"للانتصار على هتلر"../ عرض د.محمود محارب

-

لعل أهمية الكتاب "للانتصار على هتلر" تعود إلى عاملين أساسيين لمؤلفه ولمضمونه الذي يعج بالنقد اللاذع والعميق والمنهجي لإسرائيل ومجتمعها اليهودي وقيمه وأفكاره العنصرية.

فمؤلف الكتاب هو أبراهام بورغ الذي شغل مناصب هامة للغاية في إسرائيل وفي الحركة الصهيونية، إذ رأس إدارة المنظمة الصهيونية العالمية، ورأس كذلك الكنيست الإسرائيلي، ونافس أيضا على رئاسة حزب العمل الإسرائيلي، وكاد ينتخب رئيسا له، قبل أن يترك النشاط السياسي.

هو كذلك ابن يوسف بورغ الذي كان وزيرا لمدة 19 عاما في الحكومات الإسرائيلية، وكان من أبرز وأهم قادة الحزب الديني القومي "المفدال".

ولعل كونه يحمل جميع هذه الصفات جعله يتجرأ على أن يخرج عن الإجماع اليهودي والصهيوني الإسرائيلي بصورة غير مألوفة من شخص نشأ وترعرع في قلب القيادة اليهودية والصهيونية.

ومع ذلك لم تشفع لأبراهام بورغ مكانته وتدينه، بل سرعان ما وجد نفسه خارج الإجماع اليهودي والصهيوني ملفوظا خارج حدود "القبيلة" التي تجرأ على أن ينتقد قيمها العنصرية.

يتألف الكتاب من مقدمة و11 فصلا، يجمع المؤلف في مختلف فصول الكتاب بين روايته لتجربته وسيرته الذاتية وسيرة آبائه وأجداده، خاصة سيرة والده، وبين التحليل الفكري والسياسي الذي يحتل غالبية الكتاب.

يسعى أبراهام بورغ في فصول الكتاب للغوص في تحليل الروح اليهودية، تلك الروح التي يريدها أن تكون دوما إنسانية ومنفتحة ومرتبطة بقيم العصر، وتنادي بعالم أفضل وأكثر عدالة، لا روحا يهودية استعلائية منغلقة وعنصرية ومتحالفة مع قوى الشر في العالم.

وكابن لأب هاجر من ألمانيا النازية في عام 1939 إلى فلسطين، تسيطر على ذهنية المؤلف طيلة الكتاب الكارثة التي حلت باليهود، فينتقد بشدة الرواية الصهيونية للكارثة اليهودية، خاصة سعيها دوما لاحتكار مكانة الضحية الوحيدة والمتميزة، ورفضها قبول مقارنتها بالكوارث التي حلت بالشعوب الأخرى.

ويرفض بشدة السعي الصهيوني الدائم إلى استعمال الكارثة "التي باتت موجودة في حياتنا أكثر من وجود الخالق" للتغطية على سياسيات إسرائيل وجرائمها بحق الفلسطينيين والعرب.

ويوجه نقدا لاذعا للقيادة الصهيونية التي اتخذت قرارا بعد أن "تبين لها أن هتلر أباد معظم يهود أوروبا، وأن منابع الهجرة اليهودية الأوروبية قد نضبت، باقتلاع يهود العالم العربي والإسلامي وتهجيرهم إلى فلسطين "كقطع غيار" ليهود أوروبا الذين أبادهم هتلر، فتسببت بخلق كارثة جديدة ليهود الشرق.

يقوم المؤلف في الكتاب بتحليل وتشريح وتوجيه نقد لاذع للأفكار العنصرية المنتشرة في صفوف اليهود ويحاول أن يحلل أرضيتها الفكرية والسياسية.ينتقد أبراهام بورغ بشدة الفكر الديني اليهودي المتطرف والمسيطر على فئات واسعة من المجتمع الإسرائيلي، خاصة في أوساط حاخامات المستوطنين وفي صفوف اليهود "الحرديم"، ويتهم طلائع وقادة هذا الفكر أنهم طوروا وبلوروا نظرية العرق اليهودي الحديثة.

في هذا السياق، يعطي بورغ الكثير من الأمثلة على عنصرية فكر هؤلاء الذين طوروا هذه النظرية، فالحاخام يتسحاق غينزبورغ أكثر الحاخامات تأثيرا على الراديكالية الدينية العنصرية في إسرائيل يتبنى أفكارا عنصرية علانية ويدعو إلى التمييز بين دم اليهودي ودم غير اليهودي.

ويعتقد هذا الحاخام أن اليهودي يتفوق على غير اليهودي لكونه يحمل الجينات اليهودية والدم اليهودي، وأن العربي مهما اجتهد وطور من ذاته، حتى وإن أصبح بروفيسورا، فسيبقى أقل درجة من اليهودي أيا كان اليهودي.

وليس هذا وحسب، فالحاخام يتسحاق غينزيورغ يدعو إلى تطهير الشعب اليهودي من "الشوائب والزبالة البشرية" التي أصابته جراء الاختلاط مع غير اليهود ليؤسس ويقيم من جديد الحاجز بين اليهودي وغير اليهودي.

وبعد تطهير الشعب اليهودي من هذه الشوائب بالإمكان تركيز كل الجهود ضد الآخر لتوسيع الحدود واستكمال الطريق للوصول إلى "حدود الأمان" في الدولة المقدسة.

والوسيلة لتحقيق ذلك هي الحرب التي "لا متعة تضاهيها"، فلا يمكن تحقيق الأهداف وطرد العرب وفق غينزبورغ دون أن نعرف كيف نكون سيئين.. وممنوع أن نسلك الطرق السلمية وإنما علينا أن نبعد كل ما هو غير يهودي من حدودنا".

يؤكد أبراهام بورغ أن الحاخام غينزبورغ لا يمثل ظاهرة منفردة، لأن أمثاله كثيرون, ويعطي العديد من الأمثلة لحاخامات يتبنون الفكر العنصري، وأبرزهم الحاخام عوفاديا يوسف زعيم حزب "شاس" الذي يوصف بأنه "كبير حاخامات العصر"، الذي اعتاد أن يطل على أنصاره بين الفينة والأخرى بأفكار عنصرية ضد العرب.

ولكن "العنصرية اليهودية" كما يقول بورغ لم تقتصر على العرب بل تعدتهم إلى السود في أميركا. ففي سياق تعليق الحاخام عوفاديا يوسف على إعصار نيو أورلينز ذكر أن هناك "يوجد الزنوج، وهل يتعلم ويلتزم الزنوج بالتوراة؟ الرب جاء بالإعصار وأغرقهم. مات عشرات الآلاف وأصبح مئات الآلاف دون مأوى، لأنه لا يوجد لهم رب". ولا يقدم "كبير حاخامات العصر" لا تعزية ولا رحمة ولا يحزن بل يتشفى.

كما يؤكد المؤلف أن جذور التمييز بين ما هو يهودي وغير يهودي موجود في التراث والتقاليد والتثقيف والصلوات اليهودية.

فاليهودي في صلاة الفجر يستهل يومه بشكر الخالق لأنه "لم يخلقه غوي" أي لم يخلقه غير يهودي. وعبر الأجيال يستند التثقيف اليهودي على أن اليهود هم "الشعب المختار"، يصلي قائلا: "أنت اخترتنا من كل الشعوب وأحببتنا وأردتنا ورفعتنا فوق كل الشعوب".

وفي كل سبت يقدس اليهودي في صلاته السبت ويقول "لأنك اخترتنا نحن وقدستنا نحن من بين كل الشعوب". ويغرس هذا الفكر عند انتهاء السبت بالقول "تبارك.. الذي يميز بين المقدس وغير المقدس بين النور والظلمة وبين إسرائيل والشعوب".

يستخلص أبراهام بورغ أن التمييز العنصري والاستعلاء مغروس بنيويا في النفس اليهودية, ويحذر من خطر استمرار انتشار هذه الأفكار العنصرية على مستقبل إسرائيل واليهود، لأنها تنزع إنسانية البشر وتحولهم إلى مخلوقات من الحيوانات يجب التخلص منها.

ومن ضمن الأمثلة التي يذكرها قول رئيس الأركان الإسرائيلي الأسبق رفائيل ايتان، الذي شبه الفلسطينيين "بالصراصير المسممة داخل قنينة"، ويقول إن هذا التشبيه يذكره بالدعاية النازية التي دأبت على تشبيه اليهود بالفئران التي تجب إبادتها.

يعتقد أبراهام بورغ أن خطر انتشار النازية في إسرائيل وارد، فهي ليست محصنة ضد النازية. صحيح أن إسرائيل ليست ألمانيا كما كانت حالتها في المراحل الأخيرة من الحرب العالمية الثانية، عند تنفيذ "الحل النهائي" بحق اليهود، ولكن إسرائيل كما يؤكد المؤلف تشبه ألمانيا في المراحل الأولى لانهيار قيمها الإنسانية والحضارية عندما بدأت تستسلم للنازية التي حطمت كل شيء جميل في ألمانيا.

وإسرائيل تتغير وتسير نحو الأسوأ في كل يوم، وباتت تحت خطر وقوعها واستسلامها للنازية. فاليهودية السائدة اليوم في إسرائيل ليست يهودية النبي موسى المتسامحة والمتفتحة والمحترمة لإنسانية الإنسان، إنما هي كما يؤكد الكاتب يهودية قورح الذي اختلف مع النبي موسى وتمرد عليه.

كانت نقطة انطلاق قورح أن هناك قدسية تلقائية لجميع اليهود، كأفراد وكمجموع، وقدسية اليهودي نابعة من دمه ومن جيناته، وهذا يعني أن جميع اليهود مقدسون دون استثناء، ويشمل ذلك المنحطين والسافلين والسيئين من اليهود.

ويضيف بورغ أن القدسية وفق أتباع قورح هي قدسية العرق اليهودي، وأتباع قورح وفق بورغ يسيطرون، في هذه الأيام، دون حدود، في تحديد وبلورة مكونات الهوية اليهودية والإسرائيلية.

إن إسرائيل باتت وفق المؤلف دولة حاخامات قورح الحديثة، إنها قبل كل شيء دولة يهودية، وفقط بعد ذلك ديمقراطية، إنها دولة توراة يهودية مشوهة. فأسس هذه الدولة هي الاستعلاء القومي وازدراء الآخر، وإيمان بنظرية العرق اليهودي بدون ضوابط.

ويبدي المؤلف قلقا كبيرا مما قد تؤول إليه إسرائيل في المستقبل غير البعيد، إن لم يتم التصدي لها وللأفكار اليهودية العنصرية السائدة فيها، إذ أنها قد تقدم على تنفيذ "الترانسفير" الذي ينادي به أتباع قورح، بحق الفلسطينيين في المناطق المحتلة في العام 1967.

أما بخصوص مواطنيها من العرب فإن الدولة اليهودية تتجه أكثر فأكثر نحو المزيد من التمييز العنصري ضدهم، وقد تتبع سياسة تهدف إلى اقتلاعهم من الدولة اليهودية أو تحويلهم إلى مكانة سكان "مقيمين" بدل مواطنين.

اليهود فقط هم المواطنون بينما العرب "مقيمون"، ولليهود الحياة بينما للعرب حكم "الموت للعرب" ذلك الشعار الذي يتردد دوما في إسرائيل، كما يؤكد المؤلف.

يتوقع أبراهام بورغ أن يسن الكنيست الإسرائيلي قوانين وفق الشريعة اليهودية، تحرم وتمنع زواج اليهود واليهوديات من غير اليهود، بعد أن سن قوانين تهدف إلى منع زواج الفلسطينيين المواطنين في إسرائيل من الفلسطينيين في المناطق المحتلة في العام 1967.

ويتوقع أن يقوم الكنيست بعد سنوات ليست بعيدة، بسن قوانين تلغي زواج قائما "مختلطا" وتمنع إقامة علاقات جنسية بين اليهود والعرب وتمنع تشغيل عاملات يهوديات وعمال يهود عند المواطنين العرب، لكي تلغي أي إمكانية يشتم منها تفوق عربي على الشعب اليهودي، الذي يحكم الدولة اليهودية، تماما مثل قوانين نيرنبرغ التي سنها النازيون في ألمانيا.

ويستطرد أبراهام بورغ في تحليله وتوقعاته فيقول "كل هذا سيحدث، وقد بدأ يحدث. لا تقولوا لي لا. أصغوا! انظروا! اقرأوا صحافة اليمين. راجعوا الفتاوى الدينية. شاهدوا كل هذه الجماهير التي تتغذى من هذه الحاخامات. اذهبوا إلى المستوطنات. فكروا بما يحدث في الأحياء والمدن اليهودية الحريدية. افحصوا مضامين برامج التعليم وحركات الشبيبة اليمينية والدينية... عندها ستدركون أنه يوجد لنظرية العرق اليهودي مواطنون وأتباع".

ويواصل المؤلف في تحليله، فيشير إلى تعاظم قوة القوى العنصرية في إسرائيل، ويرى أنها تزداد في الجيش وفي المجال السياسي وفي الاقتصاد وفي وسائل الإعلام والرأي العام الإسرائيلي.

واحد من ممثلي هذه القوى بيغلين الذي يسعى للسيطرة على حزب الليكود من الداخل، وبات يحظى بتأييد خمس أعضاء الليكود.

ويذكر المؤلف أن مسارات وعملية التحول التي جرت في ألمانيا، عندما وصلت إلى أقصى مداها غيرت المفاهيم والقيم، فبات الجنون هو الأمر العادي، وعندما أصبح المجنون هو الشخص العادي أبيد اليهود.

كان ذلك ممكنا هناك في أرض الشعراء والفلاسفة، وهنا أيضا "لم تعد إقامة دولة الحاخامات والجنرالات مجرد أضغاث أحلام"، على الأقل ليس "في مناطق الأنشلوس الإسرائيلي" في الضفة الفلسطينية المحتلة.

يعتقد أبراهام بورغ أن الانقلاب الذي حصل داخل الروح اليهودية الحديثة خاصة في أعقاب حرب 1967 لم يقتصر على اليهود في إسرائيل، بل تعداه إلى يهود العالم.

لقد اختلف دور يهود العالم خاصة في أميركا، فلم يعد يهود الولايات المتحدة جزءا من ائتلاف "الأقليات" في النضال من أجل العدالة والحريات الأميركية.

وبدل استغلال القوة اليهودية الحديثة في أميركا، في النضال ضد الظلم والقهر ومن أجل عالم أفضل، أصبح يهود أميركا "القلب النابض لفكر المحافظين الجدد"، وباتوا جزءا من المؤسسة اليمينية القومجية الاستعلائية، وأصبحوا جزءا من النسيج الاجتماعي الأبيض المنعزل عن كل ما ليس أبيض.

وعلى أرضية الاستعلاء والعداء للآخر تحالف "اليمين اليهودي" في أميركا مع اليمين المسيحي المتطرف ووقفوا بكل قوة ضد العرب والمسلمين أيا كانوا.

يستخلص أبراهام بورغ أن في إسرائيل شرائح خطيرة للعنصرية اليهودية التي لا تختلف في جوهرها عن تلك العنصرية التي أبادت اليهود، إنها قريبة جدا من الناس، ولشدة التصاقها بهم فإنهم نادرا ما يرونها. إنها عنصرية غنية وتبريرية، لذلك لا يشعر الناس بخطورتها. إنها خبيثة وقابلة للتسويق.

ويضيف أن الجواب على هتلر يجب أن يكون هزيمة هذه العنصرية وتحالف كل قوى الخير في العالم، ضد ائتلاف قوى الشر الذي يشمل الكثير من المتنفذين اليهود.

ويؤكد أنه على القوى الإنسانية في إسرائيل أن تدرك أن جواب الاحتلال الإسرائيلي ليس فقط ضرورة الانسحاب من المناطق المحتلة، وإنما أيضا العمل من أجل خلق هوية يهودية جديدة إنسانية ومنفتحة، والانطلاق منها للنضال من أجل عالم إنساني وفق روح يهودية موسى لا وفق تراث عنصرية أتباع قورح.
هذه المادة نشرت في موقع "الجزيرة نت"

التعليقات