ملف : فعنونو المارد، هل كان ضحية دعاية الردع الإسرائيلي؟!

يوم الأربعاء القادم سيتم الإفراج عن أسير الضمير النووي، أو "جاسوس الذرة" الإسرائيلي موردخاي فعنونو * ملف خاص بموقع "عرب 48"

ملف : فعنونو المارد، هل كان ضحية دعاية الردع الإسرائيلي؟!





ملف خاص بموقع "عرب 48" - ياسر العقبي


افرج اليوم ، الأربعاء عن أسير الضمير النووي، أو "جاسوس الذرة" الإسرائيلي موردخاي فعنونو * هذا الرجل الذي أذهل العالم بنشره حول الترسانة النووية الإسرائيلية، ليكتب إسمه في تاريخ الإنسانية العالمية "

خلال قيامي بإعداد هذا التقرير، توجهت إلى بعض معارف اسير الذرة الإسرائيلي، موردخاي فعنونو، لأستطلع آراءهم عنه، وأحاول أن ألقي بالضوء على شخصيته الطلسمية التي تراوحت بين التطرف اليميني – حيث كان مؤيداً لحركة "كاخ" العنصرية، إلى التطرف اليساري حيث مقت الديانة اليهودية. وقد رفض معظم من حاولت الحديث معهم الإدلاء بدلوهم في هذا المسار، حيث لم يرغبوا في أن تحرق أصابعهم، او السنتهم بذكره.. إلا أن واحداً من هؤلاء كان له الجرأة أن يتحدث عن فعنونو. إنه فكتور آلوش، من قادة "الفهود السود"، الذي قال أن موردخاي فعنونو هو ضحية رغبة إسرائيل في نشر قوة الردع النووية، ولو أرادت أجهزة الأمن اعنقاله، لكانت فعلت ذلك في العام 1980 أو 1981 حين كان ناشطاً معروفاً في قوى السلام اليسارية، خاصة في الحزب الشيوعي، الوحيد الذي عمل على الساحة في تلك الفترة بقوى عربية يهودية".موردخاي فعنونو، أو موردي كما يطيب لأصحابه في سيدني تلقيبه، يقول "أنا عربي يهودي"، ويقول في أحد رسائله التي تم الكشف عنها خلال في المحكمة المركزية في بئر السبع، "أريد ان أصل إلى مرحلة يتم فيها تفكيك السلاح النووي الإسرائيلي وهدم الفرن الذري في ديمونا، كما هدمت إسرائيل الفرن الذري في العراق. هذا هو الطريق إلى السلام".

نداء أو حلم فعنونو هذا أخفقت أكثر من 15 دولة عربية في تمريره، حيث فشلت هذه الدول العربية مجتمعة في تمرير قرار يخضع برنامج إسرائيل النووي للتفتيش الدولي بالمؤتمر العام للوكالة الدولية للطاقة الذرية في فيينا 15-9-2003. واضطرت لسحب مشروع القرار على وعد أن يطرح المشروع النووي الإسرائيلي للمناقشة في اجتماع هذا العام.

والدلائل والنشرات الأجنبية على الخصوص تشير إلى أن مفاعل ديمونا، أهم منشأة نووية إسرائيلية، دخل في مرحلة الخطر الإستراتيجي، بسبب انتهاء عمره الافتراضي والذي يظهر واضحًا للعيان من خلال تصدعه وتحوله إلى مصدر محتمل لكارثة إنسانية تحصد أرواح مئات الآلاف من الضحايا إن لم يكن الملايين، من بينهم الإسرائيليين أنفسهم.

وحسب التقارير العلمية وصور الأقمار الصناعية لديمونا المنشورة بمجلة "جينز إنتلجنس ريفيو" المتخصصة في المسائل الدفاعية الصادرة في لندن عام 1999 والتي استندت في معلوماتها إلى صور التقطتها الأقمار الصناعية التجارية الفرنسية والروسية، فإن المفاعل النووي يعاني من أضرار جسيمة بسبب الإشعاع النيتروني. ويحدث هذا الإشعاع أضرارًا بمبنى المفاعل، فالنيترونات تنتج فقاعات غازية صغيرة داخل الدعامات الخرسانية للمبنى مما يجعله هشًّا وقابلاً للتصدع.

هذا إضافة إلى أن المفاعل أصبح قديماً، عمره 40 عاماً، بحيث تآكلت جدرانه العازلة. كما أن أساساته قد تتشقق وتنهار بسبب قدمها محدثة كارثة نووية ضخمة. وعلى الرغم من استبدال بعض الأجزاء من المفاعل فإن هناك خلافًا جديًّا يدور حول ما إذا كان من الأفضل وقف العمل في المفاعل تماماً قبل وقوع كارثة.

ويرى الخبراء أن إصابة الكثير من سكان المناطق المحيطة بالمفاعل "الطاعن في السن" بالأمراض السرطانية والعاملين فيه أيضاً كان بسبب تسرّب بعض الإشعاعات من المفاعل. فقد كشف تقرير أعدته القناة الثانية للتلفزيون الإسرائيلي أذيع بتاريخ 1-7-2003، أن العشرات من عمال المفاعل النووي ماتوا تأثرًا بالسرطان في وقتٍ ترفض فيه إدارة المفاعل والحكومة الإسرائيلية مجرد الربط بين إصابتهم، ومن ثَم موتهم، وبين إشعاعات متسربة.

وتنظر المحاكم الإسرائيلية الآن في أكثر من 45 دعوى قضائية تقدمت بها عائلات المهندسين والخبراء والفنيين العاملين في المفاعل النووي في ديمونا بصحراء النقب، بسبب تفشي الإصابة بالسرطان خلال السنوات الأخيرة بعد اختراق الإشعاعات النووية لأجسادهم. وقد طالبوا في الشكاوى المقدمة بسرعة صرف تعويضات عاجلة تقدر بنحو 50 مليون دولار نتيجة الأضرار التي لحقت بهم خلال سنوات عملهم، والكشف عن التقارير الطبية عنهم. وكانت الصحف المحلية قد اشارت مؤخراً إلى وجود بقايا مواد مشعة في جسم أحد الفنيين الذين قدموا دعوى ضد المفاعل النووي.

وقد نسب تقرير القناة الثانية في التلفزيون الإسرائيلي إلى أحد العمال الذين أصيبوا بالسرطان تأكيده أن الحرائق كانت تندلع بشكل يومي تقريبًا داخل المفاعل، وقد استنشقنا بخار المواد النووية الخطيرة، فيما قال عامل آخر "كنت عدة مرات أجد نفسي داخل غيمة صفراء من المواد السامة".
بدأ تشغيل مفاعل ديمونا في كانون الأول-ديسمـبر 1963، بدعم من فرنسا التي زودت إسرائيل بالآلات والمعدات اللازمة لذلك. وكانت طاقته آنذاك لا تتعدى 26 ميغاوات، مما يترجم إنتاجياً بحوالي 8 كيلوغرامات من البلوتونيوم، وهذا يكفي لصناعة قنبلة نووية واحدة بقوة 20 كيلو طناً من المتفجرات.

وفي السبعينيات رفعت إسرائيل طاقة الإنتاج القصوى لمفاعل ديمونا إلى حوالي 70 ميغاوات، بزيادة قدرها 44 ميغاوات، بينما تسعى إسرائيل حالياً، حسب مصادر أجنبية، لزيادة الكفاءة الإنتاجية لمفاعل ديمونا لتصل إلى ما يقارب 100 ميغاوات.

وكان موردخاي فعنونو، التقني الإسرائيلي الذي عمل لمدة 10 سنوات في مركز الأبحاث النووية قد أكد في اعترافاته التي أذيعت بتلفزيون هيئة الإذاعة البريطانية أن إسرائيل قد أنتجت حوالي 100 قنبلة نووية، وأن مفاعل ديمونا ينتج 40 كيلوغرامًا من البلوتونيوم سنوياً. ويقضي فعنونو الآن مدة عقوبة 18 عامًا بتهمة إفشائه أسراراً عسكرية.

ويقول فعنونو: "يعلم الجميع أنني لم أسجن لأني سرقت أو قتلت، أنا هنا بسبب ما أومن به، وإذا أخذ في الاعتبار مبادئي والمعلومات التي حصلت عليها، فسيكون حتماً عليّ أن أفعل ما فعلت" - ويضيف – "لقد كانت حريتي ومجازفتي بحياتي ثمناً دفعته لأكشف الستار عن مخاطر الأسلحة النووية المحيطة بالمنطقة".

جدير بالذكر أن خبراء الطاقة النووية الأجانب استناداً إلى معلومات فعنونو يؤكدون أن مفاعل ديمونا يصنع لإسرائيل خمس قنابل نووية سنوياً بقوة تبلغ 20 كيلو طناً للقنبلة الواحدة.
ويشار الخبراء، إلى أن إنتاج البلوتونيوم يشكل إحدى أخطر العمليات في العالم. إذ إن إنتاج كيلوغرام واحد من البلوتونيوم ينتج أيضا 11 لتراً من سائل سام ومشع مثل مركبات الأيزوسيانيد (Iso-cyanide) كمنتج جانبي، وعلى الرغم من كل المشاكل التي تواجه مفاعل ديمونا فإن إسرائيل – كما تشير مصادر أجنبية - تواصل إنتاج البلوتونيوم داخله.

البلوتونيوم الخام الذي يتم إنتاجه في مفاعل ديمونا عبارة عن مسحوق حامضي أخضر اللون، يسخن في درجات حرارة عالية جداً، ويتحول إلى سائل يتم ترشيحه لتنتج بعدها "أزرار" صغيرة بوزن 130 غراماً. ويمكن للمفاعل طبقاً لاعترافات التقني الإسرائيلي فعنونو أن ينتج 9 أزرار أسبوعياً. أي أن مفاعل ديمونا ينتج سنوياً 40 كيلوغراماً من البلوتونيوم، أي ما يساوي 10 - 12 قنبلة. وهناك اعتقاداً بأن المفاعل الإسرائيلي استهلك خلال الأربعين عاماً الأخيرة 1400 طن من اليورانيوم الخام.

ومفاعل ديمونا من النوع الحراري‏.‏‏ قامت بتنفيذه شركة "سان جوبيان" الفرنسية التي تملك الحكومة الفرنسية ‏66%‏ من أسهمها.‏‏ ويشبه مفاعل "سافانا ريفر" الأمريكي في ساوث كارولينا.‏ يقع مفاعل ديمونا النووي أو ما يسمّى بـ"مركز الأبحاث النووية" وسط صحراء النقب، جنوب شرق مدينة ديمونا.‏ والمنطقة صحراوية‏‏ جبلية‏ قليلة السكان، تم تهجير السكان العرب منها، بعد مصادرة أراضيهم، قبل سنوات من بداية العمل في بناء ما سمي لسنوات طويلة "المصنع".‏

تحيط بالمفاعل أشجار عالية ونباتات كثيفة لإبعاده عن الأنظار. وأقيمت حول الموقع أسلاك كهربائية وطرق لدوريات الحراسة. وتمهد التراكتورات التربة الوحلية يومياً لتسهيل اكتشاف آثار الزوار غير المرغوب بهم. ونصبت إسرائيل بطاريات مضادات جوية حول المكان لإسقاط كل جسم طائر يظهر على الرادار.

على سطح الأرض يوجد بناء من طابقين يحتوي على مرافق مثل كشك (مقصف) ومكاتب ومخازن وحمامات. يقع هذا البناء بسيط المظهر على مسافة غير بعيدة من جسم المفاعل الذي تغطيه قبة ظاهرة لكل من يسافر على طريق ديمونا-إيلات.

تسيطر غرفة مراقبة المفاعل على جميع فعاليات الطوابق الخمسة الواقعة تحت الأرض. وقد تحولت هذه الغرفة مع مرور الوقت إلى غرفة الشخصيات المهمة جداً. وتلقب هذه الغرفة بـ"شرفة غولدا"، لأن غولدا مئير خصصت الكثير من وقت فراغها في مطلع السبعينيات للتجول داخل المفاعل للإشراف على عمله.

ورغم ما وصلت إليه التقنيات داخل المفاعل من تطور فإن كافة الدلائل العلمية تشير إلى أن التطور الكبير في التقنيات لا يمكن أن يمنع حدوث كوارث نووية، وخير دليل على ذلك وقوف التقدم التقني الأمريكي عاجزاً أمام كارثة "ثري مايل" النووية، والروسي أمام كارثة "تشرنوبل".
"من أنت موردخاي فعنونو؟"، هذا هو الفيلم الوثائقي الذي سيتم عرضه السبت الوشيك في القنتال "8" في إسرائيل للمخرج المقدسي نسيم موسيك، وهو شرقي الأصل عانى ما عاناه فعنونو من تمييز لليهود الشرقيين، أو ما أسماهم فعنونو نفسه "العرب اليهود". اليوم وبعد 17 عاماً من الحبس، 11 عاما ونصف منها في الحبس الإنفرادي، المنافي لكل المواثيق الدولية، فإن سرد رواية موردخاي فعنونو عبارة عن دراما إنسانية غاية في الحساسية وغاية في الأهمية، كونه يؤخذ بوجهين. ففي القاموس الإسرائيلي يتصل إسم فعنونو بذلك الغول أو المارد الذي ضرب الدولة اليهودية في الصميم، بخنجره المسموم، وخيانته العظمى لأهم المرافق العسكرية في إسرائيل. في نظر الكثير في إسرائيل، إنه "قنبلة موقوتة" وليس غريباً أن رئيس الموساد السابق، شبتاي شابيطن قال في مقابلة مع "رويترز" انهم "فكروا باغتياله، ولكن اليهودي لا يقتل يهودياً، ومن هنا فكرنا في اختطافه ليسجن بقية حياته". ان الخوف من فعنونو تحول إلى "برنويا (ارهاب) وطني"، كما قال محامي الدفاع عنه افيغدور فلدمان رداً على مطالبة أجهزة الأمن الإسرائيلية بتقييد حريته، كونه سيشكل خطراً على إسرائيل بعد إطلاق سراحه أيضاً.

أما في نظر مئات الآلاف من السكان في العالم، فهو المحارب الشجاع الباسل من القصص شبه الخرافية الذي تحدى بإرادته وبرغبته بالعيش بسلام في محيط عربي واسع، كل أجهزة الأمن الإسرائيلية، رغبة منه في وقف التسلح النووي الذي يشكل كارثة ليس على العرب في الشرق الاوسط فحسب، بل وعلى أبناء شعبه في البداية. إنه لم يرغب في كارثة جديدة. وبالتالي صنع له الآلاف في العالم تمثال البطل الاسطوري وبنوا له مواقع على شبكة الإنترنت، وباعوا الدبابيس التي تعلق على القمصان وتحمل صوره، وأجروا له مظاهرات من أجل الحرية، لأنه صرخ صرخة مدوية ضد القنابل النووية، الخطر القادم على البشرية جمعاء. وقد نال فعنونو، الذي كان يدرس للقب الثاني في الفلسفة في جامعة "بن غوريون" في بئر السبع، الدكتوراة الفخرية من جامعات عدة في أنحاء العالم، وكذلك تم تسجيل إسمه عدة مرات مع قادة العالم لنيل جائزة نوبل للسلام كونه "أثبت إخلاصه للمجتمع العالمي"، كما جاء في حيثيات سبب ورود إسمه في قائمة المرشحين.

فيلم "من أنت موردخاي فعنونو؟" يروي قصة أسير الذرة الإسرائيلي منذ هجرته من المغرب وطفولته في حارة (د) التي تم تركيز اليهود الشرقيين فيها وحتى إطلاق سراحه من السجن، يوم الأربعاء القادم. أما الأحداث في حياته فقد فسرها من يحارب من أجله أمثال الكاتب الروائي هارولد فينتر أو الحاصل على جائزة نوبل للسلام البروفسور جوزيف روتبيلت، وبالمقابل شمعون بيرس، صاحب فكرة الفرن الذري في ديمونا، وكذلك من كان لهم علاقة في الكشف عنه كمراسلي "الصاندي تايمرز" أو رجال الموساد الذين اختطفوه بعد ان خدروه ونقلوه عبر سفينة تحمل علماً أجنبياً من شواطىء ايطاليا، حيث استطاعت عملية الموساد الملقبة "سيندي" اغراءه في السفر إلى هناك.

وعلى كل حال، فإن الدراما الإنسانية التي ترافق سرد قصة فعنونو عبارة عن قصة "بوليسية" هائلة، حيث لم تتردد اسرائيل في تكليف الموساد ان يقوم بمهمة تساوي مهمة اختطاف ايخمان، بعد 26 عاماً، ولكن هذه المرة ليس من أجل الانتقام من النازيين ولكن من أجل اثبات ان من يخون اسرائيل، حتى ولو كان يهودياً او من ابنائها، فمصيره لن يقل عن مصير ايخمان. بطل هذه الواقعة "جاسوسا"، حسب المعايير الإسرائيلية، ولكن من اسرائيل وعلى اسرائيل وخطورته انه تبرع بمحض ارادته لكشف واحد من اهم أسرار اسرائيل العسكرية، مفاعل ديمونا الذي كانت كل المعلومات المتوافرة عنه قبل ان يكشفها موردخاي فعنونو على صفحات كبرى الصحف البريطانية وبالصور ايضا، مجرد تكهنات.
ولد مردخاي فعنونو في مراكش بالمغرب في العام 1953، لعائلة وصل عدد أنفارها إلى 12 فرداً. والده، شلومو، كان راب معروف في الطائفة اليهودية الكبيرة في مراكش، وموردخاي كان الإبن المدلل لوالده. كان الوالد يحث موردخاي على الدراسة، رغبة منه في تحويله إلى راب كبير في المستقبل.

كان الطفل موردخاي فعنونو قد بلغ السابعة من عمره في عام 1960 عندما قالت امه لابيه العامل البسيط بمزارع المغرب ان عليه ان يرتب إرسال موردخاي الى المدرسة هذا العام، ورد عليها زوجها بحدة اية مدارس وأية دراسة؟ نحن يهود والمغرب لن تكون بلدنا ابدا ولن اسمح لابنائي بالعيش فيها، لقد رتبت بدلا من ذلك امر رحلتنا جميعاً الى أرض الميعاد، الى فلسطين وكلها أيام وسنكون هنا وهذا ما يجب ان ترتبي أمور حياتك عليه وليس شيئاً آخر.

صمتت المرأة وبعد أسابيع قليلة كانوا بالفعل قد وصلوا الى إسرائيل، ولكن تحت مسمى اليهود السفارديم أو يهود الشرق، وكانت الأم ترغب في السكن بجوار والدتها في حيفا، إلا أن الوكالة اليهودية اختارت لهم العيش في حارة فقيرة في بئر السبع تركز فيها اليهود الشرقيين. ومات الحلم عندما اضطر الأب ان يأخذ زوجته وأطفاله ويتجه مدينة بئر السبع، ليعيش شهوراً طويلة معزولاً يتلقى المساعدات من الحكومة إلى ان قرر أن ينزل الى سوق بئر السبع ويفترش فرشة رص عليها أكواماً من الكتب الدينية القديمة وبدأ في عمل جديد عليه.

سنوات قليلة ووجد فعنونو نفسه مطالباً بالوقوف الى جوار والده وتوقف عن استكمال دراسته واكتشف والده انه لا يذهب الى المدرسة، فسأله: وماذا تنوي ان تفعل؟ فأجابه "سألتحق بالجيش، وأدرس بجامعة تل أبيب". كان ذلك في العام 1971.
ظل موردخاي في الجيش على رتبته التي وصلت الى عريف بسلاح المهندسين، بعد ان رفضه سلاح الجو، وألتحق بالفعل بجامعة تل أبيب ودرس بقسم الفيزياء وظل يعمل ويدرس الى أن بلغ الثالثة والعشرين من عمره عندما وقع بصره على إعلان بجريدة تطلب شباباً في تخصص للالتحاق بدورة تدريبية للعمل بمصنع لم تحدد هويته بعد.

في الصباح كان على باب المصنع في منطقة ديمونا، في منطقة بعيدة عن مسكنه ومريبة ولكنها بالفعل تضم مبنى يبدو لمن يراه لأول وهلة وكأنه مصنع صغير كتب على بوابته "نسيج ديمونا". واكتشف لحظة وصوله انه مفاعل ديمونة الذري. كان ذلك في نهاية عام 1976.

راجع الضابط الجالس في مكتب الاستقبال اسمه وطابقه على الطلب الخاص به والموافقة التي حصل عليها وبعدها صحبه الى غرفة تضم لجنة مكونة من مجموعة من الضباط حيث تركه لهم. وهناك أجاب فعنون على بعض الأسئلة التي اثبت خلالها ولاءه لدولة إسرائيل ولليهود، وفيما بعد قام رئيس اللجنة بكتابة بعض العبارات ومرر الأوراق الى زملائه الذين تتكون منهم اللجنة، وفي النهاية تم قبوله كفني بمفاعل ديمونا النووي وكان ذلك في نوفمبر عام 1976، وفي اليوم التالي وقع أوراقاً تفيد بحصوله على منحة دراسية تدريبية مكثفة في الفيزياء والكيمياء والرياضيات واللغة الانجليزية. كانت البعثة تضم 39 شخصاً آخرين تم اختيارهم من 45 شخصاً كانوا قد تقدموا للعمل وانتهت البعثة الدراسية في نوفمبر 1977 وأصبح رسمياً موظفاً بالمفاعل الذي يقع في منطقة تحت الأرض في بئر السبع وقبل ان يجتاز بوابة الأمن المؤدية الى قلب المفاعل النووي دخل في غرفة كبيرة بها مكتب فخم وقدم له شخص لا يعرفه ورقة بها تعهد ينص على عقوبة السجن لمدة 15 سنة لمن يفشي سرا لأي انسان مهما كان عن طبيعة عمله في مفاعل ديمونا. ظل موردخاي فعنونو يواصل دروس الفيزياء الذرية والكيمياء ودراسة خصائص البلوتونيوم واليورانيوم، ثم خضع لفحص طبي خلال الأسابيع الأولى وأعطي وزملاؤه بطاقات أمنية تخوله الدخول والخروج بحرية من وإلى المفاعل في أي وقت، وقال له رئيس المنطقة التي يعمل فيها داخل المفاعل ان أمامه عشرة أسابيع كي يتعرف مع زملائه على كافة مجالات العمل والاجهزة الدقيقة بالمفاعل قبل ان يبدأ العمل فعلياً.

في هذا اليوم أدرك فعنونو أهميته كموظف في مكان حساس، كما أدرك انه رغم أهميته فإنه لن يستطيع اخبار أحد مهما كان بطبيعة عمله أو مكانه، وقبل ان يغادر طلب منه رئيس الوردية التي يعمل من خلالها ان يلتحق بالجيش كأي اسرائيلي، إلا انه رفض عندما امتنع عن الاجابة على سؤال سأله المسؤول عن التجنيد عن طبيعة عمله، فقال مكان حساس جداً، ولما أصرت القيادة على معرفة هذا العمل، رفضوا التحاقه بالجيش وأصبح في 7 أغسطس عام 1977 موظفاً رسمياً بالمفاعل حيث عين كرئيس وردية ليلية ليبدأ عملها بين الساعة الحادية عشرة مساء وحتى الثامنة صباحاً. مرت شهور طويلة وفعنونو يذهب يومياً الى محطة، حيث يترك سيارته "الآودي" في هذا المكان النائي ويستقل باصاً خاصاً يقله هو وزملاءه الى حيث مقر المفاعل النووي ديمونا.

بدأ فعنونو يكتشف شخصيته وإنسانيته وفي أحدى المرات سأل والده، والأسرة كلها مجتمعة على مائدة الطعام، أبي لماذا نحن يهود؟ قال له أبوه وهو مندهش من السؤال: لأنه دين آبائنا وأجدادنا. فأعلن فعنونو أنه قرر ان يختار دينه بنفسه، ثم وضع الملعقة على طاولة الطعام ونهض دون ان يتفوه بكلمة وخرج من بيت أبيه ولم يعد اليه ثانية، وكان ذلك عام 1980.

ظل فعنونو منقطعاً عن زيارة أهله أو الاتصال بهم وتغيرت شخصيته تماماً، وأصبح يشعر في داخله باحتقار شديد للديانة اليهودية، وانقطع عن هذه الديانة كلياً واصبح علمانيا بعد ان أنزل الكيباه التي اعتمرها منذ نعومة أظافره، وأصبح لا دين له فلم تعد تقنعه الديانة اليهودية وفي الوقت نفسه فهو لا يعرف شيئا عن الديانات الأخرى. واستمر على هذا الحال حتى عام 1982 عندما سمع وقرأ وشاهد الاجتياح الاسرائيلي للبنان عام 1982 فازدادت نقمته أكثر على إسرائيل بشكل خاص، وبدأت جامعة "بن غوروين" في بئر السبع التي كان لايزال يدرس بها اللقب الثاني في الفلسفة، تشهد مظاهرات علنية منه لا تتفق وطبيعة عمله بل زاد الطين بلة بعد احداث لبنان ان بدأ يتصادق مع الطلبة العرب، وكان يقول عن نفسه "أنا عربي" واخيرا قرر ان ينضم للحزب الشيوعي الاسرائيلي. كان ذلك تحول كبير في حياة فعنونو من يميني متطرف قريب إلى "كاخ" والراب كهانا العنصري، إلى يساري يعمل بصراحة ضد اليهود، في نفس اللجنة الطلابية التي كان يرئسها وزير الخارجية الإسرائيلي الحالي سيلفان شالوم، الذي كان رئيساً لحزب "متسادا" اليميني المتطرف في الجامعة حينذاك.

في جهاز الأمن الإسرائيلي (الشاباك) كانت كل التطورات التي تحدث داخل الجامعة وما يصاحبها من تغييرات في شخصية فعنونو، الفني بالفرن الذري، تسجل يوما بيوم وعندما وضعت هذه التقارير أمام مديره في الفرن الذري، تم إبلاغ الشاباك بهذه التطورات "الخطيرة" من وجهة نظر الإدارة في شخصية فعنونو الذي أصبح مناهضاً للحروب خاصة بعد ما رأته عيناه في لبنان. وتم استدعاء فعنونو الى مكتب رئيس الفرن الذري، الذي قال له إذا لم تسكت فستفصل من العمل. كان هذا التهديد بمعرفة من الشاباك الذي اقترح عدم إقالته من العمل.

لم يهتم فعنونو بما قاله المسؤول عن الفرن الذري وأستمر في عمله واستمر في الوقت نفسه في "ثرثرته ومشاغباته" ولذا فقد وجدت إدارة المفاعل نفسها تقرر فصله من العمل بالمفاعل النووي في شهر نوفمبر عام 1985، لأسباب تتعلق بخفض التكاليف. وقد تم تعويض فعنونو بنسبة 150% وذلك لارضائه. في تلك الفترة، أدخل فعنونو كاميرا تصوير وبعد أن نجح أدخل كذلك فيلمين وقام بتصوير منشآت المفاعل الأكثر سرية في العالم.
في تلك الفترة كان فعنونو ينشر اعلاناً في الصحف يعلن فيه عن رغبته في بيع سيارته من نوع "آودي" حمراء اللون وشقته، وبعد أيام باعهما بالفعل وقرر ان يسافر خارج هذه الدولة الفظيعة، وفي يده شهادة اللقب الثاني بعد أن انهى دراسته بنجاح. حط فعنونو الرحال في تايلاندا، وفي الطريق إلى هناك توقف برهة في موسكو، وهو يحمل الفيلمين في حقيبته. وحسبما يدعي وكيل الموساد السابق، آري بن-مناشيه، فإن فعنونو حاول بيع الفيلمين والمعلومات الثمينة جدا التي كانت بحوزته في موسكو، ولكنهم تنازلوا عن خدماته!

وتجول فعنونو لاشهر طويلة في الشرق الأقصى، في نيبال والهند، ومن هناك وبعد أن تنفذ نقوده يقرر السفر إلى استراليا. في سيدني، العاصمة الأسترالية، يعمل فعنونو سائقاً لسيارة أجرة، حيث يعمل في منطقة "الأضواء الحمراء" في نقل المدمنين على المخدرات والقوادين، ما يلزمه بالشعور بالضيق والضجر، فوصل الى إحدى الكنائس في ذلك الربع الماجن، وطلب من القس أن يخبره كيف يصبح مسيحيا، ولم يضع القس ستيفن غيري وقتا وصحبه الى قادة الكنيسة وأعلن مسيحيته بعد وقت قصير في كنيسة "ساينت جون"، وسمي من ذلك اليوم "جون موردي". كان تنصر فعنونو ليس من منطلق الإيمان بالمسيحية، كما كتب في أحد رسائله الكثيرة من سجن "هشكماه" في عسقلان (أشكلون) حيث يقبع، بل لأنه رأى في المسيحية رافعة علم السلام العالمي الحقيقي الذي يؤمن به.

في أحد الأيام تعرف إلى شخص ادعى أنه صحفي من كولومبيا، باسم "أوسكار غيريرو"، الذي التقطته الكنيسة وبدآ يتحاوران أثناء عملهما في دهن الجدار الخارجي للكنيسة. حين عرف فعنونو أن غيريرو صحفي، قال له "هل تعلم اني من الممكن ان اجعلك اشهر صحفي في العالم؟"

ضحك اوسكار غيريرو، الصحفي الكولومبي بطريقة توحي بأنه لم يأخذ الكلام على محمل الجد.. فاعاد فعنونو التأكيد على كلامه، ثم قال "لدي شريطان مصوران عن مفاعل ديمونا من الداخل لقد كنت أعمل كفني بالمفاعل النووي الاسرائيلي لتسع سنوات قبل ان يفصلونني، وقد التقطت هذه الصور اثناء النوبات الليلية التي كنت اعمل فيها بالمفاعل". كان الشريطان في الدرج مدة عامين. قال له الصحفي الكولومبي، "اذا كان كلامك صحيحا فمن الممكن ان نبيع هذه الصور ونصبح من الاثرياء"، فرد عليه فعنونو "صدقني اذا قلت لك ان ذلك لا يهمني.. يهمني ان يعرف العالم كله اي خطر تشكله اسرائيل على العالم وعلى منطقة الشرق الاوسط تحديدا. انهم يخدعون العالم كله بالحديث عن كونهم مضطهدين وان العرب يريدون الفتك بهم بينما لديهم ما يزيد على مائة قنبلة نووية ومفاعل قوته 150 ميغاوات ينتج كل انواع القنابل الحرارية والهيدروجينية والنيوترونية، وهذا المفاعل به 2700 عامل وكنت انا ضمن 150 عاملا فقط الذين كان مسموحا لهم بدخول كل أقسام هذا المجمع النووي".

بدأ اوسكار غيرارو وصديقه فعنونو الاتصال بكل صحف العالم الا ان احدا لم يصدق ما يقوله هذا الرجل وقال له احد محرري صحيفة اميركية هل من المعقول ان تدخل مفاعل نووي ومعك كاميرا وتصور وتخرج دون ان يكتشفك احد؟ انني لا اصدق.. اما انك عميل او مجنون..

لم ييأس غيرارو وقرر اخيراً ان يتصل بمواطن استرالي شهير جداً بل انه اشهر رجل في عالم الصحافة وقبل ان يسأل موردخاي قال له غيرارو سنتصل بماغنيت روبرت ميردوك، ملك الصحافة بلا منازع، ومالك "الصنداي تايمز" البريطانية. بالفعل اتصل غيرارو بروبرت ميردوك الذي قرر ان يمضي معهما للنهاية وطلب الجريدة في بريطانيا وأمرهم بارسال المسؤول عن التحقيقات الصحفية إلى سيدني لاستطلاع الامر.

وصل الصحفي البريطاني بيتر هونام إلى سيدني وفي الموعد والمكان المحددين كان فعنونو وغيرارو وهونام يجلسون معاً حيث تأكد هونام من جدية ما يتحدث فيه فعنونو وفي نهاية الجلسة قال هونام، "ليس أمامك الا ان تأتي معي الى لندن لكي ننشر هذه التفاصيل وسوف تحصل على 75 ألف دولار اميركي مقابل نشر المعلومات والصور". هذا المبلغ الذي لم يتلق فعنونو منه حتى سنت واحد حتى اليوم. ووافق فعنونو وصديقه الكولومبي، وسافر الثلاثة الى لندن. وقد تأجرت الصاندي تايمز الخبير النووي البروفسور فرانك برانبي، للتأكد من الأمر وعدم الوقوع في خديعة صحافية أخرى، بعد أن سقطت في فخ كذبة العقد حين نشرت يوميات مزيفة للرايخ الالماني أدولف هيتلر. برانبي نفسه قال لاحقاً انه اعتقد أن فعنونو مبعوث من قبل الموساد الإسرائيلي، الذي أراد بهذه الطريقة تقوية الردع الإسرائيلي عالمياً. شعر غيريرو أن رجال "التايمز" يخدعونه بتوجه إلى صاحب "الصاندي ميرور"، اليهودي روبرت ماكسويل (الذي لقي مصرعه فيما بعد في ظروف غامضة)، ليبيعه الصورتان اللتان أعطاهما إياه فعنونو ليشعر براحة أكبر بعد ان خاف من خداعه. وتخرج الميرور بعنوان كبير تحت إسم "الخدعة" وذلك ليفوت الفرصة على منافسيه في "التايمز".

في المقابل، علمت المخابرات الاسترالية بكل ما دار في هذا اللقاء الثلاثي وفي اليوم الذي غادر فيه الاسرائيلي فعنونو سيدني كانت المخابرات الاسترالية تبلغ الموساد بالقصة كاملة وابلغتهم انه الآن في طريقه الى لندن. كما أبلغت المخابرات البريطانية بوصول فعنونو الى أراضيها. اصبحت الآن القصة على كل لسان.. وتساءل الصحفيون البريطانيون بعد كشف اسرار الترسانة النووية لماذا فضح السر النووي الاسرائيلي الآن.

وقال الكتاب في مقالاتهم واعمدتهم ان هناك احتمالا ان تكون اسرائيل قد عمدت الى كشف هذه القصة عن المفاعل النووي بعد ان ادرك العسكريون الاسرائيليون الخطر الذي يواجههم بعد وصول صواريخ SS-21 السوفييتية الدقيقة الى سوريا وان سوريا يمكن ان تزود هذه الصواريخ برؤوس كيماوية وانها نتيجة هذا الخوف أرادت ان تخيف سوريا بنشر القصة عن مفاعلها النووي لترتدع سوريا وبقية الدول العربية المجاورة لها، خاصة وان شامير مقبل على مفاوضات سلام مع العرب واذا حدث وقدم تنازلات للعرب فإنه يقدمها بأمان للمستقبل الذي تحميه القنابل النووية.
قام هانوم بالإتصال قبل يومين بالسفارة الإسرائيلية ليتأكد من معلومة أخرى حول عمل فعنونو في المفاعل الذري، وجاء التأكيد من السفارة الإسرائيلية الأمر الذي أعطاه ضوءاً أخضر بالنشر في الخامس من أكتوبر-تشرين الأول 1986 تحت عنوان "الكشف عن أسرار الترسانة النووية الإسرائيلية". وضم الموضوع معلومات لم يكن العالم كله يعرفها بهذه الدقة والوضوح عن القدرة النووية لاسرائيل. وفي تفاصيل الموضوع ان الجريدة قبل ان تنشر الموضوع عرضته على خبراء نوويين لكي تتأكد من دقة المعلومات الخطيرة التي تبرع بها موردخاي فعنونو لمحرر الجريدة، وقد دهش الخبراء النوويون من الادلة الأكيدة التي قدمها فعنونو. والذي أكد في معلوماته ان إسرائيل لا تملك القنبلة الذرية فقط، حيث كان العالم كله يشك بطبيعة الحال في امتلاكها لهذه القنبلة، ولكن ما قاله فعنونو يؤكد ان إسرائيل اصبحت القوة النووية السادسة في العالم، وأكد التقرير الذي هز العالم ان مفاعل ديمونا انتج حتى عام 1986 ما بين 100 و200 سلاح نووي وبقوى تدميرية مختلفة وأخطر ما جاء في المعلومات التي أدلى بها فعنونو للجريدة الشهيرة في بريطانيا هي استخلاص البلوتونيوم لفترة طويلة وبشكل سري في مكان مجهول تحت الارض بعيدا عن أي رقابة، حتى ولو كانت الاقمار الصناعية المتقدمة أو حتى تلك التي تستخدمها الولايات المتحدة الاميركية في التجسس على سكان الارض.
اتصل فعنونو برئيس تحرير "الصانداي تايمز" الذي اكد عليه الا يظهر في الاماكن العامة وأن يكون حريصاً اذ لابد ان اسرائيل قد ارسلت فريقاً من الموساد للبحث عنه. لم تكن هذه المعلومة جديدة على فعنونو الذي كان متأكداً من ذلك تماماً.

كان شمعون بيرس، رئيس الحكومة الإسرائيلي، في هذه الفترة على وشك تسليم السلطة الى يتسحاك شامير، زعيم حزب الليكود، عندما وضع سكرتيره الخاص ذات صباح تقريرا أمامه يلخص ما حدث من موردخاي فعنونو وما نشرته الصانداي تايمز واختتم السكرتير الصحفي تقريره بأن كل أسرار مفاعل ديمونا والسلاح النووي الاسرائيلي اصبح معروفا على مستوى العالم كله.

أمسك بيرس بسماعة التلفون وادار رقم يتسحاك شامير وزير خارجيته وزعيم حزب الليكود في ائتلاف الحكم كما طلب كذلك يتسحاك رابين، وزير الأمن، وطلب من مدير مكتبه عدم ازعاجهم بأي شيء مهما كان. جلس الثلاثة في مكتب رئيس الوزراء وتساءل شامير في لهفة ما الذي جرى؟ فأجابه بيرس "فضيحة يا سيد شامير. بل قل إنها فضيحة نووية". إنزعج رابين واستعجل بيرس، "ما الذي جرى هل حدث شيء لمفاعل ديمونا؟". أجاب بيرس: "نعم.. استطاع فني من العاملين في المفاعل من الهروب الى الخارج وتحديدا الى استراليا والتقى بشخص عرض عليه إذاعة أسرار المفاعل كلها، ومن ثم أخذه وذهب الى بريطانيا بصحبة صحفي بريطاني حيث أدلى بكل ما لديه من معلومات وأصبحت فضيحة على مستوى العالم كله.

لابد من احضاره وبأي ثمن. لابد من خطفه وتلك مهمة الموساد بعد أن فشل الشاباك في معرفة دوافعه وميوله وفشل في كشفه قبل أن يهرب للخارج ومعه صور للمفاعل وما يتم بداخله". ورد رابين: "اذن، ما الذي تنتظره؟ لابد ان يعلم كل اسرائيلي ان من يخون امن اسرائيل لا مكان له لدينا". تردد بيرس لعدم لامس بالعلاقات الطيبة مع بريطانيا، فقال له شامير: "اتصل بالسيدة مارغريت تاتشر واعلمها بالموضوع وأخبرها ان المطلوب فقط مساعدتها والمخابرات البريطانية وأن بقية المهمة ستكون علينا. لا تلمح لها عن فكرة خطف فعنونو".

عقب هذا الاجتماع طلب بيرس من مدير مكتبه جمع رؤساء تحرير الصحف الاسرائيلية على وجه السرعة وعندما اكتمل عددهم دخل عليهم بيرس ودون ان يجلس على مقعده قال بصوت يغلب عليه الاسى والغيظ في الوقت نفسه: ارجو منكم الا تعطوا لهروب فعنونو ونشره اسرار ديمونة الاهمية الزائدة وان توقفوا النشر حول هذا الموضوع ما أمكن. وهكذا كان.

في المقابل أصدر بيرس أوامره للموساد لاحضار فعنونو من بريطانيا ولكنه لم ينس أن يحذر رئيس جهاز الموساد، شبتاي شابيط، من حساسية الاحتكاك بالحكومة البريطانية أو سيادتها وقوانينها وبالتالي كانت مهمة الموساد صعبة ولم يعرف الفريق الذي وصل الى بريطانيا من اين يبدأ الى ان جاءتهم التعليمات بمراقبة "الصانداي تايمز" ليل نهار بكاميرات من كل الانواع.
في اليوم التالي مباشرة كانت الصحف البريطانية تنشر خبرا في صدر صفحاتها يقول ان بيرس يطلب من صحفييه عدم الاهتمام بما نشرته الصنداي تايمز وهذا يعني ان كل ما قاله فانوني صحيح.. وألحقت الصحف تعليقا على هذا قالت فيه ان السفارة الاسرائيلية كذبت عندما قالت ان ما نشرته الصنداي تايمز عن قصة فعنونو كان ملفقا وأن فعنونو ربما لا يكون في بريطانيا اصلا..

وفي هذا الصباح التقط شاب يبدو من هيئته انه من دول منطقة الشرق الاوسط متوسط الطول واسع العينين اصلع الرأس، صحيفة الصانداي من احد باعة الصحف بشارع غير رئيسي بلندن وفوجيء بأن الصحيفة تنشر ما قاله بيرس والسفارة الاسرائيلية فطوى الجريدة بسرعة وهرع الى حيث يقيم وبدأ يلملم اغراضه فلا بد أن الموساد سيبدأ منذ هذه اللحظة في البحث عنه.. هبط من الشقة بسرعة واجتاز الطريق الجانبي حتى وصل الى محطة لمترو الانفاق والقى بنفسه على مقعد وأرجع رأسه للخلف حيث اخذته غفوة دار خلالها شريط حياته كلها خلال هذه الرحلة.
وجد فعنونو نفسه يتصل بصديقه اوسكار، لكنه لم يجده وعندها قرر زيارة المحرر الانجليزي بـ"الصانداي تايمز" وساقته قدماه الى مقر الجريدة وبعد نصف ساعة خرج منها ليجلس على مقهى وطلب فنجاناً من القهوة في نفس اللحظة التي نظر فيها نحو باب المقهى حيث دخلت شقراء لفتت نظره انها ابتسمت له فدعاها على فنجان قهوة ولم تمانع، وتكررت لقاءاتهما الى ان اختفت فجأة. هذه الشابة التي ادعت في اللقاء بأنها خبيرة تجميل من فلوريدا، هي "سيندي" – عميلة الموساد – التي أرسلت لاستدراج فعنونو إلى خارج الحدود البريطانية.

مضت عدة ايام قبل ان يخرج من مكمنه مرة اخرى ووجد نفسه يسير في اتجاه ميدان ليستر وهناك لم يصدق نفسه فقد كانت "سيندي" الجميلة في مواجهته تماماً وفي الميدان عاتبها على اختفائها فتعللت بالمرض وقالت له سأعوض لك غيابي ما رأيك لو سافرنا الى روما عدة أيام، حيث شقة اختي هناك وهي غير موجودة الآن، بشرط ان تشتري انت التذكرة. حب فعنونو وانقطاعه عن الجنس لفترة طويلة، أثر على تفكيره بالرغم من تحذير رجالات "الصاندي تايمز" له من أنها قد تكون من الموساد.

بعد يومين كانت سيندي وفعنونو في مطار هيثرو في طريقهما على متن الطائرة البريطانية رحلة 504 من لندن الى روما في 30 سبتمبر 1986، وخلال الرحلة أكدت له ان بيت شقيقتها سيكون أكثر اماناً من القلق والتوتر الذي يعيشه في لندن.
واختفى فعنونو من لندن ومن بريطانيا كلها وانقطعت اخباره عن كل من يعرفونه الى أن وصل لشقيقه معلومة تقول ان أخاه قد اختفى في ظروف غامضة في بريطانيا فهدد برفع الامر الى المحكمة العليا إن لم تكشف الحكومة الاسرائيلية النقاب عن سر اختفاء شقيقه فاعلنت الحكومة الاسرائيلية بعد 40 يوماً من اختفائه أنه موجود بإسرائيل ورهن المحاكمة واكتشف فعنونو وهو في ايطاليا ان سيندي لم تكن سوى عميلة للموساد ما ان دخل الشقة معها في روما حتى فوجئ بثلاثة اشخاص يقيدونه ثم قامت سيندي بحقنه بحقنة مخدرة ووضع في صندوق ونقل بطائرة صغيرة الى ميناء بحري حيث نقل بحرا الى اسرائيل وظل في البحر اسبوعاً قبل ان يصل الى اسرائيل حيث ألقي بزنزانة مظلمة ليس بها الا فراش ملقى على الارض.

حوكم فعنونو على أساس ثلاث تهم، الخيانة والتجسس الخطر وجمع معلومات سرية بقصد إضعاف أمن الدولة وعقدت المحكمة بشكل سري في المحكمة المركزية بالقدس حيث غطيت كل نوافذها بلون قاتم، وخلال نقله من السجن الى المحكمة كان رجال الشرطة يلبسونه خوذة كخوذات قائدي الدراجات البخارية حتى لا يسمع اسئلة الصحفيين ولا يستطيع الكلام ولكنه مع ذلك استطاع اثناء عودته من إحدى جلسات المحاكمة الى السجن من اشكلون ان يكتب تفاصيل ما حدث له على راحة يده وذراعه ويضع كف يده على نافذة السيارة حيث عرف العالم كله انه خطف من روما بوساطة الموساد وسيندي.

في مارس 1988 حكم على فعنونو بالسجن 18 سنة واعتبر خائناً. وقد أمضى 11 سنة ونصف من مدة محكوميته في زنزانة، وبالرغم من ان كل إنسان قد يجن بعد ثلاثة أسابيع في الحبس الإنفرادي، إلا أن فعنونو الذي وصل إلى مرحلة من تصور العصافير التي تغرد مبعوثة من قبل الموساد، عاد إلى رشده وقال في احدى رسائله "إنهم يريدونني أن أجن، ولكنني بكامل قواي العقلية". كان كل شيء يريده فعنونو يمر عبر المحاكمة في بئر السبع، التي عادة ما كانت تحرس بشدة، لكي لا يقوم بالإتصال بالصحفيين، ولا الحديث معه. كانت المحاكم بالنسبة له عبارة عن منصة يعبر من خلالها عن فلسفته في الحياة..

بعد اقل من اسبوع سيخرج فعنونو ليلتقي آلاف المعجبين من كافة أنحاء العالم، ينتظرونه على باب السجن في "هشكماه"، إلا إذا وقعت مفاجآت لا نعرفها. وقد منع منه الاتصال بالأجانب، والاقتراب إلى السفارات أو التحدث بالهاتف الخليوي وحتى الدخول إلى الانترنت. ومن المتوقع أن يواصل فعنونو نضاله في المحاكم ضد هذه القرارات الأمنية الصادرة ضده، التي تحد من حريته.. تلك الحرية التي صودرت منه لنحو 18 عاماً.

وما زالت مؤامرة الصمت القاتل تخيم بالغموض على السلاح النووي الإسرائيلي أو "قدس الاقداس" في إسرائيل.

التعليقات