31/10/2010 - 11:02

اسرائيل تبحث أسباب فشل حربها ضد المقاومة!.. السؤال المغيّب والغائب...

-

اسرائيل تبحث أسباب فشل حربها ضد المقاومة!.. السؤال المغيّب والغائب...
في اليوم الـ 33، الأخير، للحرب الإسرائيلية على لبنان أطلق "حزب الله" (250) صاروخاً على بلدات الشمال الإسرائيلي، وجرى إطلاق بعضها من على بعد عشرات الأمتار عن نقطة الحدود الدولية جهة المطلـّة، بينما كان (30,000) جندي اسرائيلي يجتاحون و"ينظفون" الجنوب اللبناني حتى نهر الليطاني في عملية برية واسعة يواكبها قصف محموم ومكثف للطائرات طال ما بعد الليطاني وبيروت...
في الـ(48) ساعة الأخيرة للحرب، منذ عصر يوم الجمعة 11 آب الى عشية بدء تنفيذ قرار مجلس الأمن بوقف العمليات الحربية (عصر الأحد 13 آب)، وفي قمة كثافة القصف والإجتياح براً وجواً وبحراً وبحجم لا مثيل له في تاريخ حروب وعمليات اسرائيل ضد لبنان، يسقط ما يقارب الـ (50) جندي اسرائيلي قتيلاً، عدا الجرحى، وعدا قتلى وجرحى مدنيين، وبيوت وحقول محروقة بفعل سقوط صواريخ المقاومة على الجليل بشماله وشرقه وغربه.
مَنْ كان يصدّق أن هذا سيحدث حين أشعلت اسرائيل حربها في 12.07 إثر أسر الجنديّيْن الإسرائيليين؟ ولوّ تخيل قادة اسرائيل أن هذا ما سيحدث، هل كانوا سيعلنون الحرب أصلاً، حتى بدعم من بل وبقرار أمريكي وتفهم وتشجيع أوروبي ورضى عربي رسمي صامت؟ وكيف استطاع ألفا مقاتل لحزب الله أن يصمدوا ويكبدوا العدو كل هذه الخسائر، وأن يقاوموا، لمدة (33) يوماً، دولة عظمى بتجهيزاتها ومعداتها العسكرية؟
وكيف ولماذا يحدث هذا مع "جيش لا يُقهر" كان قد قهر ثلاث دول عربية في ستة أيام، بل في أول ست ساعات، ويزج بخيرة ما يملكه من معدات وفرق حربية (غولاني وأغوز) ضد بضع آلاف من مقاتلي المقاومة؟ جيش كان باستطاعته أن يلقي في ليلة واحدة (23) طن متفجرات على ضاحية في بيروت مدعياً القضاء على قيادة حزب الله وعلى محطة بثه التلفزيوني ومهدداً باجتياح بري رهيب، ليظهر في اليوم التالي حسن نصرالله على شاشة التلفاز لا ليعلن الإستسلام بل ليسخر من جهل وخرف قيادة اسرائيل، متحدياً إياها أن تدخل براً.
لقد اعترفت اسرائيل بالخسائر التالية حتى الآن (نقول حتى الآن لأن اعترافاتها في هذه الحرب مثل عملياتها العسكرية – متدرجة ومتدحرجة):
(156) قتيلاً بينهم (39) مدنياً و (117) جندياً. و (5000) جريح ومصاب (لا ذكر لعدد الجنود بينهم) منهم (311) ما زالوا في المستشفيات لأن إصاباتهم صعبة وخطيرة. ونشرت الصحف العبرية (يديعوت أحرونوت وغيرها – 15.8.06) أن عدد المصابين من المدنيين جراء قصف الصواريخ للبلدات الإسرائيلية بلغ (4000) جريحاً بينهم (70) إصاباتهم خطيرة. (هل يعني هذا – أنظروا الأرقام السابقة – أن عدد الحرجى بين الجنود بلغ (1000) جريحاً بينهم (241) إصاباتهم صعبة؟! لا ندري...).
وتقول الأرقام الإسرائيلية الرسمية أن عدد البيوت والمباني الإسرائيلية التي تضررت بلغ (12,000) بيتاً، منها (100) مصنع وعشرات الأبنية العامة. أما على صعيد الطبيعة والزراعة فلقد احترق (200) ألف دونم غابات وأحراش وبساتين وحقول، كان منها (750,000) شجرة. وتحتاج هذه الغابات والأحراش الى (60) سنة حتى تعود الى ما كانت عليه قبل الحرب. هذا عدا "حرق" موسم السياحة والزراعة – الفواكه والخضار.
وبناءً عليه بلغت تكاليف هذه الحرب (25) مليار شيكل (الدولار يساوي 4,5 شيكل) منها (10) مليار شيكل مصاريف عسكرية مباشرة. وهذا الرقم – (25 مليار) - يعني (10%) من الميزانية السنوية للدولة و (50%) من ميزانية وزارة الأمن.
وطبعاً لا أحد يعلن، في ظل التعتيم الأمني وطاعة الصحف الإسرائيلية التي تجيّشت في هذه الحرب أكثر من الجيش، أمكنة ومدى خسائر إصابات المواقع الإستراتيجية (معسكرات، مطارت عسكرية، موانئ... الخ، الخ).
هل كل هذه الخسائر مبررة على ضوء النتيجة و "المكاسب" التي أفضت اليها حرب الـ(33) يوماً، كما انعكست في قرار مجلس الأمن 1701؟

* إنتصار الإذا ... *
هنالك جهد محموم ومفهوم، إذ أن الأمر يخص مستقبلهم وبقائهم السياسي، من قبل رئيس الحكومة أولمرت ووزير الأمن بيرتس ووزيرة الخارجية ليفنات لتصوير قرار (1701) نصراً لاسرائيل وإنجازاً سياسياً لانتصارها العسكري. لكن كلمات تصريحاتهم وحركة أجسادهم وأشكال تعبيرهم تقنع الناس، الذين يُراد إقناعهم، أن من يحاول إقناعهم بالنصر هو نفسه غير مقتنع!
حجم الخسائر البشرية والمادية العينية والمالية فاق كل توقع وحتى أسوأ أسوأ التقديرات. ويحدث هذا في مواجهة مع مقاتلي مقاومة امتدت هي الأخرى (33) يوماً، أي الى "ما بعد"... و "ما بعد بعد" كل التقديرات. ثم لم يتم لا القضاء على حزب الله وعلى قيادته ولا تصفية سلاحه وتحصيناته العسكرية ولا تجريده من السلاح ولا طرده الى ما بعد الليطاني والقضاء على خطر قصفه لشمال اسرائيل ولا طبعاً (أما زلتم تذكرون؟) تحرير الأسيرَيْن الإسرائيليّيْن.
وها هم كبار غالبية المعلقين والكتاب السياسيين والعسكريين في كبريات الصحف الإسرائيلية، ولا أقصد فقط سياسيي اليمين المتطرف أو اليسار الصهيوني، يُجمعون كلهم تقريباً على تسمية قرار (1701) بقرار "الإذات" (جمع إذا). فالقرار جيد برأيهم ويشكل إنجازاً لإسرائيل (وقلة تقول نصراً) إذا... ما جرى حقاً تجريد حزب الله من سلاحه. وإذا... ما جرت حقاً مواجهة عودته للجنوب من قبل الجيش اللبناني وقوات الأمم المتحدة. وإذا... ما تمّ حقاً الحظر على تزويده بالأسحلة. وإذا ... ما تمّ إطلاق سراح الأسيرَيْن. وإذا... وإذا... وإذا... الخ.
لقد كان تسفي بريئيل صادقاً ومعبّراً عن مشاعر الناس في إسرائيل حين كتب في صحيفة "هآرتس" (14/8): أن قرار مجلس الأمن "اشبه بشك مؤجل بدون تاريخ لصرفه". أما نحن فنضيف وبدون رصيد ايضاً. لأنه ليس بإمكان أحد أن يضمن هذه "الإذات" وخصوصاً أن إسرائيل لم تنجح، بتدميرها الوحشي للبنان وتهجيرها وقتلها للمدنيين، بتأليب المجتمع اللبناني على المقاومة بل تعززت الوحدة الوطنية. وهذا فشل آخر لأحد الأهداف "المخفيّة" للحرب.
ويشعر اللبنانيون ومعهم العرب من المحيط الى الخليج وحتى أوساط عالمية وأوروبية، أن حزب الله خرج منتصراً من الحرب أو على الأقل لم يتحطم، وبناءً عليه لا بد من أخذه بعين الإعتبار والتفاوض معه بشأن تنفيذ أي قرار. لقد أصبح شريكاً ولاعباً أساسياً في تنفيذ قرار مجلس الأمن وعلى الجميع أخذ شروطه بالحسبان، في أية تسوية مع لبنان وداخل لبنان. لقد نجح حسن نصرالله بالإستهزاء بإسرائيل ومرمغة أنفها وعنفها بالتراب كما لم ينجح قبله ومثله أي زعيم عربي، فأصبح هو زعيم وحبيب الشعوب العربية من المحيط الى الخليج. هل من أجل هذه النتيجة أشعلت اسرائيل حربها؟
لذلك يزداد التساؤل حدة: ماذا حققت اسرائيل من وراء هذه الحرب، وهل بعض مكاسبها توازي حجم خسائرها؟ وبكلمات أخرى عامية: شو جابت من بيت أبوها؟!
ثم إذا لم يكفِ شهر كامل من الحرب "لتطهير" شريط حدودي من ستة كيلومترات من عناصر حزب الله، لماذا إذاً يأمر أولمرت – بحق الشيطان – (30,000) جندياً بالوصول الى الليطاني آخر ثلاثة ايام للحرب، في أوسع وأعنف هجمة برية، دون أي هدف لتأثير سياسي (إذ كان قد تمّ الإتفاق على صيغة اقتراح القرار الموضوع على طاولة مجلس الأمن)؟ هل هذا مجرد استعراض عضلات أو بحث محموم عن "صورة نصر" – إمتد البحث عنها وإنتظار القيادة السياسية لها (30) يوماً؟ وبأي صورة عاد هؤلاء، من الحملة البرية الواسعة، غير صورة انسحابهم الجماعي رجوعاً الى حزام أمني على الحدود، دون أن يصلوا الليطاني، وهم يرتجفون فزعاً، لأن قرى الجنوب ما زالت مليئة بتحصينات ومقاتلي حزب الله؟ علماً أن الجيش كان قد "حرّر" و "نظـّف" المنطقة أكثر من مرة على مدى شهر. وكيف ستبرر القيادة الإسرائيلية الخسائر الفادحة للجنود وفي المعدات (مجزرة دبابات المركافاه)، في هذا الجري المحموم والمسعور نحو الليطاني، دون تحقيق أي هدف تكتيكي عداك عن الإستراتيجي أو السياسي لهذه الهجمة البرية الواسعة؟

* هزيمة "الإنتصار"... *
منذ نهاية الأسبوع الثالث للحرب بدأنا نلاحظ نغمة جديدة في فحوى وتساؤلات بعض كتبة المقالات في الصحف الإسرائيلية من معلقين وباحثين سياسيين وعسكريين، وإن كانت يومها بعد خجولة وتنقصها الشجاعة في الخروج عن مألوف الإجماع القومي و "الحرب المبرّرة" وعسكرة الإعلام. لكن رويداً رويداً بدأت تعلو وتبرز أصوات وتساؤلات التشكيك بنجاح الحرب في تحقيق أهدافها وصولاً الى حد الحكم بأنها حرب فاشلة. وهكذا بدأت الصحافة عملياً تعد الأجواء، وربما دون قصد منها، لضرورة إقامة لجنة تحقيق لفحص أسباب الخطأ والفشل.
يكتب يوسي فيرتر في "هآرتس" بتاريخ 8/4: "في اليوم الذي تتوقف فيه المعارك في الشمال سوف يجري إطلاق النار في الجبهة الداخلية، أي سيحين عندها دور نيران قواتنا ضد قواتنا. ما زالت المعركة الحقيقية أمامنا. وما جرى في الشمال كان مجرد المقدمة والتمهيد لما سيحدث عندنا". ثم يورد فيرتر قولاً على لسان وزير البنى التحتية فؤاد بن اليعيزر، جاء فيه: "سيكون الأمر فظيعاً إذا ما انتهت الحرب بالفشل. سيذبحون رئيس الحكومة ووزير الدفاع وقائد الأركان".
وكتب عاموس عوز وآفي سخاروف (هآرتس 8/1): "بدأنا نلاحظ اتساع الإنتقادات في الجيش حول سير العمليات، وهي انتقادات لا تتمحور في المستوى السياسي فقط وإنما تطال ايضاً قيادة الأركان... ثمّة ضباط يزعمون أن التحقيق في الحرب سيحدث زلزالاً في الجيش الإسرائيلي". أما أمير أورن فكان أكثر صراحة، في الصحيفة نفسها في اليوم نفسه، حين كتب: "من المشكوك فيه العثور على مسؤول اسرائيلي واحد سيخرج بدون ندوب وجروح ومعاناة شديدة من جراء نزيف سمعته".
وكان يوناتان غيفين قد كتب منذ اليوم الـ 21 للحرب في صحيفة "معريف": "لقد خسرنا الحرب. نحن في اليوم الـ21 بينما يظهر وكأن الحرب ما زالت في يومها الأول... أولمرت يخطب بأننا دمّرنا البنية التحتية لحزب الله لكننا لا نستطيع سماعه بسبب أصوات أمطار الصواريخ الساقطة على الجليل. لقد تراجع حال الطقس وسعر الدولار وأنا أيضاً...".
أما ميرون بينيبشتي فيكتب (هآرتس 8/10): "ستنتهي الحرب بخلافات عميقة وباتساع الهوّة الإجتماعية. لو أن الذين اتخذوا قرار إعلان الحرب واعين لتأثير هذه الحرب على إسرائيل والمنطقة... كانوا سيفكرون مرتين قبل اتخاذ قرار بقلب حادثة حدودية الى معركة طالت ملايين البشر". ويحذّر آري شفيط (هآرتس 8/10) من ثقافة الكذب التي رافقت الحرب منذ يومها الأول، إن كان بالحديث عن أخطار وجودية لاسرائيل أو عن أهداف عبثية لها. ويضيف، في إشارة واضحة الى كل من أولمرت وبيرتس، "الحرب ليست صفقة عقارات في القدس، وهي ليست معركة انتخابية. إنها تستدعي لقاءً حقيقياً مع التاريخ... هذه الحرب معزولة عن الواقع، وبصفتها هذه لا يمكن أن تؤدي الى انتصار".
وكان أولمرت قد تقمّص في الأسابيع الأولى للحرب، هو الذي لا يفقه بالعسكرة والحروب، شخص تشيرتشيل وسمح لنفسه أن ينفلت في تصريحات حربجية عن "سحق" و "محو" المقاومة، وبأنه سينفّذ قرار (1559). ووصل الأمر به، بتاريخ 8/1 في احتفال تخرج في كلية الأمن، الى إلقاء "خطاب الإنتصار" مدّعياً: "حققنا انجازات غير مسبوقة غيّرت وجه الشرق الأوسط"، وأنه يجري "بناء شرق أوسط جديد". وأضاف أنه قضى على ثلثي البنية العسكرية لحزب الله بما فيها مقدرته على إطلاق الصواريخ.
وكان رد حزب الله في اليوم التالي إطلاق أكثر من (300) صاروخ على شمال اسرائيل، مع أن المعدل في السابق كان مائة صاروخ في اليوم. وسرّبت الصحف في حينه أقوالاً، على لسان ضباط جيش ومسؤولين آخرين ودون ذكر أسمائهم، بأن أولمرت ربما "لا يرى الحرب التي نراها" وأن "القصة أكثر تعقيداً مما يتم عرضها في خطابات احتفالية". وأن "كلامه لا يمت للواقع بصلة" وأن هناك "فجوة عميقة" بين ما يحدث على أرض الواقع وبين ما ينطق أولمرت به وأنه "يسوّق الفشل نجاحاً".
ووصل الأمر بناحوم برنيع الى أن يكتب في "يديعوت أحرونوت" أن أولمرت "يضل الطريق وهو يطارد انتصاراً غير موجود". ويضيف الحقيقة هي أن "حفنة من مقاتلي حزب الله تنجح في تدويخ اسرائيل". ويكتب في مقال آخر، بتاريخ 8/9، أنه مع تزايد تساقط الصواريخ على إسرائيل وكذلك سقوط الضحايا والجرحى من جنود ومدنيين، وإزاء استمرار إدعاء القادة بالنصر وبسحق قوة حزب الله... فإن هؤلاء القادة "يحتاجون الى علاج"!
أكتفي بهذا القدر من الإستشهادات أعلاه، مع أن الجعبة ما زالت مليئة بأمثالها، لأقول أن توجيه الإنتقادات لسير الحرب ولقادتها وطرح السؤال: "ماذا حدث حقاً؟ لماذا لم تنتصر اسرائيل، ولماذا تكبدت كل هذه الخسائر، ومَنْ المسؤول سياسياً وعسكرياً عن هذا الفشل؟" أصبح قضية مطروحة على بساط بحث الناس ووسائل الإعلام والسياسيين والعسكريين... وأخذت تظهر، وإن كان بحذر في البدء، مطالب إقامة لجان فحص أو لجنة تحقيق رسمية "بعد عودة أبنائنا من الجبهة"...
وحتى القيادة السياسية، وأولاً وزيرة الخارجية ليفني، كانت قد بدأت تبحث عن مخرج سياسي لأزمة حرب تراوح مكانها دون أن تحقق إنجازات تبرر ثمنها. وسربت الصحف أن أولمرت عملياً يرجو ويتوسل واشنطن أن تنزله عن الشجرة التي "تعمشق" عليها، وبطلب وبدفع منها... وأن واشنطن قد اقتنعت أن إسرائيل عاجزة عن توفير البضاعة التي طلبتها من تل أبيب في إطار حربها الكونية ضد "الإرهاب ومحور الشر" ومن أجل "شرق أوسط جديد"...

* هل تقوم لجنة تحقيق،
وما هي مهماتها؟ *
كل الأسئلة التي أوردناها أعلاه حتى الآن، منذ بدء هذا المقال، تستدعي إقامة لجنة تحقيق (عودوا لقراءة الأسئلة فقط). وهي أسئلة تخص المحاور الأساسية التي لا تستطيع أية لجنة تحقيق الهروب منها. وهذه المحاور هي اتخاذ قرار الحرب وتحديد سقف أهدافها الأبعد ما يكون عن التحقيق، بدلاً من رد عسكري محدود على عملية الأسر. عدم الإعداد الجيد لحرب لا على صعيد الجيش ولا على صعيد الجبهة الخلفية. النقص المخابراتي ومن ثم التقييمي في معرفة المعدات والقوة العسكرية لحزب الله ومقدرة وشجاعة المقاومة في الصمود والتصدي، ومن ثم قدراتها على ضرب العمق الإسرائيلي بهذه الكثافة ولهذه المدة. فشل الحرب الإسرائيلية في تحقيق إنجازات بارزة عداك عن النصر، مقابل دفع اسرائيل ثمناً باهظاً في الخسائر البشرية والإقتصادية وشل حياة ثلث السكان تقريباً – إما في الملاجئ أو بسبب نزوحهم هرباً الى الجنوب.
طبعاً تشمل هذه المحاور الرئيسية أعلاه مائة قضية وقضية تفصيلية أخرى تخص قرارات وتصرفات القيادة السياسية والعسكرية وسير العمليات العسكرية، والتخبط بين الإعتماد على حسم الطيران للحرب وبين ضرورة عملية الإجتياح البري، التأخر في استدعاء فرق جنود الإحتياط وعدم إعدادهم المناسب للحرب والنقص حتى في اللوغيستيكا – الإمدادات - وحتى توفير وجبات الطعام لهم، معاناة المواطنين في الجبهة الخلفية دون جهوزية الملاجئ ودون مدّهم وعائلاتهم بإمكانيات أولية لحياة معقولة وممكنة في زمن الحرب، صدمات الحرب – ومنها ما اتخذ اسم "عارض مارون الراس" أو عارض بنت جبيل وعارض عيتا الشعب... وعارض الأنفاق والكمائن وعارض الصواريخ ضد دبابة المركافاة، مظاهر الإسترخاء والإهمال وغطرسة القوة والإستخفاف بالعدو لدى الجيش – قيادة وجنوداً، كيفية إدارة الحرب وتحديد الأهداف وأداء الجيش وسلامة الإستراتيجيا والتكتيك هنا، الهوّة بين التوقعات والنتائج – سياسياً وعسكرياً. الخ.. الخ.
هذه المحاور والقضايا أعلاه، بل وأقل منها بكثير، مدعاة لإقامة لجنة تحقيق وللإطاحة برؤوس سياسية وعسكرية بل ولتغيير جوهري – أساسي في الرؤية السياسية والنظرية العسكرية لدولة سوية. لكن في إسرائيل، وكما يظهر حتى الآن، سيحاول البعض شدّ التحقيق أو الفحص نحو حرب السياسيين مع العسكريين والعكس، أو الحرب الداخلية لكل منهم – حرب وزراء وأحزاب، وحرب جنرالات. ولا ينقص لا أولمرت ولا بيرتس ولا قائد الأركان دان حالوتس خصوم وحتى أعداء داخليون (داخل أحزابهم وداخل قيادة الأركان) يتحيّنون الفرص للإطاحة بالرؤوس لصالح زعامتهم المستقبلية. ولا ينقص زعيم الليكود، بيبي نتنياهو، شغف العودة الى السلطة بصفته "منقذاً قومياً" في مواجهة قيادة فشلت في "سحق العدو".
ثم لا ينقص الديمقراطية الإسرائيلية مخارج لتجنب تشكيل لجنة تحقيق رسمية. ونقصد إقامة لجان فحص تكون قراراتها غير ملزمة وغير نافذة من ناحية الإطاحة بالمسؤولين – لجنة فحص برلمانية، أو فحص يجريه مراقب الدولة، أو هذا الوزير أو ذاك (بيرتس أعلن أنه أقام لجنة فحص).
هذا مع أننا نميل الى الإعتقاد أن فشل إسرائيل في هذه الحرب ونجاح لواء ونصف من المقاومين بشل حياة نصف دولة، ونقمة الشارع على الخسائر الفادحة دون تحقيق مكاسب واضحة، وتوقع تزايد هذه النقمة مع عودة الجنود من لبنان والتخلص كلياً من عقدة "اسكتوا. الجنود يحاربون"...، قد يضطر الحكومة الى اتخاذ قرار بإقامة لجنة تحقيق رسمية وتوكيل رئيس محكمة العدل العليا بتشكيلها. ولجنة كهذه هي وحدها المخولة برؤية كل الملفات وتكون قراراتها ملزمة.

* هزّة أرضية سياسية ... *
الأجواء العامة في البلاد، ورغم الفوارق، تُذكر بتلك التي قادت قبل (33) عاماً الى إقامة لجنة التحقيق الرسمية برئاسة القاضي غرانات على أثر حرب أكتوبر سنة 1973. وليس صدفة أن يعطي المعلق السياسي لصحيفة "هآرتس"، بتاريخ 8/1، هذا العنوان لمقاله: "مِحْدال – تقصير، إهمال – 2006". فكلمة "مِحْدال" كانت الكلمة السائدة يومها، وهي السائدة اليوم. إذ يومها أيضاً أثيرت قضايا مدى الجهوزية للحرب وعدم معرفة المقدرة العسكرية للعدو، والنقص في المعلومات المخابراتية، وأجواء الإهمال والغطرسة التي تحكمت بنهج الجيش الإسرائيلي... الخ.
يومها جرى، وبناء على توصيات وقرارات لجنة التحقيق، اتخاذ عدة إجراءات تخص إقامة أطر وأجسام ومكاتب وزارية ومخابراتية وعسكرية أصبحت جزءً لا يتجزأ من مبنى الدولة بحكومتها ومخابراتها وقيادة جيشها. ويومها جرت الإطاحة برئيس المخابرات العسكرية الياهو زعيرا وبرئيس الأركان ديفيد اليعيزر ، عدا توجيه ملاحظات انتقادية لقادة عسكريين ولرؤساء جبهات قتالية (جبهة الجنوب)... لكن اللجنة لم توجه نقداً لا لوزير الحربية في حينه، موشي ديان، ولا لرئيسة الحكومة غولدا مئير، بل أشادت اللجنة بها. لكن رغم هذا قررت غولدا الإستقالة والإعتكاف في بيتها. وعندما شكل اسحاق رابين حكومته في الثالث من حزيران 1974 استثنى ديان منها...
من المبكر أن يقرر أحد ماذا ستكون نتائج التحقيق (أو الفحص) لتقصير وإهمال سنة 2006. مع أن البعض أخذ يتحدث عن "انتخابات قريبة" وعن هسترة الثلاثي أولمرت – بيرتس – ليفني في معركتهم للبقاء. وهنالك من أسرع بتقديم النصيحة لأولمرت بالعودة الى بلدية القدس ولبيرتس بالعودة الى الهستدروت... إذ يشغلان اليوم مركزَيْن ويحملان ثقلَيْن أكبر وأعرض من مقدرتيهما وكتفيهما. أما قائد الأركان دان حالوتس فهنالك مَنْ يسمّيه اليوم دان لحوتس (حالوتس تعني الطلائعي أما لحوتس فتعني المضغوط).
لا علينا. نحن نعرف أنه في ظل غياب النصر ضد العرب يتقاتل اليهود، وأنه بانتهاء الحرب الخارجية تشتعل الجبهة الداخلية ويبدأ الإسرائيلي بالتساؤل: لماذا حاربنا وقـُتلنا إذاً؟ وخصوصاً أن الذين يحاولون إقناعه اليوم بأنه انتصر يعدونه بمواجهة جديدة مع حزب الله في زمن قد لا يتأخر مجيئه... إذاً أي انتصار كان هذا؟
ونحن نعرف، وهذا ما يؤكده العديد من المعلقين في وسائل الإعلام، أنه مع هدوء عاصفة الحرب أكثر فأكثر ستجري محاسبة نفس داخل العسكر وداخل الساسة، وضد بعضهما. لقد وقع شق عميق في الإجماع القومي الجماهيري الذي كان قد رافق الحرب لمدة شهر تقريباً. وكان هنالك في ظل جنون القوة والرغبة بالثأر واستلال نصر – أي نصر، مَنْ اقترح إطلاق حمم النيران وتسوية بيوت الجنوب بالأرض وتحويلها، على مَنْ فيها، الى أكوام تراب ورمال. وهنالك من اقترح سلق أجساد رجال حزب الله في قدر ماء تغلي.
لكن المقاومة اللبنانية نجحت بنقل الحرب الى العمق الإسرائيلي وبشكل لم يحدث مثيله في أي حرب سابقة لاسرائيل ضد العرب – (وهذا يثير اليوم الهسترة الإسرائيلية لأن جبهتهم الداخلية غير حصينة، وانتهى عهد نقل ساحات القتال الى أرض العرب فقط). وكما يظهر نجحت المقاومة ايضاً بإرجاع قدر الماء المغلي إلى قيادة إسرائيل السياسية والعسكرية....
هنالك فقاقيع أخذت تظهر على السطح من المتوقع أن تصل درجة الغليان فالإنفجار فإحداث هزة أرضية سياسية ينصلي فيها بعض السياسيين والعسكريين. والأسئلة كثيرة.
لكن ما لا نتوقعه، بل نستبعده، هو أن تسأل لجنة التحقيق الرسمية أو لجان الفحص السؤال التالي: متى تعي هذه الدولة أن للقوة العسكرية حدود وأنه ليس بمقدور حق القوة أن يهزم قوة الحق؟ متى تعي أنه حتى النصر العسكري قد يكون، ما دام صاحب الحق لا يستسلم، شراً من هزيمة؟ متى تعي أن أساس "المِحْدال" هو في السياسة الصهيونية الحكومية، وأنه آن الأوان للتخلي عن هذه السياسة وإعطاء كل ذي حق حقه – "سلام الشعوب بحق الشعوب" كما إعتاد على القول الكاتب المرحوم إميل حبيبي؟
لا أمل في أن تسأل لجنة التحقيق هذا السؤال...

التعليقات