ارتفعت عمليّات تهريب الذهب الخامّ وتصديره بشكل غير قانونيّ من القارّة الأفريقيّة إلى الإمارات في العقد الأخير، حسب تقرير نشر في "سويس إيد". تقدّر علميّات التهريب بمئات الأطنان من الذهب الّتي تساوي مليارات الدولارات. وحسب التقرير الّذي نشر في أيّار/مايو الماضي فإنّ حوالي 435 طنًّا من الذهب استخرج معظمه من مناجم صغيرة، ويساوي أكثر من 30 مليونًا تمّ تهريبه من إفريقيا.
بدورها كانت الإمارات المستقبل الأكبر لتلك الكمّيّات حيث تمّ تهريب 405 أطنان إلى الإمارات في 2022، وتقدّر الكمّيّات الّتي استقبلتها الإمارات من الذهب الّذي تمّ تهريبه بحوالي 2500 طنّ في العقد الماضي، وتعادل نحو 115 مليار دولار أميركيّ. من جهتها علّقت الحكومة الإماراتيّة أنّ الحكومة قامت بخطوات كبيرة للتعامل مع عمليّات تهريب الذهب، وطبّقت قوانين وأنظمة جديدة على تجارة الذهب والمعادن الثمينة الأخرى.
وحسب وكالة الأنباء العالميّة رويترز في تقرير استقصائيّ نشر عام 2019 قالت إنّ أطنانًا من الذهب تقدّر بالمليارات يتمّ تهريبها سنويًّا من إفريقيا من مناجم صغيرة وحرفيّة إلى الإمارات؛ ومن ثمّ إلى الولايات المتّحدة وأوروبا. ويشير ارتفاع الكمّيّات الّتي يتمّ تهريبها إلى ارتفاع مخرجات المناجم الصغيرة والحرفيّة بشكل كبير إلى حدّ وصل فيه الإنتاج ليساوي، وأحيانًا أكثر من الإنتاج الصناعيّ للمناجم العملاقة في إفريقيا.
في العام 2016 كانت الكمّيّات المستوردة من الذهب أعلى من صادرات بعض الدول الأفريقيّة في إشارة كبيرة إلى نشاطات غير مشروعة. وبالإضافة إلى خسارة تلك الدول الأفريقيّة الضرائب المفروضة على تلك الكمّيّات من الذهب، إلّا أنّ عمليّات التهريب تعدّ بيئة خصبة لغسيل الأموال والنشاط الإرهابيّ والتهرّب من العقوبات الدوليّة. مارك اوميل، الّذي اشترك في كتابة تقرير "سويس ايد" صرّح أنّه "إذا استمرّينا برؤية أكثر من 400 طنّ من الذهب غير المشروع تدخل إلى الإمارات كلّ سنة، فإنّ ذلك إشارة واضحة على أنّ القوانين في الإمارات ناقصة بشكل كبير". يأتي ذلك في وقت ارتفعت فيه أسعار الذهب عالميًّا إلى مستويات تاريخيّة، فقد تضاعفت أسعار الذهب منذ العام 2009 لتصل إلى مستويات أكثر من 2500 دولار أمريكيّ للأونصة هذا العام.
وتعدّ قارّة أفريقيا المنتج الرئيسيّ للذهب في العالم، إذ تصدّرت غانا وجنوب أفريقيا ومالي وبوركينا فاسو الإنتاج عام 2022.
الأطماع الأوروبّيّة ليست جديدة
في كتابه "تعطّل التنمية في الكونغو: الأسس الهشّة لتوافق الآراء الأفريقيّ بشأن التعدين" يبحث بين رادلي عن التحوّل الاقتصاديّ في أفريقيا مع التركيز على الاقتصاد المعتمد على الموارد. يناقش المؤلّف أنّ عودة الشركات متعدّدة الجنسيّات جاء من خلال خطّة تتكوّن من ثلاثة أجزاء بدأت من قراءة خاطئة للركود الاقتصاديّ في أفريقيا في السبعينات، بالإضافة إلى دفع تلك الدول للتنازل عن السيادة على الموارد من خلال تصوير الدولة الأفريقيّة على أنّها مريضة بالإضافة إلى شيطنة عمّال المناجم الأفارقة.
الذهب الأفريقيّ يتمّ تهريبه إلى الإمارات وتركيّا بشكل أساسي، وحسب تقرير صادر عن قاعدة بيانات الأمم المتّحدة لإحصاءات تجارة السلع الأساسيّة، فإنّ المستورد الأوّل للذهب من الإمارات هي سويسرا، ويشير التقرير إلى أنّ "توريد الذهب من الإمارات خطير بشكل كبير" ويصف التقرير أنّه من الصعب تحديد مصدر الذهب القادم إلى الإمارات في ضوء عمليّات التهريب.
وبرغم استقلال الدول الأفريقيّة عن الاستعمار الأوروبّيّ منذ منتصف القرن الماضي، إلّا أنّ الاستقلال حسب ما يشير المحلّلين كان استقلالًا صوريًّا. قبل انسحابها، تأكّدت الدول الأوروبّيّة من إحكام السيطرة على الموارد الطبيعيّة للدول الأفريقيّة من خلال اتّفاقيّات مع تلك الأنظمة. تلك الاتّفاقيّات ضمنت للقارّة الأوروبّيّة حصّة كبيرة من المعادن المستخرجة. وبرغم مرور الوقت وتغيّر تلك السياسيّات، إلّا أنّ القارّة الأفريقيّة ما زالت تعاني من تلك السياسات.

ويعدّ التنافس الإيطاليّ - الفرنسيّ على مصادر الطاقة والمعادن في القارّة الأفريقيّة إشارة إلى أطماع تلك الدول. الأمر لم يتوقّف عند التنافس التجاريّ، بل وصل إلى تلاسن المسؤولين من كلتا الحكومتين وسحب السفير الفرنسيّ من إيطاليا احتجاجًا على تصريحات المسؤولين الإيطاليّين.
الصراع حول مصادر الطاقة بين البلدين يأتي في وقت تتعقّد فيه الأزمة الروسيّة - الأوكرانيّة وانقطاع الغاز الروسيّ عن أوروبا. وفي نفس الوقت أصبحت احتياجات فرنسا مضاعفة بعد توتّر العلاقات بينها والمجلس العسكريّ الحاكم في النيجر، الّذي ألغى عديدًا من الاتّفاقيّات معها، وهي الّتي كانت تعتمد بشكل كبير على اليورانيوم النيجيريّ. فرنسا تستخرج 30% من احتياجاتها من اليورانيوم من النيجر لتشغيل محطّات الطاقة النوويّة لديها، فيما يعيش 90% من النيجيريّين دون كهرباء!
من الأسباب الرئيسيّة الّتي تدفع بالموادّ الإفريقيّة خارج القارّة هي الشركات متعدّدة الجنسيّات. حيث تمتلك هذه الشركات قوّة اقتصاديّة وسياسيّة كبيرة في الدول الإفريقيّة بعد الاستقلال، وتدعم تلك الشركات نخبة اقتصاديّة للسيطرة على الموارد الاقتصاديّة في البلدان الإفريقيّة، ومن ثمّ يسهل السيطرة عليها فيما بعد. وتسيطر تلك الشركات الدوليّة، الّتي تعتبر أحيانًا ممثّلة عن بلدانها الأصليّة؛ وبالتّالي توفّر لها الشرعيّة والحماية، على معظم المناجم والموارد الإفريقيّة، وتحصل على حصّة كبيرة من الأرباح الّتي تقوم بتحويلها إلى بلدانها الأصليّة مع التحايل على دفع الضرائب ودفع حصّة صغيرة للحكومات الإفريقيّة، والّتي قلّما تستفيد منها شعوبها في ضوء غياب عدالة التوزيع وتفشّي الفساد. وهو ما ينقل القارّة الإفريقيّة من مرحلة الاستغلال الاستعماريّ إلى الاستغلال الحديث عبر الشركات العابرة للحدود ومتعدّدة الجنسيّات. تشير تقارير إلى استحواذ شركة أريفا Areva الفرنسيّة على اليورانيوم في النيجر لتلبية احتياجات 75% من احتياجات فرنسا من الكهرباء، في الوقت الّذي تعاني فيه النيجر من تفاقم معدّلات الفقر، ويعيش 90% من سكّانها بدون كهرباء.
أضف إلى ذلك أسبابًا أخرى مثل فساد النخب الحاكمة في تلك البلاد وتورّطها في الاستيلاء على الموارد والثروات، فقد أشارت وثائق “باندورا” في عام 2021 إلى تورّط عائلة الرئيس الكينيّ السابق أوهورو كينياتا في إخفاء حوالي 30 مليون دولار من ثروتهم الشخصيّة، بالإضافة إلى التهرّب الضريبيّ في البلاد، وهو ما نفته الحكومة الكينيّة آنذاك. وفي عام 2019 وجّهت الإدارة الأميركيّة الاتّهامات إلى ثلاثة مسؤولين حكوميّين سابقين من موزمبيق وخمسة رجال أعمال بشأن مخطّط احتيال وغسيل أموال بقيمة ملياري دولار، بالإضافة إلى دفع أكثر من 200 مليون دولار رشاوى لمسؤولين في موزمبيق.

وتعدّ الاتّفاقيّات الّتي وقّعتها فرنسا مع الدول الأفريقيّة بعد الاستقلال دورًا كبيرًا لتسهيل نهب الثروات. فقد عملت فرنسا عقب استقلال 14 دولة إفريقيا في ستّينيّات القرن الماضي على عقد اتّفاقيّة أمنيّة مع الدول المستقلّة حديثًا، بموجبها تحصل باريس على الموادّ الخامّ من الدول الإفريقيّة، كما تتمتّع الشركات الفرنسيّة بأولويّة في أيّ نشاط اقتصاديّ في تلك الدول. الأمر الّذي يعني استمرار فرنسا في فرض هيمنتها والاستيلاء على الثروات والمعادن. من الجدير بالذكر أنّ باريس لديها رابع احتياطيّ للذهب في العالم بأكثر من 2400 طنّ بقيمة تتجاوز 112 مليار دولار دون أن تمتلك منجم ذهب واحدًا، كما أنّها تحصل على اليورانيوم بأقلّ الأسعار من إفريقيا.
يأتي ذلك في وقت تعد فيه القارّة الأفريقيّة، بالرغم من تأخّرها في مجالات النموّ والتطوّر، أكبر قارّة من حيث تركيز المعادن الثمينة. ومن تلك المعادن النحّاس والألماس والليثيوم والذهب، بالإضافة إلى موادّ أخرى مثل النفط والخشب. وتقدّر كمّيّة تلك المعادن بـ 30% من مخزونات الأرض من تلك المعادن.
مؤخّرًا، تتركّز الجهود الأوروبّيّة على التحوّل نحو "الطاقة الخضراء". ولكن بدل التركيز على أنماط الاستهلاك للطاقة في القارّة العجوز، فإنّ المشرّعين ينقلون التركيز على اكتشاف مصادر للطاقة المستدامة. ولإنتاج تلك الطاقة واستخدامها تعتمد تلك العمليّة على معادن مثل الليثيوم والنيكل، بالإضافة إلى معدن أخرى لعمل البطّاريّات. ويعمل الاتّحاد الأوروبّيّ على تأمين تلك المعادن عبر استغلال اتّفاقات تجاريّة غير عادلة مع دول أفريقيّة غنيّة بتلك المعادن.
ويعمل الاتّحاد الأوروبّيّ على خطّة طموحة للحدّ من الانبعاثات الكربونيّة مع حلول العام 2050 وجزء كبير من تلك الخطّة يعتمد على التحوّل إلى السيّارات الكهربائيّة الّتي تحتاج إلى بطّاريّات. وقام الاتّحاد الأوروبّيّ بالعمل على "الاتّفاقيّة الخضراء والخطّة الصناعيّة" و"قانون الصناعة نت زيرو" و "قانون المعادن الثمينة".
من جهتها، تقوم دول أفريقيّة مثل تنزانيا والكونغو وسيراليون بالدفع نحو إنهاء الهيمنة الأوروبّيّة على قطاعات التعدين في البلاد. وتنطلق تلك البلاد من "الرؤية الإفريقيّة للتعدين" وهو إطار تنظيميّ أصدره الاتّحاد الأفريقيّ في عام 2009 لتقوية العلاقة بين الاقتصاد المحلّيّ للدول الأفريقيّة والشركات متعدّدة الجنسيّات والمملوكة من دول أجنبيّة، ويدعم الإطار التنظيميّ أيضًا تقوية الحكومات الأفريقيّة للتفاوض مع تلك الشركات الأجنبيّة لتقوية الموقف الأفريقيّ. ولكن يرى محلّلون أنّ هذا لا يشكّل تحدّيًا أساسيًّا للنموذج المهيمن لصناعة التعدين المملوكة للشركات الأجنبيّة، والّتي يعتمد على كثافة رأس المال في القارّة.
الصراع حول مخزونات الذهب لا يتوقّف. والبحث عن مصادر الذهب يعدّ مطلبًا أساسيًّا للدول لاستقرار الاقتصاد والعملات ووقف الاعتماد بشكل كلّيّ على الدولار الأميركي وتنويع سلّة العملات الأجنبيّة في ظلّ توتّرات في مناطق عديدة من العالم. في العام 2017 استعادت ألمانيا مخزونات ذهب خاصّة بها من باريس ولندن ونيويورك. ومن الدول الأوروبّيّة الأخرى الّتي استعادت مخزوناتها من الذهب لدى البنك الفيدراليّ الأميركي والبنك المركزيّ البريطانيّ هي النمسا وهولندا وتركيّا وجمهوريّة التشيك. وفي السنوات القليلة الماضية رفعت هنغاريا من مخزونات الذهب الخاصّة بها 1000%.
التعليقات