ماركوس كلينغبيرغ: الجاسوس الأخير../ عرض: د.محمود محارب

-

ماركوس كلينغبيرغ: الجاسوس الأخير../ عرض: د.محمود محارب
تفيد العديد من المصادر الإسرائيلية أن مؤسس إسرائيل وواضع نظرية أمنها دافيد بن غوريون وقادتها الآخرون شرعوا في العمل لامتلاك أسلحة الدمار الشامل منذ قيام إسرائيل في العام 1948. وقد بذل قادة إسرائيل جهوداَ جمة في الاتصال مع الكثير من العلماء اليهود في العالم من ذوي الاختصاصات المختلفة من اجل تطوير أسلحة الدمار الشامل النووية والبيولوجية والكيماوية.

وتمكنت إسرائيل من استقطاب الكثير من العلماء اليهود في العالم الذين هاجروا إليها وكان لهم الباع الطولى في تطوير أسلحة الدمار الشامل الإسرائيلية. وقد فرضت إسرائيل تكتماً شديداً للغاية على مجمل نشاطها المتعلق بتطويرها أسلحة الدمار الشامل. وبالرغم من ذلك هزت المؤسسة الأمنية الإسرائيلية في عقد ثمانينيات القرن الماضي قضيتان ارتبطتا بتطوير إسرائيل أسلحة الدمار الشامل. تمثلت إحداهما في ما كشفه سنة 1986 التقني الإسرائيلي فعنونو لصحيفة الـ"ساندي تايمز" أسرار تطوير إسرائيل سلاحها النووي، الأمر الذي حدا بالمخابرات الإسرائيلية إلى اختطافه وتقديمه للمحاكمة.

أما القضية الثانية والتي ظلت ردحاً من الزمن في طي الكتمان، فقد تمحورت حول اكتشاف المخابرات الإسرائيلية سنة 1983 عالماً إسرائيليا من زبدة النخبة الإسرائيلية، كان يعمل لصالح المخابرات السوفييتية فترة تزيد على ثلاثة عقود زودها خلالها بالمعلومات المباشرة المتعلقة بتطوير إسرائيل أسلحتها البيولوجية والكيماوية.

وكتاب المذكرات الذي بين أيدينا يروي سيرة حياة هذا العالم ويسلط الضوء على الجهد الإسرائيلي في تطوير أسلحة الدمار الشامل البيولوجية، حيث شغل مؤلفه أهم المناصب المشرفة على الجهد الإسرائيلي في تطوير هذه الأسلحة.

وقد تمكن ماركوس كلينغبيرغ مؤلف الكتاب من نقل أهم وأخطر أسرار إسرائيل العسكرية المتعلقة بتطويرها الأسلحة البيولوجية والكيماوية إلى الاتحاد السوفييتي في الفترة الممتدة من سنة 1950 وحتى عام 1983. اشتبه جهاز المخابرات الإسرائيلية (الشاباك) به وحقق معه مرتين في فترتين متباينتين، بيد أنه فشل في اكتشافه إلا في سنة 1983.

كذلك فشل "الشاباك" في اكتشاف أن زوجة ماركوس كلينغبيرغ كانت تعمل معه لصالح المخابرات السوفييتية. وأيضاً فشل "الشاباك" في اكتشاف عالمين إسرائيليين آخرين نظمهما المؤلف للعمل لصالح المخابرات السوفييتية وقد فارقا الحياة من دون إن يكتشفا. هذه المعلومات هي غيض من فيض ما يكشف النقاب عنه المؤلف ماركوس كلينغبيرغ في كتاب مذكراته الذي نشره، بعد إن قضى فترة محكوميته في السجن وهاجر إلى فرنسا، والذي صدر باللغة العبرية وجاء في مقدمة وأربعة عشر فصلاً وخاتمة.

يبدأ المؤلف الكتاب بلحظة اعتقاله في كانون الثاني/يناير 1983 حيث يروي كيف نظم له "الشاباك" دعوة مزورة للمشاركة في مؤتمر خارج إسرائيل وألقي القبض عليه في المطار في يوم سفره المقرر واعتقله في شقة في شمال تل أبيب، وليس في معتقل عادي. وظل اعتقاله سراً عسكرياً خطيراً يحظر نشر أي معلومة عنه. وبعد إدانته بتهمة التجسس للاتحاد السوفييتي في محكمة سرية والحكم عليه بالسجن لمدة عشرين عاماً، نقله "الشاباك" إلى سجن عسقلان وسجنه في زنزانة انفرادية بعد أن طمس اسمه الحقيقي وأخفاه عن الجميع بما في ذلك عن سجانيه، ومنحه اسماً جديداً وحذر عليه لسنوات الحديث مع احد. وقد ظل المؤلف في السجن الانفرادي وباسمه الجديد ولا احد يعرف عن سجنه سوى زوجته وابنته، إلى ما بعد انهيار الاتحاد السوفييتي.

يفرد المؤلف عدة فصول ليروي خلفيته قبل هجرته إلى إسرائيل في سنة 1949، حيث ولد في سنة 1918 في وارسو لعائلة يهودية متدينة "حريدية". وعند اندلاع الحرب العالمية الثانية في سنة 1939كان المؤلف قد أنهى سنته الرابعة في دراسة الطب، وبعد وقوع بولندا تحت الاحتلال النازي فر المؤلف إلى الاتحاد السوفييتي وأكمل دراسة الطب في جامعة منسك. وعندما شنت ألمانيا الحرب على الاتحاد السوفييتي تطوع المؤلف للخدمة في الجيش السوفييتي، وعمل في غالبية فترة الحرب طبيبا ًمختصاً في مكافحة انتشار الأوبئة، وأصبح في نهاية الحرب الطبيب الرئيس المسؤول عن ملف مكافحة الأوبئة في حكومة روسيا البيضاء.

بعد أن وضعت الحرب العالمية أوزارها عاد إلى بولندا فوجد إن عائلته قد أبيدت، وتعرف في هذه الفترة على فاندا التي أبيدت عائلتها هي أيضا والتي اشترطت موافقتها على الزواج منه مغادرتهما بولندا. في نهاية سنة 1948 هاجر إلى إسرائيل، وفي اليوم الرابع لوصوله انضم إلى سلاح الطب في الجيش الإسرائيلي وسرعان ما ترقى إلى منصب المسؤول عن مكافحة الأوبئة في الجبهة الجنوبية ثم رأس فرع الطب الوقائي في الجيش الإسرائيلي برتبة مقدم. لم يجد المؤلف صعوبة في مخاطبة زملائه من العلماء الذين كانوا يعملون معه فغالبيتهم العظمى كانت تجيد البولندية أو الروسية لكونهم من المستوطنين الجدد الذين هاجروا لتوهم من أوروبا الشرقية.

يذكر المؤلف انه قام في سنة 1952 بتأسيس "معهد أبحاث الطب العسكري" في "تل هشومير" بالقرب من تل أبيب. وهدف من إنشائه " إلى زيادة معرفتنا حول كيفية وطرق نشر أو مكافحة أمراض تلويثية في اطر عسكرية". وتكون المعهد من أربعة أقسام : الفيروسات والجراثيم والكيمياء العضوية وعلم الحشرات.

بداية التخابر:

بذل المؤلف جهوداً جمة لنفي الادعاء أن المخابرات السوفييتية قد جندته قبل هجرته إلى إسرائيل وأكد انه بدأ العمل لصالح المخابرات السوفييتية في سنة 1950 لدوافع أيديولوجية أثناء استعار الحرب الباردة، وأسهب في شرح حيثيات بداية تخابره مع رجل المخابرات السوفييتية الذي كان يعمل في السفارة السوفييتية في تل أبيب. وكشف المؤلف انه منذ أن بدأ التخابر مع السوفييت وحتى إلقاء القبض عليه كان يوصل بانتظام كل ما تطوره إسرائيل في مجال الحرب البيولوجية الكيماوية. فقد تمكن المؤلف من الاطلاع على جل هذه الأسرار الهامة والخطيرة للغاية بحكم عمله كعالم وبحكم المناصب التي شغلها والمشرفة والمسؤولة عن تطوير الأسلحة البيولوجية.

المعهد البيولوجي:

يكشف المؤلف أن "المعهد البيولوجي" في ضاحية "نس تسيونه" في جنوبي تل أبيب احتل مكانة هامة للغاية في أجندة بن غوريون والمؤسسة الأمنية الإسرائيلية. فقد كان دافيد بن غوريون وشمعون بيرس وراء إقامته من اجل تطوير الأسلحة البيولوجية الفتاكة. ففي سنة 1948 شرعت وزارة الدفاع الإسرائيلية بالتخطيط لإقامته. وفي سنة 1950 باشرت ببنائه وأنجزته وافتتحته في عام 1952 تحت اسم "حيل مداع ب" ( سلاح العلم ب)، فيما كانت مهمة "سلاح العلم أ" تطوير السلاح النووي.

وفور الانتهاء من بنائه انتقل المعهد البيولوجي من مسؤولية وزارة الدفاع إلى مسؤولية مكتب رئيس الوزراء مباشرة وظل تابعاً له حتى يومنا هذا. ويذكر المؤلف أن المعهد كان بمثابة "طفل بن غوريون" المدلل. وبالرغم من مشاكل إسرائيل المالية خصص بن غوريون الأموال اللازمة والعلماء ومن بينهم ابنته، من اجل تطوير السلاح البيولوجي بأسرع وقت ممكن.

كان أول لقاء بين المؤلف والمعهد البيولوجي في سنة 1952 عندما أجرى هو وآخرون فحص أمانة وسلامة للمعهد وهو في طور التأسيس. فقد "كانت هناك ضرورة إن يتم بناء المعهد بشكل يقلل انتشار التلوث لوجود الجراثيم والفيروسات الحاملة أمراض وأوبئة تلويثية خطيرة للغاية". في عام 1957 التحق المؤلف بالمعهد البيولوجي هو وزوجته وعمل فيه بمنصب نائب مدير المعهد في حين عملت زوجته باحثة والتي كانت تحمل شهادة اللقب الثاني في العلوم. أحيط ما يدور في المعهد البيولوجي بغلاف سميك من السرية. فقد ظل قسم كبير من المعهد ومختبراته سرياً ليس فقط من الجمهور العام وإنما أيضا من الكنيست ومن أهم الوزراء في الحكومة الإسرائيلية.

ويشير المؤلف إلى أن العديد من المسؤولين الإسرائيليين زاروا المعهد البيولوجي، والذي كان معروفاً كمؤسسة أكاديمية، ولكن القلائل جداً منهم حظوا بجولة كاملة في المعهد. فمثلاً عندما زار موشيه شاريت وزير الخارجية الإسرائيلية المعهد وقبل أن يصطحب المؤلف، الذي كان يشغل نائب مدير المعهد، الزائر رفيع المستوى، وصلت تعليمات بن غوريون بعدم إبلاغ شاريت ماذا يتم فعله في المعهد. وفعلاً اصطحب المؤلف شاريت إلى المكاتب العلنية وغير السرية وأطلعه على الأبحاث العلنية فقط.

ويضيف المؤلف انه حتى عندما أصبح شاريت رئيساً للوزراء ظل خارج الصورة وأخفي عنه ما يدور في المعهد وظل بن غوريون يمسك بخيوط السيطرة على ما يدور في المعهد أثناء استقالته واعتكافه في "سديه بوكير" ما يقرب من السنة والنصف. ويردف المؤلف أنه في مقابل ذلك زار المعهد البيولوجي قادة المؤسسة الأمنية الإسرائيلية مثل موشيه ديان وحاييم بار ليف ويتسحاق رابين واطلعوا عن كثب على الأبحاث العسكرية واكتشافاتها. ويبرز المؤلف انه اشترك بحكم منصبه في الاجتماعات والنقاشات السرية التي أجرتها المؤسسة الأمنية واضطلع على استعدادات الأذرع الأمنية في ميادين الحرب البيولوجية والكيماوية.

يسهب المؤلف في شرح كيفية نجاحه في إيصال أهم واخطر الأسرار العسكرية الإسرائيلية المتعلقة بتطويرها الأسلحة البيولوجية والكيماوية بشكل منهجي إلى المخابرات السوفييتية. ويؤكد إن كل شيء تم اكتشافه في المعهد البيولوجي أو حصل عليه علماء المعهد من الغرب، كان يوصله إلى المخابرات السوفييتية.

ومما سهل نشاطه في جمع ونقل المعلومات انخراط زوجته معه في العمل لصالح المخابرات السوفييتية. فهو كنائب مدير المعهد كان "يعرف كل شيء من فوق " وكانت زوجته الباحثة في مختبر المعهد على اطلاع ومعرفة بما يدور في المختبر من تجارب وأبحاث واكتشافات الأمر الذي مكنهما من الإلمام بكل شاردة في المعهد.

لم يقتصر نشاط المؤلف وزوجته على نقل المعلومات والوثائق والأبحاث إلى المخابرات السوفييتية بل امتد ليشمل نقل عينات من الجراثيم الفيروسات التي تم تطويرها في المعهد البيولوجي. وقامت بهذه المهمة زوجته فاندا ذات الشخصية القوية التي تميزت بهدوء الأعصاب والشجاعة في تنفيذ مهامها المخابراتية كما يروي المؤلف.

في فصول الكتاب يبرز اعتزاز المؤلف بزوجته التي صمدت في تحقيق "الشاباك" معها ولم تعترف، والتي كانت تزدري كل شيء في إسرائيل وتقارن معاملتها للمواطنين العرب بداخلها بمعاملة اللاساميين البولنددين لليهود وتشبه معاملة الجيش الإسرائيلي للفلسطينيين في المناطق المحتلة بمعاملة النازيين لليهود إبان الحرب العالمية الثانية. كذلك يعتز المؤلف بنجاحه في التخابر مع المخابرات السوفييتية فترة طويلة ونجاحه في خداع المخابرات الإسرائيلية قبل اعتقاله وأثناء سجنه.

التعليقات