27/12/2020 - 22:04

عودة المدينة الدّولة... - الجزء الأوّل

في ما يلي ترجمة بتصرّف، خاصة بموقع "عرب 48"، لمقالِ مدير مركز تحليل وسائل التواصل الاجتماعي في مركز الأبحاث "ديموس" ومقرّه لندن، جيمي بارتلت، وهو صحافي مؤلّف يكتب في العديد من الموضوعات، وأصدر آخر كتاب له عام 2017 بعنوان "راديكاليون

عودة المدينة الدّولة... - الجزء الأوّل

توضيحية (أ ب)

في ما يلي ترجمة بتصرّف، خاصة بموقع "عرب 48"، لمقالِ مدير مركز تحليل وسائل التواصل الاجتماعي في مركز الأبحاث "ديموس" ومقرّه لندن، جيمي بارتلت، وهو صحافي مؤلّف يكتب في العديد من الموضوعات، وأصدر آخر كتاب له عام 2017 بعنوان "راديكاليون يطاردون اليوتوبيا".

وينشر "عرب 48" المقالة المطوّلة في جزأين هذا أوّلهما.


لو وُلدتَ قبل 1500 عام في جنوبي أوروبا، كنت ستمتلك قناعة راسخة بأن الإمبراطورية الرومانية ستبقى إلى أبد الدّهر، فرغم كلّ ما كان يحدث حينها، كانت قد بلغت ألف عام من العمر. ومع ذلك، وفي أعقاب فترة من الانحدارين العسكري والاقتصادي، تداعت الإمبراطورية لتندثر عام 476 ميلادي. ولا شكّ أن حدثًا كهذا كان ضربًا من ضروب المستحيل في مخيّلة سكان الإمبراطورية، تمامًا كما لا بدّ أن شعر أولئك الذين عاشوا انهيار الحكم الفرعوني أو العالم المسيحي أو النظام القديم.

وليس إيماننا اليوم بأن نموذجَ عيشنا في "الدّول" حتميّ وأبدي، إلّا محض وهم. لا شكّ في أن الديمقراطيات تختلف عن الديكتاتوريات، لكن العالم برمّته مكوّن من دول قومية. وذلك يتلخص بمزيج بين "الأمة" (مجموعة الأشخاص الذين يتشاركون سمات وخصائص مشابهة) و"الدّولة" (نظام سياسي منظّم، يملك سيادة على مساحة محددة، مع حدود متفق عليها مع دول قومية أخرى). وليس من الوارد اليوم أن نتخيّل عالمًا بلا دول. إذ أن إحساسنا بهويّاتنا، وانتماءاتنا، وحقوقنا وواجبتنا، يرتبط بشكل وثيق بمفهوم الدّولة.

وهو أمر غريب خاصّة وأنّه لم يمض زمن طويل على نشوء الدّول، فحتى منتصف القرن التاسع عشر، كان العالم عبارة عن مجموعة من الإمبراطوريات الممتدة، والأراضي غير المُطالب بها، ودول المدن والإمارات، والتي أُتيح للمسافرين عبورها دون حواجز ولا جوازات سفر، ومع التعقيد الذي جلبه التصنيع على المجتمعات البشرية، نشأت بيروقراطيات مركزية كبيرة لإدارتها، ونمت الحكومات الأكثر قدرة على توحيد أقاليمها، وتخزين سجّلاتها، وتنسيق العمل بين مؤسساتها المختلفة كشنّ الحروب مثلًا، لتصبح أكثر قوّة مقابل جاراتها، وساهمت الثّورات، ولا سيما الأميركية (عام 1776) والفرنسية (عام 1789)، في خلق فكرة "المصلحة الوطنية" الشائعة اليوم، بينما وحّدت الاتصالات المحسّنة، اللغة والثقافة والهوية. ونشر التوسع الإمبريالي، نموذج الدولة القومية في أنحاء العالم.

ومع حلول منتصف القرن الـ20، أصبح هذا النموذج السائد في العالم، وهناك 193 دولة قومية تحكم العالم اليوم، ولكن يتنامى عدم تناغم الدّولة القوميّة المصحوبة بحدودها، وحكوماتها المركزية، وشعوبها وسلطتها السيادية، مع العالم. وكما لاحظ كارل ماركس، فإذا ما غيّرت نمط الإنتاج المهيمن الذي يشكّل أساس المجتمع، فلا بدّ أن يتغيّر هيكله السياسي والاجتماعي أيضًا.

أصبحت الدول النموذج السائد في العالم (توضيحية - pixabay)

ليست الحجّة المضادة للدّولة القومية بالجديدة، فقد تنبأ الكثيرون بزوالها الوشيك قبل 20 عاما، إذ قال المستقبليون إن العولمة قوّضت قدرة الدّول القومية على فرض التغيير، فقد أتاحت المجال لمغادرة الشركات والمال، وحتى الأشخاص للدول، بسهولة. كما بدا الإنترنت الشيّق حديث النشأة في حينها، وكأنه يبشر بمستقبل بدون حدود، وحرّ، وأقل ارتكازا على الهويّة. وبدت قضايا مثل التغيّر المناخي، وحوكمة الإنترنت، والسّيطرة على الإجرام الدّولي، أعظم من أن تتمكن الدولة القومية من معالجتها بمفردها، فهي أصغر من التعامل مع التحديّات العالمية، ناهيك عن كونها مثقلة بالهموم المحليّة.

وسرعان ما لاحظ الناخبون في الدول الديمقراطية هذه المعضلة، وتوقفوا عن عناء التصويت، مما زاد الطين بلّة. وفي عام 1995، تنبأ كتابان بعنوان "نهاية الدولة القومية"، الأول كتبه الدبلوماسي الفرنسي السابق، جان ماري جيهينو، والآخر بقلم المنظّر التنظيمي الياباني، كينيتشي أوماي، بأن السلطة ستتجه إلى هيئات متعددة الجنسيات مثل الاتحاد الأوروبي أو الأمم المتحدة، أو ستعود إلى سلطات المناطق والمدن.

بالغ المتنبئون حينها بإعلانهم وفاة الدّولة القومية، بل وخبت نظرية انتهاء الدّولة القومية بحد ذاتها مع مطلع الألفية. ولكنها تعود اليوم، وقد تتحقّق هذه المرّة.

لم يكن سوى بضعة عشرات الملايين من الناس متصلين بالإنترنت عندما أُعلن موت الدّولة القومية آخر مرّة في عام 1995، ولكّن هذا العدد ازداد في عام 2015 ليقارب الـ3 مليار إنسان، بينما من المتوقع أن يفوق عدد المتصلين بالإنترنت في عام 2020 الـ4 مليار شخص مع أكثر من 20 مليار جهاز متّصل بالإنترنت. ولا يبدو أن التكنولوجيا الرقمية تكنّ حبًا للدول القومية، وذلك ما لخّصه جون بيري بارلو في "إعلان استقلال الفضاء الإلكتروني" الصادر عام 1996، بقوله إن الإنترنت تكنولوجيا بُنيت على مبادئ تحرّرية؛ أي الحريّة من الرقابة، واللامركزيّة، وانعدام الحدود. والآن أصبح الإنترنت شائع الانتشار.

وهذا يضرّ بالدّولة القومية من جميع النواحي، فقد أصبح من الممكن اليوم مثلًا، استهداف خدمة الصحة الوطنية البريطانية ببرامج فدية خبيثة صُنعت في كوريا الشمالية، ولا يوجد سوى عدد قليل من الآليات لإيقافها أو تقديم الجناة إلى العدالة. وساعدت تكنولوجيا التطبيقات مثل "أوبر" و"ديليفيرو"، على إحداث طفرة مفاجئة في اقتصاد الوظائف المؤقتة، والتي يُقدر أن تكلف الحكومة البريطانية 3.5 مليار جنيه إسترليني سنويًا بحلول عام 2021. وهناك بالفعل ملايين الأشخاص الذين يستخدمون تقنيات العملات الرقمية مثل الـ"بيتكوين" والـ"بلوك تشين"، المصممة صراحةً لمقارعة وتحدّي المعروض النقدي من البنوك المركزية والحكومات، والتي يستمر عددها في النمو، كما أنها تغرس فينا قيما جديدة، وهي قيم ليست وطنية بطابعها في الغالب، إذ أصبح عدد متزايد من الناس يعتبرون أنفسهم مواطنين "عالميين".

(توضيحية - pixabay)

وليس هذا أسوأ ما في الأمر، ففي 17 أيلول/ سبتمبر 2016، غرّد المرشح الرئاسي في حينه، دونالد ترامب، على "تويتر" قائلًا إن "أمّة بلا حدود هي ليست أمّة البتّة. سنجعل أميركا آمنة مجددًا!"، وأفضى الصخب الاحتجاجي على تصريحه إلى التقليل من حقيقة أن ترامب كان محقًا في الشّطر الأول من تغريدته على الأقل؛ فالحدود تحدّد الدّاخل والخارج، وتميّز بين المواطن وغير المواطن، ومن يحق له أن يحصل على حصّة من الوعاء المشترك ومن لا يملك حقًا كهذا. وإذا ما عجزت الدّولة عن حماية حدودها، فإنّها تتوقف عن الوجود من حيث المعنى، سواء كمحط اهتمام أو كأسطورة متفق عليها.

وكانت تغريدة ترامب موجّهة ضد عرض المستشارة الألمانية، أنجيلا ميركل، قبل عام على ذلك، بتقديم اللجوء للسوريين. وأثارت حركة تنقل الناس عبر أوروبا، والتي أفضت إلى تلقي دول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي 1.2 مليون طلب لجوء لأول مرة في عام 2015، أزمة سياسية وإنسانية لا تزال تداعياتها تتكشف حتى الآن. ولا شكّ في أنها ساهمت في قرار بريطانيا الانسحاب من الاتحاد الأوروبي، لكن هؤلاء الـ1.2 مليون لاجئ ومهاجر، لا يجسدون سوى عدد هزيل مقارنة بما هو قادم. وعلى الرغم من صعوبة الحصول على أرقام دقيقة، ولكن وفقًا لبعض التقديرات، يمكن أن يتحول نحو 200 مليون شخص إلى لاجئين بسبب تغير المناخ بحلول منتصف القرن. وفي حين يصارع الاتحاد الأوروبي اليوم للسيطرة على حدوده مع تنقل 1.2 مليون شخص فيه فقط، فماذا سيحدث إذا فعل 200 مليون شخص الأمر ذاته؟ إن الدرس المستفاد من التاريخ، أي التاريخ الإنساني الحقيقي ذو النظرة بعيدة المدى، هو أن الناس يتنقلون، وعندما يفعلون ذلك، فمن الصعب إيقافهم.

وتتمثل النقطة الجّوهرية في هذه المشكلة بأنّ الدّول القومية تعتمد على فرض سيطرتها. وإذا لم تتحكم هذه الدّول بالمعلومات، والجريمة، والأعمال التجارية، والحدود، ومعروض المال، فإنها ستتوقف عن تقديم مطالب مواطنيها. وفي نهاية المطاف، ما الدول القومية سوى أسطورة متّفق عليها مفادها التخلّي عن بعض الحريّات من أجل ضمان حريّات أخرى. لكّن إذا ما أصبحت هذه المبادلة غير ناجعة، وأصبحنا لا نتفق على الأسطورة، فإن الدولة تفقد سلطتها علينا.

ما الذي يُمكن أن يستبدل الدولة إذن؟

تبدو الدولة المدينة، وبشكل متزايد، أفضل منافس للدولة القومية. وهي عبارة عن المدن التي تملك سلطة سيادية مستقلة كالدّول، مثل موناكو أو سنغافورة. واحتفت عدّة مجلّات وصحف مرموقة بالدولة المدينة في الأعوام القليلة الماضية، مثل "فوربز" التي نشرت مقالا بعنوان "عصر جديد للدولة المدنية؟" في عام 2010، و"كوارتز" التي عنونت مقالها المشابه في 2013 بـ"الدول لم تعد تقود العولمة، بل المدن"، و"ذي بوسطن غلوب" في مقال "الدولة المدينة تعود" عام 2015، وفي مجلّة "هاو وي غيت تو نيكست؟" الممولة من قبل "مؤسسة غيتس"، والتي نشرت مقالًا عام 2016، بعنوان "انبعاث الدّولة المدينة".

بات الإنترنت متوفرا للمليارات (توضيحية - pixabay)

والاتجاهات التي تعيق الدولة القومية هي ذاتها تدعّم الدولة المدينة، ففي عالم مترابط جدًا يبدو كأنّه بلا حدود، تُعد المدن مراكز للتجارة، والنمو، والابتكارية، والتكنولوجيا والمال. ووفقًا للباحث، بروس كاتز من مؤسسة "بروكينغس" في واشنطن العاصمة، والمؤلف الشريك مع جيرمي نوواك للكتاب القادم "المحليّة الجديدة: كيف يُمكن للمدن أن تزدهر في عصر الشعبوية"، تُعد الجودة شبه المحورية التي تتمتع بها المدن الكبيرة، ذات قيمة خاصة في الاقتصاد المعاصر، إذ يقول: "يحدث الابتكار كنتيجة للتعاون، وهذا يحتاج إلى المجاورة. فهو يتطلب نظاما بيئيا كثيفا، وبالتالي فإن الاتصال المفرط يعزز المركزية". ناهيك عن أن المدن تتمتع بالثقل الديموغرافي، ففي عام 2014، أصبحت غالبية البشر تعيش في المدن، لأول مرة في التاريخ.

ويمنح ذلك المدن قوّة سياسية أعتى من أي وقت مضى، وهي حريصة بشكل متزايد على استعراضها، ففي قضيّة التغير المناخي على السبيل المثال، والتي فشلت الدول القومية في معالجتها فشلًا ذريعًا، تسلّمت المدن زمام الأمور. ومنذ عام 2006، جمعت مبادرة "سي 40" أكثر من 60 مدينة حول العالم لتشجيع الشراكة وتعزيز التكنولوجيا الرامية إلى تقليل الانبعاثات الكربونية، بمجهود أعمق بكثير من الاتفاقات الدولية في هذا الشأن. وفي الولايات المتحدة حيث يبدو أن الحكومة الفدرالية تخلّت عن قضية تغير المناخ، أصبحت قيادة هذا الملف تحت تصرف المدن.

ويبدو تحوّل السلطة هذا جليًا في الثقل السياسي الذي يمثّله رؤساء بلديّات مدن كبرى؛ فيكفينا أن ننظر مثلًا إلى بيل دي بلاسيو في نيويورك، وصديق خان في لندن، وفرجينيا راجي في روما، وآدا كولاو في برشلونة. وتختبر المدن التي تتمتع بتعددية فائقة مثل إنديانابوليس وكوبنهاجن، أساليب لاستخدام أصولها المادية والاقتصادية والاجتماعية في التمويل الذاتي للاستثمار على مستوى المدينة.

ووفقًا لكاتز، فإن العالم يذهب نحو تخطي الدول القومية. إذ أخبرني أننا "ندخل عصرا أصبحت تملك فيه المدن أشكالًا جديدة من السّلطة. إذ تمتلك فرصًا هائلة للاستفادة من مزاياها الاقتصادية والمالية لرفع مكانتها وإحداث التغيير".

(توضيحية - pixabay)

لطالما اعتدت النظر إلى السلطة وفق مشروطية ثنائية: إمّا أن تتملك السّلطة أو لا تملكها. ولكن بالنسبة لكاتز، علينا أن نعيد النّظر في ذلك لأنّ هناك مساحة وسطيّة لا تكون المدن فيها مستقلّة تمامًا عن دولها القومية، ولكنها ليست خاضعة لها تمامًا أيضًا، إذ يؤكّد أن "المدن لا تخضع للدول القومية، فهي عبارة عن شبكات راسخة من المؤسسات والفاعلين المساهمين في إنتاج الاقتصاد. والسّلطة في القرن الـ21 هي مُلك حلّالي المشاكل، فالحكومات الوطنية تدخل في الجدالات وغالبا ما تتردد باتخاذ الإجراءات. ولكن المدن تفعل، المدن تنفذ. ويبدو أن السلطة باتت تأتي وبشكل متزايد من المدن وإلى الأعلى، وليست مُسقطة من الدول القومية".

التعليقات