حسب موقع "جلوبال تريد ماغ" فإنّ عصرًا جديدًا من الأسواق الماليّة على وشك البدء عن طريق تطوير "الذكاء الاصطناعيّ التوليديّ"، والّذي لديه القدرة على تغيير الطريقة الّتي نستثمر بها، ونقوم بإدارة أعمالنا بشكل كلّيّ. لا شكّ أنّ الذكاء الاصطناعيّ قد غيّر حياتنا بشكل كبير ودفع بتغييرات جذريّة في قطاع التكنولوجيا والهواتف الخلويّة وصولًا إلى سيّارات القيادة الذاتيّة وأدوات يستخدمها تجّار التجزئة لرفع جودة الخدمة لعملائهم. ونتيجة لذلك، فإنّ التقدّم الّذي أحرزه الذكاء الاصطناعيّ محسوس وملموس.
ويمكن تعريف ذلك النوع من الذكاء الاصطناعيّ، الّذي يختلف عن أوائل النماذج مثل "ألفا جو" بأنّه نوع يعتمد على إنتاج محتوى جديد باستخدام خوارزميّات متقدّمة. يعتمد على نماذج مثل الشبكات العصبيّة التوليديّة ونماذج اللغة مثل GPT. يعمل هذا النوع من الذكاء الاصطناعيّ من خلال تحليل كمّيّات ضخمة من البيانات وتعلّم الأنماط والعلاقات بينها، ممّا يمكّنه من توليد نصوص، صور، مقاطع صوتيّة، وفيديوهات جديدة. ويستخدم حتّى الآن هذا النوع في الفنّ والإبداع، التسويق، تطوير الألعاب، الكتابة، وتشير الأبحاث إلى أنّ الذكاء الاصطناعيّ التوليديّ لديه قدرة الإنتاجيّة وتعزيز الإبداع، لكنّه يثير أيضًا تساؤلات حول القضايا الأخلاقيّة، مثل حقوق الملكيّة الفكريّة والاستخدام المسؤول.
حديثًا، بدأ استخدام ذلك النوع من الذكاء في التداول بأسواق الأسهم بشكل أساسيّ لعمل التحليلات الّتي تتوقّع حركة السوق والتعلّم الآليّ لتحليل البيانات التاريخيّة وبيانات الأسهم والعمل على توليد أفكار للاستثمار وبناء محافظ الاستثمار بالإضافة إلى بيع وشراء الأسهم بشكل "أوتوماتيكيّ" بعيدًا عن العواطف البشريّة الّتي تؤثّر في تلك العمليّة بشكل أساسيّ.
تشير الدراسات إلى أنّ الذكاء التوليديّ يمكن أن يرفع تأثير الذكاء الاصطناعيّ بشكل عامّ من 15% إلى 40% أو ما يساوي 2.6 إلى 4.4 تريليون دولار أميركيّ في السنة، باستخدام ذلك الذكاء في المجالات المختلفة. ويشكّل استخدام الذكاء الاصطناعيّ، خاصّة التوليديّ، في التداول بالأسهم في الأسواق الماليّة العالميّة صناعة تقدّر بـ 208.3 مليون دولار في عام 2024، ويتوقّع أن يرتفع إلى 1.7 تريليون في العام 2033. وتتوقّع الزيادة مع نهاية العام الحاليّ بـ 26.3%.
بدأ تدخّل الذكاء الاصطناعيّ في التداول عندما بدأت الشركات باستخدام خوارزميّات تعمل بشكل أوتوماتيكيّ. يتمّ تدريب الخوارزميّة وبرمجتها على دراسة المعلومات التاريخيّة الأسواق وتحليلها. في الوقت الحاليّ، تداول الأسهم يحتوي على مخاطر الخطأ بشكل أقلّ ويتمّ العمل به بشكل فعّال أكثر، لكنّ الذكاء الاصطناعيّ سيمثّل نقلة نوعيّة إلى أبعد من ذلك.
ويتمّ تدخّل الذكاء الاصطناعيّ في تداول الأسهم من خلال طرق عديدة. منها، التداول الكمّيّ وهو استخدم المتداولين خوارزميّات معقّدة لمعالجة كمّيّات ضخمة من المعلومات السوقيّة والتاريخيّة، بهدف تحديد الأنماط والتوجّهات الّتي يمكن استغلالها لتحقيق الأرباح. النوع الثاني هو التداول الخوارزميّ، وهو استخدام خوارزميّات تتّخذ قرارات استنادًا إلى البيانات التاريخيّة، وتستخدم تعلّم الآلة والتعلّم العميق لتحليل اتّجاهات السوق والأخبار الماليّة قبل إجراء الصفقات بكمّيّات صغيرة. النوع الثالث هو التداول عالي التردّد، عندما يتمّ شراء وبيع كمّيّات كبيرة من الأسهم بسرعة. يعتمد هذا النوع من التداول على أجهزة كمبيوتر قويّة يمكنها تحليل عدّة أسواق في الوقت نفسه وإجراء ملايين الصفقات في بضع ثوان. النوع الأخير والمستخدم كثيرًا من المتداولين "الصغار" هو التداول بالتحكيم "أربيتراج"، وذلك النوع يستغلّ الفروقات في السوق من خلال شراء أصل في سوق واحد وبيعه بسعر أعلى في سوق مختلف. لأنّ أدوات التداول بالذكاء الاصطناعيّ يمكنها مراقبة عدّة أسواق في نفس الوقت، يمكنها بسرعة اكتشاف القيم المتفاوتة عبر الأسواق وتمكين المستثمرين من الاستفادة من هذه الاختلالات وتحقيق أرباح صغيرة.
عند الحديث عن الأرباح والمكاسب، فإنّ التجّار الصغار ليسوا في العادة المستفيد الأكبر من تلك التكنولوجيا. ومن البنوك العالميّة الكبيرة الّتي تستخدم خوارزميّات الذكاء الاصطناعيّ في التداول أمثلة كثيرة منها "غولدمان ساكس" لتحسين الاستراتيجيّات وتحسين تنفيذ العمليّات و"سيتي جروب" لتحليل الأنماط والمعلومات التاريخيّة و"جي بي مورغان" لتحليل السوق وإدارة المخاطرة و"مورغان ستانلي" لتحليل البيانات وزيادة الفاعليّة و"دويتشه بانك" لتطوير استراتيجيّات تداول جديدة وأخيرًا "يو بي إس" لدعم اتّخاذ القرارات. وتلك البنوك بالمناسبة تعدّ في قائمة أكبر 10 بنوك في العالم، ويعدّ "سيتي بانك" من أكبر البنوك الّتي تحصل على إيرادات من التداول بمبالغ تقدّر بـ 5.5 مليار دولار أميركيّ سنويًّا!
"جلّ من لا يسهو"
على الرغم من أنّ الذكاء الاصطناعيّ يقدّم نتائج مذهلة ومرعبة أحيانًا خاصّة في الأسواق الماليّة، إلّا أنّ الأمر لا يخلو من الأخطاء. بالنسبة إلى دانيال شايفر، المدير التنفيذيّ لشركة "سيليكت فينتاج إل إن سي" وهي شركة تداول عملاقة توظّف حوالي 2500 موظّف في 39 دولة، وتعمل على حجم تداولات تقدّر 3 مليارات دولار بشكل يوميّ وروتينيّ، فإنّ تدخّل الذكاء الاصطناعيّ ليس بهذه البساطة. المدير التنفيذيّ الّتي تلقى دراسته الجامعيّة في كندا يشير في مقال في مجلّة فوربس إلى مجموعة من التحدّيات الّتي تواجه الذكاء الاصطناعيّ. ويتساءل الكاتب إذا كان القرار صحيحًا للاعتماد بشكل كلّيّ على تلك الخوارزميّات فيما يخصّ الأمور الماليّة خاصّة عندما تكون الأرقام بالملايين والمليارات.
يشير شليفر إلى مقالة أخرى تحت عنوان "لماذا سينقذ الذكاء الاجتماعيّ العالم" يناقش فيها الكاتب مارك أنديرسين مفهومًا بسيطًا وهو أنّ الرعب والفزع من أنّ الذكاء الاصطناعيّ سيسيطر على العالم هو شيء مبالغ فيه. ويذهب الكاتب إلى أنّ الذكاء الاصطناعيّ مصنوع بشكل أساسيّ من مدخلات ومعالجة ومخرجات؛ وبالتّالي ليس لديه القدرة على تطوير "رغبة" للسيطرة على العالم.
وبالرغم من اتّفاق شليفر مع أنديرسين في هذا التحليل، إلّا أنّ الأمر، ولو بشكل قليل، أعقد من ذلك. الأسواق بشكل عامّ متقلّبة، وقد تكون متقلّبة بشكل كبير. تلك التقلّبات قد تمثّل فرصًا حقيقيّة لكثير من المتداولين لتحقيق أرباح. ويحتاج الأمر إلى فهم عميق للسوق للتعامل مع تلك التقلّبات، فهم إنسانيّ بشكل خاصّ. وفي أحيان كثيرة عند حدوث تلك التقلّبات الحقيقيّة السريعة، فإنّ المشاكل لدى الخوارزميّات تتعقّد وتزداد.
من المشكلات الأخرى فيما يتعلّق بالخوارزميّات هو أنّ الروبوتات أو الخوارزميّات لا تحتاج لأن تكون شبيهة بشكل كبير بالبشر ومستقلّة وواعية، أو حتّى شرّيرة، لتكون مؤذية بالنسبة لنا. فيما يتعلّق بأسواق الأسهم والتداول فإنّ اتّخاذ القرارات يشكّل جزءًا أساسيًّا من العمليّة، هنا يشير شليبفر أنّ الروبوتات ستتطوّر وتصل إلى مرحلة معقّدة لا يمكن من خلالها تفسير قراراتها أو الدوافع خلف قراراتها أو لماذا تمّ اتّخاذ ذلك القرار.
يشير الكثير من المطوّرين في "سيليكون فالي" إنّ النماذج الكبيرة للّغة Large Language Models لا يمكن تفسير لماذا تقول ما تقوله أو الوقوف وراء الأسباب الّتي دعت تلك النماذج للحديث بهذا الشكل. وبالرغم من أنّ المخرجات، وهي الكلام في هذه الحالة، يتكوّن من مدخلات فقط يبقى السؤال المهمّ هو من يتلقّى اللوم أو يتحمّل المسؤوليّة عن القرار السيّء؟ إذًا، إذا عجز الإنسان عن تفسير دوافع الآلة الّتي برمجها فمن سيتلقّى اللوم عند حصول الأخطاء؟
هنا، لدينا شيئان أساسيّان متعلّقان باتّخاذ القرارات. الأوّل هو القرار الصادر عن البشر والقرار الصادر عن الكمبيوتر والّذي، نظريًّا، يجب أن تتوقّع أخطائه عن طرق فهم طريقة عمله ودوافعه.
يشير شايفر إلى أنّ شركته توظّف أكثر من 2000 متداول. هناك الأمر بسيط، لا تتدخّل الخوارزميّات باتّخاذ القرارات، فإن خسر أحد المتداولين في صفقة ما سيتمّ محاسبته. وفي أحد الأمثلة الواضحة على الأخطاء ما حصل مع شركة "نايت" الّتي كانت تعدّ أكبر شركة لتداول الأسهم في الولايات المتّحدة. عانت الشركة في عام 2012 من خسارة تقدّر بـ 440 مليون دولار في أقلّ من ساعة؛ بسبب خلل "جليتش" في الخوارزميّة. الشركة كادت أن تختفي عن الوجود بسبب تلك الأزمة. في ذلك الوقت عملت الخوارزميّة "الجديدة" في وقتها على شراء 150 سهمًا مختلفًا عند افتتاح جلسة نيويورك بمبلغ 7 مليارات دولار، ليتّضح لاحقًا أنّ هناك خللًا في تلك الخوارزميّة.
مثال آخر على فشل الخوارزميّة كان سقوط مؤشّر "داو جونز" الصناعيّ في عام 2010 عندما خسر أكثر من ألف نقطة في يوم واحد. وبالرغم من أنّ تحقيق هيئة الأوراق الماليّة خلص إلى أنّ هناك اشتراكًا لكثير من خوارزميّات التداول في العمليّة، وحتّى يومنا هذا لم يحدّد المنظّمون السبب الرئيسيّ للسقوط.
إذًا، ماذا يحدث حين نطبّق الذكاء الاصطناعيّ على عمليّة اتّخاذ القرارات، وتكون تلك القرارات خاطئة، ولا يكون لدينا أدنى فكرة عن كيفيّة اتّخاذ الخوارزميّة لهذا القرار؟ لا يمكن للأسواق الماليّة أن تعمل بدون أن يتحمّل أحدهم المسؤوليّة، ويبقى سؤال "كيف" و"من" من الأسئلة الأساسيّة الّتي تنظّم عمل هذا السوق.
تزداد تلك المشكلة تعقيدًا مؤخّرًا مع تطوّر الخوارزميّات وارتفاع اعتماد المتداولين على تلك الخوارزميّات، إذ يشكّل التداول باستخدام الذكاء الاصطناعيّ 60% - 75% في الولايات المتّحدة. وتمّت الإشارة إلى تلك النقطة في تقرير عن البنك المركزيّ البريطانيّ في تشرين الأوّل/ديسمبر الماضي، حين صرّح محافظ البنك المركزيّ البريطانيّ أندرو بايلي عن استخدام الذكاء الاصطناعيّ "كلّنا، الّذين استخدمناه، تعرّضنا لتجارب تشبه الهلوسات، وتخطر في ذهنك أسئلة مثل ما الّذي حصل بحقّ هنا؟"
لا شكّ أنّ الشركات الكبيرة والعملاقة تعتمد بشكل كبير مؤخّرًا على تلك الخوارزميّات. ولكن تبقى أسئلة كثيرة تتعلّق بالذكاء الاصطناعيّ والمسؤوليّات المرتبطة به، مثل حقوق الملكيّة الفكريّة المسؤوليّة القانونيّة في حالة اتّخاذ القرارات الخاطئة. ويشير شليبفر إلى أنّ المستقبل يجب أن يعتمد على نظام متوازن أكثر حيث يتمّ استغلال التكنولوجيا بأقصى درجة، وفي نفس الوقت الاحتفاظ بالدور الإنسانيّ، والّذي يفتح المجال أمام تحمّل المسؤوليّة. وحسب شليبفر "سيظلّ التداول الحقيقيّ دائمًا حكرًا على المتداولين الجيّدين".
التعليقات