَ قَلْبَ كلّ حارةٍ عربيّة، عند كلّ تقاطع طرق، لدى كلّ محطّة حافلات، في كلّ وكر أمن، بعد كلّ تجمّع، خلفَ أيّ حائطٍ، تحتَ " أَنْهي " سقف، حكايةٌ تتناسخُ وتتوالدُ وتتناصّ من ومع ملايين الحكاياتِ الحبيسةِ في ملايين الأفواه المكمّمة، والعيونِ الباكية الغائرة، والنّفوسِ المجرّحة، والعقولِ المصرّعة.

حبّكَ لخالدٍ، تعاطُفكَ معهُ وودّكَ له، لن يَحتاجَ منكَ إلى كثيرِ تمحيصٍ وتنقيب، فصوره وتسجيلاتُ الفيديو القليلةُ المتداولةُ على صفحاتِ (( الويب )) كفيلةٌ بقولِ كلّ شيئٍ عنه: وسيمٌ رقيقٌ، خجولُ الابتسامةِ، شغفٌ بالحياة، لطيفٌ، مهذّبُ، محبوبٌ، اجتماعيّ وأنيقٌ، يعرف كيف يمتّع نفسه، يحبّ القطط وركوب الدّراجات النّاريّة...

جُلْ أكثر قليلاً بين الرّوابطِ تجِدُهُ إنسانًا عصاميّا ناجحًا في حياته، يدير شركة استيرادٍ وتسويقٍ متواضعة، يتمتّع بعلاقةٍ طيّبةٍ جدّا مع ذويه وجيرانه، يتيمُ الأبِ مُذ كان عمره سبع سنوات، يهوى صيدَ الأسماكِ والسّباحَةَ وبرمجة الحاسوبِ وأعمالَ الكهرباءِ والاستماعَ إلى الموسيقى الغربيّة الشّعبيّة وعزفها على حاسوبه، كما يهتمّ كثيرًا بتزيينِ حُجرتِهِ و" فخفختها "، وينتمي لعائلةٍ شاذليّةٍ حمديّةٍ صوفيّة، وفّرت لهُ مساحةً روحانيّةً غنّيّة عبر الحضرات وحلقات الذّكر والأوراد، وذلك لا ينفي أن يكونَ مشاغبًا مشاكسًا في سنيّ شبابه الأولى، تمامًا مثل أيّ شابٍ مراهقٍ في العالم، وليس في هذا أدنى حرج..

أقامَ خالدٌ في الولاياتِ المتّحدة زمانًا، حيث يسكن إخوته الثّلاثة، ويبدو أنّ تأشيرة الهجرةِ الّتي طلبها من السّفارة الأمريكيّة ببلده لن تعرفَ إليه طريقًا بعد الآن، هذا إن تمّت الموافقةُ عليها أصلاً، فنحنُ في عصرِ ما بعد الحادي عشر من أيلول.

ترى، لماذا يهاجرُ الإنسانُ من وطنه مبتعدًا عن أهله وملعب صباه؟
بالمقابل...
فإنّكَ لن تحتاجَ إلى أكثر من مؤثّرٍ بصريٍّ واحدٍ لتكتشفَ حجم الجريمة بحقّ خالد، مأساته وفاجعته... صورةٌ واحدةٌ تكفي لإيجازِ كلّ شيئ.. مشهدٌ وحيدٌ لوجهه بعد موته سيجعلكَ حتمًا تتساءل: ترى أيّ جرّافةٍ شرسةٍ داسته، هل وقع من الطّابق رقم 30، أو ربّما أصابته قذيفةٌ طائشة؟!!!!

لم يعد لخالدٍ بعد اليوم اسمٌ واحد، فهوَ الآن (( قتيلُ الشّرطة ))، (( شهيدُ الطّوارئ ))، (( ذبيحُ المخبرين ))، (( شهيد الاسكندريّة ))، (( شهيد قسم سيدي جابر ))، (( شهيد التّعذيب ))، ألقابٌ ومسمّياتٌ منحته إيّاها جماهيرُ الشّارع المصريّ المنتفضة غضبًا لما أصابه..
هذا ما نشر في وسائل الإعلام المصريّة..





خالدٌ شابٌّ (( عطايلي )) و (( صايع ))، أزعرٌ وألعبان، حشّاشٌ وذو خبرةٍ غنيّةٍ في تجارةِ المخدّراتْ، صاحبُ أسبقيّاتٍ، متّهمٌ في ستّ قضايا، من ضمنها السّطو المسلّح، وحيازة سلاح أبيض، والتّحرّش الجنسيّ، فارٌّ من العدالة، كما أنّه متملّصٌ من الخدمةِ العسكريّة، ومطلوبٌ لذلك.. وكان أن رصدته عناصر الشّرطة السّريّة فتبعته لإلقاء القبض عليه...

عندما رأى خالدٌ - تاجر المخدّرات الخبير!!! - رجالَ الشّرطةِ يتّجهونَ نحوه وهو برفقة أحد أصدقائه، قام فورًا لشدّة هلعه بابتلاع لفافة بانجو كانت بحوزته، طولها 7.5 سنتيمتر وعرضها 2.5 سنتيمتر، الأمر الّذي أدّى إلى إصابته بالـ (( إسفكسيا ))، أي الاختناق النّاتج عن انسداد مجرى القصبة الهوائيّة، وفق ما جاء في تّقرير الطّب الشّرعي المبدئيّ، ووفق ما روت الشّرطة والمسعفون، وقد توفيَ بسبب ذلك، وبالتّالي أصبح " شهيد البانجو " بأقلام صحفيي الدّولة وصحفها " القوميّة "!!!!

إذًا فخالدٌ مجرمٌ خطير وقد نالَ عقابَهُ الحقّ، وإنّ كلّ متعاطفٍ معه مجرمٌ مثلهُ بمعايير الطّوارئ، حتّى ولو كانَ التّعاطف لا يتعدّى الاعتراضَ على إعدامه علانيةً من غير محاكمة...

ذاكَ ما جاءَ في بيان وزارة الدّاخليّة المصريّة مبرّرةً الجريمة، مدافعةً عن شرطتها السّريّة ( مخبريها ).. وحذت حذوها أبواقُ السّلطةِ منقّبةً عن تاريخٍ أسود لخالد، مشوّهةً صورته باسم تقديم المعلومة الموضوعيّة للمشاهد حتّى يحكّمَ عقله لا عاطفته!!!

ماتَ خالد، دفنوهُ سريعًا ظنًّا منهم أنّ الجريمةَ ستدفنُ معه " ولا حسّ ولا خبر ".

لكن بأسرع ممّا دفنوه، انتشرت رائحةُ الفاجعةِ في كلّ زقاقٍ من أزقّةِ الاسكندريّة، طرقت كلّ بابٍ فيها، تسوقُها روحُ خالدٍ من موضعٍ لموضع، فانكشفَ الخفيّ وبان، وسقطَ الظّلمُ وانجلى البُهتانْ.




(( سايبر ))، مقهى إنترنيت بحيّ كيليوبترا وسط الاسكندريّة، فيه كانَ يجلسُ خالدٌ مع أحد أصدقائه عندما دخل عوض سليمان ومحمود صلاح أو الفلاّح، متجهّمان ضخمان مفتولا العضلات، وبدآ يفتّشان النّاس دونما إفصاحٍ عن هويّتهما..

اعترض خالدٌ وأبدا امتعاضًا: " هل لدى حضرتكما أيّ إذن بالتّفتيش؟ من أنتما، ماذا تريدان؟... ليس من حقّكما أن تفتّشاني من غير إذن "..

كان ذلكَ لدى عوضٍ ومحمودٍ، المخبرين الشّرسين، بمثابة إعلان حربٍ عليهما، فهما سدنةُ الطّوارئ المستخلفون في الأرض، ودونما مقدّمات، هجم أحدهما على خالدٍ وشدّه من الخلف شالاًّ حركته، صرخ خالد من جديد: " إنتو مين؟ عاوزين منّي إيه؟ "، لم يعرّفا بنفسيهما.. بدأ الآخر بضربه بكلّ قوّة، ردّ مدافعًا عن نفسه فخبطا رأسه برفّ رخاميّ، حاول صاحب المقهى التّدخل لكن دون جدوى، جرّا الشّاب الرّقيق خارج المقهى، صبّوا عليه وابلَ لكماتٍ وصفعات، ركلوا كلّ موضعٍ في جسده بأرجل همجيّتهم، داسوه بغوغائيّتهم، ظلّوا يعبثونَ به تعنيفًا وضربًا وتمثيلاً مدّة عشرين دقيقة متواصلة، حاول الخلاص دونما فائدة، دحرجوه رفصًا وسط الشّارع نازفًا، رطموا رأسه بالسّيارات المصطفة المرّة تلو المرّة، ثمّ سحلوه فوق الإسفلت تخلّصًا من عيون ومسامع النّاس المشدوهين المرعوبين الّذين بدأوا بالتّجمهر دون أن يحرّكوا ساكنًا، اقتادوهُ إلى مدخل عقارٍ مجاور، وهناك خبطوا رأسه بالباب الحديديّ، صفقوا وجهه برخام الدّرج، طرقوا رأسه بالتّرابسين عنيفًا..

استغاثَ خالدٌ، صرخ واستنجد واسترحم، وما من مجيب، الكلّ يتفرّج مصنّمًا: المارّة في الشّارع، النّاس الواقفونَ يتفرّجون، الرّجالُ الجالسون في مقهيين على طرفيّ الشّارع...
- سيبوني.. حموت..
- إنت كده كده ميّت...
" سيبوه.. سيبوه.. ده حيموت، حرام عليكو "، صرخت فتاةٌ في الثّامنة عشر من عمرها، شاركتها صرختها زوجة بوّاب العقار وإحدى السّيّدات المقيمات فيه، فجاء الرّدّ شرسًا: " هوّا ده اللّي احنا عاوزينه.. إنّه ابن الوسخة ده يموت "..

بعد مدّة من الزّمان، أسرع طبيبٌ مرّ صدفةً في الشّارع ليسعفه، يرافقه طالبٌ في الصّيدلة، كان الأوان قد فات حينها، لقد ودّعت روح خالدٍ آلامَ جسده وتشويهاته، فارق حياته الجميلة البسيطة، وبدأت منذ الآن رحلته نحو عوالم الشّهرة بأسلوبٍ عجزت عبقريّة هوليوود الإجراميّة عن ابتكاره، لكنّ سلطة الطّوارئ المصريّة ليسَت عنهُ بعاجزة.

نَهَرَ المُجرمانِ الطّبيبَ والطّالبَ وأمراهما بالابتعاد فورًا، مهدّدانِ كلّ من سيتدخّل بملاقاةِ المصير نفسه، فانسحبا صاغرَين.

رحل المخبران القاتلان ليعودا بعد زمانٍ قليلٍ بسيارةِ شرطةٍ يرافقهما ضابطٌ بالأبيض (( الملائكيّ ))، أو أنّهما وفقَ روايةٍ ثانية، اتّصلا بالضّابط الأبيضِ فأرسل إليهما بسيارة، المهمّ أنّهم أخذوا الجثّةَ أخيرًا في رحلةٍ مكّوكيّةٍ إلى قسم (( سيدي جابر )) ليروّحوا عن روحها المنعتقة منها، وكانت إحدى النّساء قد أسرعت بملايةٍ ليغطّوه، فرفضوا ذلك مدّعين بأنّه مغمًى عليه لا أكثر.

بعد عشر دقائق ردّوه إلى حيث أخذوه، ألقوه أمام العقار ذبيحةً نازفةً بحضور ومباركة مأمور القسم ونائبه وعدد من ضبّاط المباحث، ثمّ طلبوا سيّارة إسعافٍ لإنقاذه، تمامًا وفق ما يقتضي القانون ومقتضيات حقوق الإنسان وواجب احترام المواطن!!!

جمعوا الهواتف النّقّالة من المارّة، هدّدوا النّاس بملاقاة المصير نفسه إذا ما شهدوا على الحادثة، قالوا إنّه تاجر مخدّراتٍ ابتلع بضاعته فاختنق ثمّ دهسته سيّارة عندما حاول الفرار من قبضة الشّرطة السّريّة!!!

وصلت سيّارة الإسعاف، رفض طاقمها إخلاء الجثّة وهي بهذه الحالة، أجبروهم على ذلك عنوةً: "حتطّلعوا يعني حتطّلعوا "، أخذوا الجثّة إلى المشرحة، كتبوا ما كتبوا في تقرير الطّبّ الشّرعيّ المبدئيّ، وزوّروا ما زوّروا في ملفّ خالدٍ الأمنيّ والجنائيّ، وبعد أن حبكوا الحكاية، استدعوا أخاه ليستلم الجثّة، أراد استلامها بالجواز الأمريكيّ الّذي يحمل فرفضوا، فاستلمها عنه أحد العاملين في المشرحة ببطاقته المصريّة، طلبوا إلى أخ خالدٍ أن يسرع في دفن الجثّة من غير إحداث أي جلبة، وإلاّ....

تلك روايةُ عشرات الشّهود، الصّور، التّسجيلات وزلاّت الجناة.
.................................................................................
تحطّمٌ في الجمجمة، نزفٌ من الرّأس والأنف والفم، أسنانٌ منزوعةٌ من مكانها بقيت مدخل العقار مع فردة حذائه الغارقة بالدّم، كسرٌ للفكّ السّفليّ، كسرٌ في الذّراع والسّاق، كدماتٌ زرقاء وأخرى حمراء في كلّ أنحاء الجسد الممزّق، الزّرقاء نتيجة ضرباتٍ قبل الوفاة، والحمراء بعدها، تشويهٌ مريعٌ للجسد، إضافة إلى نزفٍ داخليّ...

كلّ ذلكَ أعراض جانبيّة لابتلاع لفافة بانجو!!!!
ولم يشر تقرير الطّبّ الشّرعيّ المبدئيّ سوى إلى وجود رضّات وكدمات في الجسد نتيجة اصطدامات بأجسام صلبة، وهي بسيطةٌ ولم تؤدّ إلى وفاته!!!

أصرّتْ عائلةُ خالدٍ على إخراجِ جثّته وإعادة تشريحها، تريدُ إثباتَ رواية الشّهودِ حول تعذيبِ خالدٍ حتّى الموت، فأُخرِجَتْ الجثّةُ بعد تسعة أيّامٍ من تاريخ الوفاة، وأشرفت على تشريحها من جديدٍ لجنةٌ ثلاثيّةٌ يترأسها كبير الأطباء الشّرعيين، الدّكتور السّباعي، واليوم فقط ظهرت النّتائج... وليتها لم تظهر..



دفقت دماءُ خالدٍ لتكونَ نقطةَ توحّدٍ وائتلافٍ بين الأصواتِ المصريّة الوطنيّة المعارضة، جلجلت آهاته لتغدوَ الوقودَ المؤجّجَ لفصلٍ جديدٍ مصيريٍّ وفارق من فصول مقاومة الدّكتاتوريّة والفساد والاستبداد وصياغة مصرَ الدّيموقراطيّة الحرّة الكريمة، على دماءِ خالدٍ التقت آمالُ وأحلامُ النّاس المسيّسين المأطّرين، مع المعارضين المستقلّين، مع النّاس العاديين والبسطاء، في مشهدٍ وطنيّ قوميٍّ مؤثّر.

كان لا بدّ لأبناء الشّعب المصريّ الأحرار أمامَ هذه الصّاعقة، وخاصّةً الشّباب، إعلان حربٍ شرسةٍ على نظام الطّوارئ التّعسفيّ، فنزلوا إلى الشّوارع نساءً ورجالاً وأطفالاً، شيبًا وشبّانًا، شاركهم محمّد البرادعي وأيمن نور وغيرهم من قيادات المعارضة، صرخوا سخطهم واستنكارهم للجريمة انطلاقًا من الاسكندريّة، فالقاهرة، فالفيوم، فالسّويس، فبور سعيد، فالزّقازيق وكلّ أنحاء مصر، نظّموا خلال أيّامٍ مئات المظاهرات والاعتصامات ووقفات الاحتجاج والمسيرات، ضربوا واعتقلوا وقمعوا، لبسوا السّوادَ، حملوا النّعوشَ الرّمزيّة، كتبوا على الأرض والجدران، هتفوا باسمِ خالدٍ، رفعوا صورَه ثائرين، حملوا اللاّفتات وأطلقوا الشّعارات الرّافضة للفساد والتّعسّف والأحكام العرفيّة وانتهاك حقوق الإنسان، وطالبوا بإقالة وزير الدّاخليّة ومحاكمة المجرمين، وحمّلوا محمّد حسني مبارك المسؤوليّة المباشرة، حاربوا روايات السّلطات الكاذبة حول وفاة خالد، أسقطوها منتصرينَ لجراح الشّهيد.... وعندما ارتفعَ صوتُ الكُرباج ( السّوط )، واتّهمت السّلطاتُ المصريّةُ المحتّجينَ بالعمالةِ والتّبعيّة لجهاتٍ أجنبيّة وتلقّي أموالٍ منها، إضافةً إلى تخريبِ أملاكِ الدّولةِ والإخلال بالنّظام، ردّ النّاسُ بالانتفاضِ صمتًا أسودًا، فبدأوا بتنظيمِ عشرات الوقفات الصّامتة وهم يلبسونَ السّواد، يقرؤونَ القرآنَ والإنجيل ويشعلونَ الشّموع، ولا يزالُ النّضالُ مستمرّا...


بنى خالدٌ بجسده المشوّه حوضًا تُصبُّ فيه كلّ حكاياتِ الاضطّهاد، وصارَ اسمُهُ مدخلاً إلى حيواتِ المعذّبينَ والمقتّلينَ والمشرّدينَ والمعتقلينَ والمضطّهدين وضحايا الإهمال والفساد... من رحم التّراكماتِ ولدت باسمه انتفاضة، فليس هو الأوّلُ ولن يكون الأخير.. لقد حوّلهُ المصريّونَ إلى صليبٍ مقدّسٍ يعلّقونَ عليه أسماءَ كثيرة، تجدها مكدّسةً داخل صناديق الويب، وفي مواقع منظّمات حقوق الإنسان بالآلاف، لقد صار جداريّةً ضخمةً يسعى كلّ مصريّ حرّ إلى أن ينقش فيها يأسه وغضبه من الفساد والاستبداد:

ضحايا عبّارة السّلام، حرائق واصطدامات القطارات، انهيار جبل المقطّم، شهداء نجع حمادي، حرق خليل إبراهيم خليل على يد الشّرطة، معتقلو حركة كفاية و 6 إبريل، مختطفو الصّحافة والإعلام، حبس النّاشط مسعد أبو فجر، قتل عبد الوهّاب قرّة النّوبيّ، تشريد أهالي مساكن زينهم، اعتقال وتعذيب سائقي الميكروباص بسبب إضرابهم عن العمل، تشويه المعاق رجائي سلطان، تعذيب الشّاب أحمد صابر، عماد شوقي، معذّبو سجن برج العرب، قتل الشّاب جاد محمود، وتامر مشهور، وعبد الرّزاق عبد الباسط، مأساة أهالي القباري، المختطف باسم أبو المجد، شهداء وجرحى ومعتقلو مظاهرات الحلّة، اعتقال مرشّحي انتخابات بلديّات 2008، استشهاد سامي فايز عرابي الإخواني، اعتقال أيمن نور، والقافلة طويلةٌ طويلةٌ طويلة..

برز مجدّدًا في كلّ ذلكَ، وخصوصًا بعد نجاحه في انتفاضة 6 إبريل، دورُ الاعلام الاجتماعيّ في مكافحة الظّلم وتثوير الجماهير، فكانَ (( الفايس بوك )) و (( اليوتيوب )) ساحَ الاحترابِ الأعنف ما بين رواية السّلطات الزّائفة ورواية النّاس الرّافضين للظّلم والاستبداد، وغدا المتحكّم بالشّارع والمحرّك له بكلّ دقّةٍ ونظام وتقنّيّة عالية، مجموعةٌ من الشّباب المصريّ الرّافض المؤمن الواعي، حتّى أنّ بعض من كان ينتقد (( نضال الانترنيت )) أو ((ثورة الكيبورد )) كتب معتذرًا ومتراجعًا عن آرائه أمام ثورةٍ حقيقيّةٍ تحرّكها شخصيّاتٌ رقميّة.

بل إنّ هاكرز السّلطات المصريّة تمكّن من السّيطرة على إحدى الصّفحات وعنوانها " كلّنا خالد سعيد "، وأنشأوا صفحةً تسيء لخالدٍ وتاريخه وتشوّه صورته...

ومن أبرز ما يلفت الانتباه أنّ مزيجًا من قلقٍ وحنقٍ وخشيةٍ وتململٍ ظهر على صفحات الفايس بوك نتيجة ابتعاد المشرف على صفحة الحملة المركزيّة عن متابعة أمورها قليلاً من الوقت، إذ ظنّ النّاس أنّ السّلطات المصريّة ألقت القبض عليها، فتهيّأوا وتحفّزوا لمواجهة أيّ خبرٍ حول هذا الموضوع.... لقد أصبح لجمهور الشّباب قائدٌ رقميٌّ يقلقونَ عليه في ظلّ غيابِ قيادةٍ يجمع عليها النّاس...

* الشّرطة: المتوفّى صاحب أسبقيّاتٍ ومطلوبٌ للعدالة.

الشّارع: صورةٌ لجواز سفره الصّادر عام 2009 يثبتُ أنّه غير مطلوبٍ لأي قضايا جنائيّة أو تهم.

* الشّرطة: المتوفّى متهرّبٌ من الخدمة العسكريّة ومطلوبٌ لذلك.

الشّارع: صورةٌ عن شهادةٍ رسميّةٍ لتأديته الخدمة العسكريّة، وصورةٌ عن الختم في جواز سفره بأنّه " غير مطلوب للتّجنيد".

* الشّرطة: خالد شاب عطايلي وهامل.

الشّارع: صورةٌ عن ترخيص شركته ومستندات مستحقّاتها من الضّرائب المسدّدة.

* الشّرطة: خالد أنهى خدمته العسكريّة وحصل على شهادةٍ بتقدير (( أخلاق رديئة ))، وقد حوكم عسكريّا وهو في الجيش بتهمة حيازة مادّة مخدّرة.

الشّارع: وهل ذلك، وإن صحّ أصلاً، يعتبرُ سببًا يشرّع قتله تعذيبًا حتّى الموت، وإن كان مجرم حرب حتّى؟؟!!!

* شاهد الشّرطة: كنت أعرف خالد كويس، آخر مرّة شفته فيها كان قبل أسبوعين.. المحقّق يسأل: كانت سنانه كلها موجودة.. الشّاهد يجيب: لأ ماكنوش كلّهم موجودين.

الشّارع: صورةٌ لخالد يبتسم فيها ابتسامةً عريضةً مع كامل أسنانه قبل الحادثة بوقتٍ قصير، ثمّ إنّ شاهد النّيابة حول الحادثة من أصحاب (( الأسبقيّات )).

* الشّرطة: الصّورة الّتي نشرت للمجني عليه وتظهره مشوّهًا التقطت مباشرةً بعد التّشريح، وكلّ ما ظهر فيها نتيجة التّشريح.

الشّارع باستعانة أطبّاء مختصّين: التّشريح الطّبيّ لا يؤدّي إلى تهشيم الأسنان وتشويه الوجه وإحداث عاهات في الفكّ، وتقطيع الشّفة، ولا يترك المتوفّى بهذه الحالة المزرية بعد التّشريح، بل يكرم ويغسّل.

* الشّرطة: المتظاهرون مشاغبونَ ومخرّبون وموجّهون لصالح جهات خارجيّة.

الشّارع: شهادات شفويّة ومكتوبة، تسجيلات، مقالات، صور، عن انضباط الشّارع وتحرّكه سلميّا مقابل قمع عناصر الأمن.

* الشّرطة: والدة خالد تؤكّدُ تعاطيه للمخدّرات منذ زمن طويل.

الشّارع: مقابلة مصوّرة مع أمّ خالد تتّهم فيها الشّرطة بتزوير أقوالها، وتنفي أنّ ابنها كان يتعاطى المخدّرات.

* الشّرطة تتلثعم: الكدمات والجروح ناتجة عن اصطدامه بباب سيّارة الإسعاف عند نقله... لا بل بسبب وقوعه أرضًا بشدّة أثناء ملاحقته.. لا بل قد صدمته سيّارة أثناء محاولته الهرب... لا بل إنّها كدمات ورضّات أصيب بها أثناء محاولة السّيطرة عليه...

الشّارع: وماذا عن إجماع روايات شهود العيان المسجّلة حول الضّرب والتّعذيب؟!!

* الطّبّ الشّرعي: خالد مات بسبب ابتلاعه لفافة بانجو أدّت إلى انسداد مجرى القصبة الهوائيّة.

الشّارع: هل عندما يبتلع الإنسان أمرًا بشكلٍ إراديّ، هل يستقرّ في القصبة الهوائيّة أم في البلعوم؟!! أليس ذلك يعني أنّه تمّ حشر تلك القطعة في فم خالد إثر نقله من موقع الجريمة في سيّارة الشّرطة مدّة عشر دقائق؟!!



وبسحرِ ساحرٍ وبسرعةٍ قياسيّة، تفجّرَ حبرُ الأقلام الحرّة المبدعة ثورةً في وجه الطّوارئ، احتلّت صورُ خالدٍ إبداعات المصمّمين، رنّمت الحناجرُ رفضها للاستبداد على وقع اللّحن المصريّ الشّبابيّ، ارتفع صوتُ التّراتيل، اجتاحت الكليباتُ والأفلامُ والتّقاريرُ المُصوّرةُ مساحات ((اليوتيوب))..

بفعل هؤلاء وإصرارهم ارتفع صوتُ خالدٍ ووصل بعيدً بعيدًا، فبعد محاولات الطّبطبة والطّمطمة والتّمتمة واللّعثمة والتّهميش الّتي باءت بالفشل، وأمام الضّغط الجماهيريّ الضّخم، تسرّبت (( علامةُ الاستفهامِ )) من الانترنيت إلى الصّحف المصريّة الرّسميّة مرغمةً، وإلى المعارضة منها صاخبةً، ثمّ إلى نشرات الأخبار وبرامج التّلفزيون المصريّة، فصحف العالم العربيّ وفضائيّاته الّتي اضطّرت أخيرًا إلى معالجة القضيّة تفصيليّا، لا خبرًا عابرًا مهمّشًا.. وطرق اسم خالدٍ آذان الغرب، فنشرت السّي. إن. إن والبي. بي. سي، وعدد من الصّحف الأجنبيّة حول قضيّته.

أصدرت منظّمة العفو الدّوليّة بيانًا مندّدًا، وكذلك هيومن رايتس ووتش، وطالبتا بفتح تحقيقٍ فوريّ حول الحادثة ومحاكمة المجرمين، ثمّ أطلّت واشنطن بمكرٍ واستحياءٍ في آنٍ معًا، وقالت بلغةٍ دبلوماسيّةٍ مؤنّبة: "نحن قلقون لما جرى في مصر مع المواطن خالد سعيد، ويجب فتح تحقيق"، ذلك أنّ إخوة الفتى يحملون جنسيّاتٍ أمريكيّة.

هنا استجابَ الابنُ المطيعُ صاغرًا، وفُتحَ تحقيقٌ لم تنشر نتائجه بعد، وأعيد تشريح الجثّة مرّةً ثانية، صدر بعدها تقريرٌ مطابقٌ لما جاءَ في تقرير الطّبّ الشّرعيّ المبدئيّ: خالد مات (( بالإسفكسيا ))، والكدمات في جسده نتيجة اصطدامٍ بأجسامٍ صلبةٍ، وهي بسيطةٌ وليست سببًا للوفاة!!!

وشاءَ القدرُ أن يخطئ كاتب التّقريرِ فورد في إحدى فقراته تعبير (( المجني عليه ))، وهو في لغة القانون، الإنسان الّذي يقع عليه فعلٌ جنائيّ، وبالتّالي فإنّ التّقرير يعترف بوجودٍ جناة ومجنٍ عليه!!!

ظنّت السّلطاتُ أنّ صدور تقرير التّشريح الثّاني سيسكت الجميع ويكبح الشّارع، فما كان إلاّ أن أشعل حربًا جديدةً ملأى بالتّساؤلات المشكّكة، واشتعل جدلٌ إعلاميٌّ بين كبير الأطبّاء الشّرعيين المصريين الحاليّ دكتور السّباعي، وكبير الأطباء الشّرعيين السّابق، دكتور أيمن فودة، إذ شكّك الأخيرُ بصحّة ما جاء في التّقرير، منتقدًا عمل اللّجنة المشرّحة، ومعبّرًا عن أسفه لوقوع مصلحة الطّب الشّرعي في مثل هذا الموقف المحرج، فردّ السّباعي عليه متّهمًا إيّاه بركوب موجة الرّأي العام، وتقديمه استشارات طبّيّة مدفوعة الأجر منافية للحقائق وبعيدة عن الموضوعيّة..



الأوّل: لخالدٍ خبرةٌ كبيرةٌ في مجال الحاسوب والانترنيت، خبرةٌ أوصلت صاحبَها إلى تسجيلٍ مصوّرٍ لضابط مباحثٍ ومجموعةٍ من المخبرينَ وأفراد شرطةٍ يتبعونَ لقسم (( سيدي جابر )) بالاسكندريّة، يوثّقُ لحظة تقاسمهم غنائمَ وأموالَ كسبوها إثرَ إفشالهم تجارة مخدّراتٍ ومصادرة البضاعة والأموال، يباركونَ في التّسجيل لأنفسهم فرحين.... إنّهم يتاجرونَ بالمخدّرات..

انتقل الكليب من خالدٍ إلى أصدقائه فالإنترنيت، ولم تتمكّن وزارة الدّاخليّة من معرفة مصدره، إلى أن أخبرهم عنه "حشيش"، وحشيش من أولاد حيّ خالد، لاعبُ كرة قدمٍ سابقٍ ومدمن مخدّراتٍ وسارق على قدّه، وقد غدا في الآونة أخيرًا مرشدًا للمباحث مقابل غضّ طرفهم عما يقترفه من مخالفات بسيطة، يقودهم إلى معاقل المتعاطين والسّارقين..

سرق حشيشٌ من خالدٍ مؤخّرًا ورقة مئة دولار، فقاطعه الأخيرُ محذّرًا أبناء الحيّ منه..

بعد عدّة أسابيع، طرق حشيشٌ باب خالدٍ معتذرًا، فاستقبله وسامحه، ثمّ أطلعه على التّسجيل الّذي بحوزته، فما كان من حشيش إلاّ أن أبلغ المخبرين بأمره..

ترصّدوا خالدًا.. أرادوا التّسجيلَ.. قتلوه انتقامًا لأنّه فضحهم...

الثّاني: دخلوا يفتّشونَ النّاس في مقهى (( سايبر ))، اعترض خالدٌ بشدّة، وأصرّ ألاّ يفتّشوه إلاّ في القسم وليس أمام النّاس، صرخ في وجوههم، فقتلوه لأنّه رفع رأسه ولم يجبن أو يخنع أمام سلوكيّاتهم.

الثّالث: اعتاد بعضُ المخبرين أن يأخذوا (( الأتاوات )) من شباب منطقة سيدي جابر، يقومون بالتّحرّش بهم، يخبرونهم بأنّهم مطلوبون، يطلبون إليهم مرافقتهم للقسم، فيضطّر الشّباب إلى عرض مبالغ من المال مقابل تركهم وشأنهم..

مثل ذلك حدث لخالد بعد أن جرّوه من المحل، ولما أبدى ممانعةً شديدة، اعتدوا عليه بالضّرب حتّى مات..


يسأل أحدهم: ترى لماذا تهتمّ إلى هذه الدّرجة بقضيّة مصريّة... أردّ: ترى كم خالدًا لدينا في دولنا ( المزارع ) العربيّة؟...

لن أنتظر الإجابة فأنا أعرفها جيّدًا...
ترى هل يمكنُ أن تكونَ خالدًا في بلدكَ وأنت المحكوم إمّا من طاغٍ فاسد أو محتلّ غاشم؟...
أنت تعرفُ الإجابةَ جيّدًا...

كتبتُ عن خالدٍ رمزًا ضياءً لغدٍ جميل، عن اسمٍ لمحطّةٍ مركزيّةٍ في درب إسقاط الدّكتاتوريّات، في ركب إلغاء الطّوارئ والتّعسّف والتّوريث والفساد..

كتبتُ من أجل مصر العروبة عزيزةً كريمةً سليمة..
كتبتُ لأقول: إنّ اليد الّتي تحاصر غزّة، تساهم في تجويع وتقتيل أهلها، تخنقها بحديد الأسوار، تكمّم أفواه الأحرار، تغلق عليهم أبواب السّجون، هي اليد نفسها الّتي قتلت خالدًا...

كتبتُ من أجل أصدقائي المصريين الّذين أحبّ، مناصرةً لأصوات الأحرار الرّافعي رؤوسهم عاليًا..
كتبتُ لتعرفوا الحقيقة.. لنعرفَ جميعًا الحقيقة..
لذلكَ كتبتُ عن خالد..

التعليقات