وثائق جديدة: بن غوريون قرر الحرب بإعلان قيام إسرائيل

تسلط الوثائق الضوء على أسباب قرار "مديرية الشعب" اليهودية برفض مقترح أميركي بوقف إطلاق النار، والإعلان عن "دولة يهودية مستقلة"، وتطرح رواية لمواقف قادة الدول العربية من حرب 1948، من أيدها ومن عارضها، ودور بريطانيا وفرنسا

وثائق جديدة: بن غوريون قرر الحرب بإعلان قيام إسرائيل

اجتماع "مديرية الشعب" في أيار/ مايو 1948

اجتمع قادة "الييشوف" اليهودي في فلسطين، في إطار هيئة "مديرية الشعب" والتي كانت بمثابة حكومة مؤقتة برئاسة دافيد بن غوريون، في 12 أيار/مايو العام 1948، من أجل اتخاذ أحد قرارين: قبول المطالبة الأميركية بوقف إطلاق النار، أو الإعلان عن قيام "دولة يهودية مستقلة".

وكان واضحًا للمشاركين العشرة في اجتماع "مديرية الشعب" أن الإعلان عن دولة سيؤدي إلى حرب شاملة مع جيوش الدول العربية، "وكانت المعضلة المطروحة أمامهم، هي هل هم مخولون باتخاذ قرار يضع الشعب اليهودي أمام محرقة أخرى؟"، وفقا لمقال نشره المؤرخ العسكري الإسرائيلي، البروفيسور مئير زامير، ونشره في صحيفة "هآرتس" اليوم، الجمعة.

وتطرق زامير إلى الاعتبارات التي دفعت بن غوريون إلى حض المجتمعين على اتخاذ قرار إقامة دولة إسرائيل، لافتا إلى أن هذه الدوافع كانت محاطة بضبابية. "هل كان متسرعا واتخذ قراره من شعور غيبي يكاد يكون خلاصي، مثلما ادعى مؤرخون كثر، أم أنه ربما استند إلى معلومات استخبارية دقيقة وجديدة وبحث دقيق لقدرات قوات الييشوف على لجم الهجوم العربي؟".

ويبدو أن بن غوريون استند في قراره إلى الإمكانية الثانية، بحسب وثائق اكتشفت مؤخرا في أرشيفات فرنسية وإسرائيلية. وكتب زامير أنه اتضح من هذه الوثائق أنه خلال اجتماع "مديرية الشعب"، تلقى بن غوريون معلومات سرية من الاستخبارات الفرنسية. "لقد اتضح لبن غوريون أن قادة الدول العربية المجتمعون في دمشق قد قرروا، بدعم بريطاني سري، شن حرب خاطفة في جميع الأحوال"، حسب زامير.

وقالت البرقية التي تلقاها مساعد بن غوريون من الفرنسيين إنه "عُلم من مصدر مُخوّل أن الدول العربية قررت نهائيا شن هجوم مشترك ومتزامنا في 15 أيار/مايو، وقررت ذلك حتى لو أن الأمر منوط بخطر الفشل. يعتمدون على عدم وجود سلاح ثقيل وغطاء جوي عبري. وستهاجم تل أبيب من الجو مباشرة".

بن غوريون خلال الحرب

وأضافت البرقية تفاصيل حول خطة الهجوم العربي والقوات المشاركة فيه. وكتب زامير أن "هذه المعلومات كانت ذات أهمية إستراتيجية فائقة، وعلى الأرجح أنه حتى لو يطلع بن غوريون معظم الحاضرين على مضمونها، لكانت في مركز اعتباراته أيضا". وقد صدرت هذه البرقية عن القنصلية الفرنسية في القدس، واستندت إلى تقرير بعثه الملحق العسكري الفرنسي في بيروت إلى مقر الجيش في باريس قبل يوم واحد.

وتابع زامير أن بن غوريون علم، في تموز/يوليو عام 1947، بـ"مؤامرة" بريطانية لإشعال حرب، بمشاركة قادة العراق. وكشفت الاستخبارات الفرنسية له أن ضباط استخبارات وقادة عسكريين بريطانيين كبار، في القاهرة وبغداد، يعملون سرا من أجل منع حكومتهم من اتخاذ قرار بسحب القوات البريطانية من فلسطين، بواسطة إشعال حرب شاملة بين اليهود والعرب.

وأشار زامير إلى أن بن غوريون أدرك عشية اجتماع "مديرية الشعب" أن احتلال المنظمات اليهودية مدينتي حيفا ويافا، مكّن الضباط البريطانيون من التغلب على الانقسامات والخصومات العميقة بين قادة الدول العربية، وإقناعهم بتوحيد قواتهم وشن حرب من أجل منع دولة يهودية مستقلة أو تقليص مساحتها وانحساره في السهل الساحلي فقط.

مذكرة للجيش البريطاني

توقعت مذكرة أرسلت إلى قادة الجيش البريطاني مراحل حرب 1948 بشكل دقيق، وفقا لزامير، الذي اعتبر أن المذكرة تجاهلت الوساطة الأميركية وتخوفات قادة الدول العربية من الحرب. وقدّرت المذكرة أنه في المرحلة الأولى ستسغل الجيوش العربية تفوقها بالقوات النظامية والسلاح الثقيل والذخيرة، من أجل السيطرة من خلال هجوم خاطف على المناطق التي خصصها قرار تقسيم فلسطين للدولة العربية والنقب، وأنهم سنجحون بالاستيلاء على منطقة في شمال شرق الببلاد، خصصها القرار للدولة اليهودية.

كذلك توقعت المذكرة أن اليهود سيزيدون عديد قواتهم، ردا على الهجوم العربي، بواسطة تكثيف الهجرة إلى فلسطين وتجنيد قوى مؤهلة للحرب، في موازاة تكثيف استيراد السلاح والذخيرة، وتجاهل الحظر الأميركي. وفي المرحلة الثانية، ستسرع القوات اليهودية الهجوم المضاد، وسيتغلبون في هذه المرحلة بسبب نقص السلاح والذخيرة لدى الجيوش العربية والمس بروحهم القتالية.

وقدرت المذكرة أنه "ستتوفر فرصا لليهود لاستغلال الوضع في هذه المرحلة وإعادة احتلال مناطق عربية ومهاجمة دول عربية أيضا". وإذا صمد العرب في المرحلة الثانية، فإن طبيعة المرحلة الثالثة ستكون "حرب استنزاف"، ويتفوق فيها العرب بسبب مواردهم. وتوقعت المذكرة البريطانية أيضا، أن تواجه الأنظمة العربية أزمات داخلية ومواجهة صعود حركات سياسية "متطرفة".

عبد الله وقائد جيشه، غلوب باشا

وحول أسباب دفع الضباط البريطانيين للدول العربية بشن حرب، اعتبر زامير أن أحد الأسباب هو أن "قسما منهم لم يقدروا بشكل صحيح قدرة قادة الييشوف والقوة المقاتلة لديهم"، والسبب الثاني هو "ضباطا آخرين اعتقدوا أن الدول العربية، سواء انتصرت أو هُزمت في الحرب، سيتزايد تعلقهم ببريطانيا وتزال المعارضة لإبرام عقود دفاعية، التي أولتها القيادة العليا للجيش البريطاني أهمية فائقة، لأنها توقعت حربا شاملة ضد الاتحاد السوفييتي وسيشكل الشرق الأوسط إحدى جبهاتها".

تقارير سرية

حسب زامير، بن غوريون تلقى معلومات، في صيف عام 1945، سمحت له بأن يتوقع حربا شاملة مع الدول العربية "واتخاذ قرارات إستراتيجية ذات أهمية فائقة". وخلال مكوثه في باريس، في العامين 1945 – 1946، "اطلع بن غوريون على محاولات عملاء الاستخبارات البريطانية لدى قادة سورية ولبنان، من أجل طرد فرنسا من هناك.

وأضاف زامير أن "بن غوريون طوّر قناعة تكاد يكون غيبيا حيال قدرات أجهزة الاستخبارات البريطانية على خداع القادة العرب، وحكومة لندن أيضا، من أجل تحقيق أهدافهم. وثبت لاحقا صحة هذه القناعة".

وتابع أنه عشية اجتماع "مديرية الشعب"، علم بن غوريون، من المصادر الفرنسية، أن القيادة العليا للجيش البريطاني في مصر، أقنعت الملك فاروق بالانضمام إلى التحالف العربي، وأن الملك فرض قراره على رئيس حكومته، محمود فهمي النقراشي، على الرغم من معارضته ومعارضة مسؤولين مصريين كبار في الحكومة والبرلمان والعائلة المالكة وقيادة الجيش.

فاروق ورئيس "مكابي" في مصر

وحسب زامير، فإن الوثائق في الأرشيفات الفرنسية "تكشف تفاصيل كثيرة حول كيفية إقناع ضباط الاستخبارات والجنرالات البريطانيين الملك فاروق بإشراك جيشه في الحرب. وبين الذين استخدمهم العملاء البريطانيون، حركة الإخوان المسلمين، الذين هاجموا أملاك اليهود ونهبوها وتظاهروا مطالبين الملك بإصدار أوامر للجيش من أجل إنقاذ المسجد الأقصى ومسلمي فلسطين. كما نشط المئات من أعضاء الحركة في النقب ضد مستوطنات إسرائيلية". وزودت بريطانيا الجيش المصري بأسلحة وطائرات.

وأضاف زامير أن بن غوريون علم من الفرنسيين حول نشاط عملاء الاستخبارات البريطانيين في دمشق، حيث اجتمع قادة الدول العربية لاتخاذ قرار بشأن الحرب أو الموافقة على المقترح الأميركي بوقف إطلاق النار.

وخلال اجتماع "مديرية الشعب" وصلت برقية من الاستخبارات الفرنسية تقول إن "الدول العربية قررت بشكل نهائي شن هجوم متزامن في 15 أيار/ مايو... وسيتم قصف تل أبيب من الجو".

موقف القادة العرب

وحسب زامير، فإن تقريرا قدمته شخصية سورية رفيعة إلى ضابط استخبارات فرنسي، ذكر أمين عام جامعة الدول العربية، عبد الرحمن عزام، ورئيسي الحكومتين السورية واللبنانية والمفتي الحاج أمين الحسيني، "كانوا على استعداد للموافقة على المقترح الأميركي، لكنهم استسلموا لإملاءات الملك الأردني عبد الله، الذي أعلن مندوبوه أن الجيش الأردني سيدخل إلى فلسطين في جميع الأحوال".

وتابع زامير أن موقف الملك عبد الله أرغم باقي قادة الدول العربية على تأييد الحرب، "ولم يكن هناك شكا لدى الحاضرين، الذين تعاون بعضهم سرا مع عملاء الاستخبارات البريطانية، أن عبد الله عمل بموجب توجيهات الأوصياء الانجليز عليه. وواضح أن إيفاد غولدا مئير إلى الملك الأردني، في 11 أيار/مايو، في محاولة لإقناعه بالامتناع عن الحرب، كانت عديمة الجدوى".

وأشار زامير إلى أن تقديرات القائد الفعلي للقوات اليهودية، يغئال يَدين، خلال اجتماع "مديرية الشعب"، هي أن "احتمالات صمود الييشوف أمام الهجوم العربي ضئيلة".

وخلص زامير إلى أن قرار "مديرية الشعب" بالإعلان عن "دولة يهودية مستقلة" لم يكن قرارا مستوجبا إثر المعلومات الاستخبارية حول قرار قادة الدول العربية. "فعلى خلفية تردد القادة العرب والضغوط الأميركية، ينبغي التقدير أنه لولا لم يعلن بن غوريون عن إقامة الدولة، لما استجابوا للضغوط البريطانية ولم يأمروا جيوشهم بشن الحرب. والقرار بإقامة الدولة اتخذ من خلال قناعة بأن هذه لحظة تاريخية للشعب اليهودي والحركة الصهيونية، لكنه لم يكن قرارا متسرعا ولم يستند إلى مشاعر غيبية، وإنما إلى تقييم واع للوضع، معلومات استخبارية جديدة حول العدو ونواياه، والبحث في قدرات الييشوف للجم هجوم عربي خاطف وشن هجوم مضاد".

التعليقات