بينما تغلي الساحة الدولية بتوترات اقتصادية وتجارية متصاعدة، بدأت أوروبا تلمس تحولًا غير مسبوق في موقعها داخل النظام المالي العالمي. فمع تراجع الثقة بالدولار نتيجة سياسات إدارة ترامب، وبخاصة الرسوم الجمركية والمواقف العدائية من الشركاء التجاريين، بدأت موجة من رؤوس الأموال تتحرّك ببطء ولكن بثبات نحو القارة العجوز، التي لم تكن حتى سنوات قريبة مضت سوى مكمّل اقتصادي للهيمنة المالية الأميركية.
هذا التحول المفاجئ يعيد إلى الواجهة مصطلحًا ظل لسنوات حكرًا على واشنطن: "الامتياز الباهظ"، وهو توصيف يعود إلى الستينيات، استخدمه حينها وزير المالية الفرنسي فاليري جيسكار ديستان، في إشارة إلى قدرة الولايات المتحدة على الاقتراض من العالم بأسعار زهيدة وبشروط مريحة، فقط لأن العالم كله يثق بدولارها وسنداتها. اليوم، يبدو أن هذا "الامتياز" بدأ يتآكل في أميركا ويُعاد تدويره لصالح أوروبا.
ووفق تحليل نشرته وكالة "رويترز"، فإن علامات هذا التحوّل تتجلّى في أداء السندات الأوروبية، التي باتت تجذب المستثمرين العالميين بشكل متزايد، خصوصًا بعد الإعلان عن خطط إنفاق ضخمة في دول مثل ألمانيا وفرنسا. وبرغم الحجم الهائل لهذه الحزم، التي تتضمن إنفاقًا دفاعيًا واستثماريًا يفوق 800 مليار يورو، لم ترتفع تكاليف الاقتراض كما كان متوقعًا. بل على العكس، ظلت عوائد السندات منخفضة، بما يعكس ثقة الأسواق بالاستقرار الأوروبي النسبي.
ومن أبرز المستفيدين من هذه التحوّلات ألمانيا، التي قرّرت إطلاق حزمة تحفيز غير مسبوقة لمواجهة تبعات الركود الصناعي، تشمل استثمارات في البنية التحتية، والتحول الرقمي، والجيش، والطاقات المتجددة. فرنسا من جهتها، أعلنت عن خطط مماثلة، مستفيدة من الفوائد المتدنية وقدرة السوق على استيعاب ديون جديدة دون إحداث صدمة.
وما يدفع هذا التحوّل أكثر، هو الانكفاء النسبي في شهية المستثمرين الأجانب تجاه السندات الأميركية، خصوصًا في ظل سياسات ترامب الاقتصادية المتهورة، والمناخ السياسي المضطرب، وإشارات متكررة عن إمكانية تخلف أميركا عن سداد ديونها أو استخدام الدولار كأداة ابتزاز جيوسياسي. ومع أن الدولار لا يزال العملة المهيمنة، إلا أن بعض المؤشرات تظهر بداية ضعف في موقعه الاحتكاري.
ويُقدر محللون في مؤسسات مالية أوروبية أن نسبة من رؤوس الأموال الأجنبية التي كانت تستقر في الأسهم الأميركية – والتي تتجاوز 14 تريليون دولار – بدأت بالفعل بالخروج التدريجي. وتذهب هذه الأموال نحو استثمارات أكثر تحفظًا في أوروبا، وخاصة في السندات الألمانية والهولندية والفرنسية، والتي كانت في الماضي تعاني لجذب المستثمرين في ظل الفائدة المنخفضة أو حتى السلبية.
التعليقات