أطلقت الولايات المتحدة وحلفاؤها في عملية عاصفة الصحراء، التي شُنَّت عام 1991 لتحرير الكويت من الاحتلال العراقي، العنان لقوة برية وجوية وبحرية هائلة. انتهت المهمّة في غضون أسابيع. كان التناقض بين الحرب المنهكة وغير الناجحة التي خاضتها الولايات المتحدة في فيتنام والحرب التي خاضها الاتحاد السوفييتي في أفغانستان واضحًا جدًّا، بل إن النّصر السريع أدى إلى الحديث عن عصر جديد من الحرب —وإلى ثورةٍ في الشؤون العسكرية. كانت النظرية، من وقتها فصاعدًا، هي أن الأعداء سوف يُهزمون من خلال السرعة والمناورة، مع توفير معلومات استخباراتية في الوقت الفعلي بواسطة أجهزة استشعار ذكية توجه الهجمات الفورية باستخدام الأسلحة الذكية.
ولم تدم هذه الآمال طويلًا، إذ لم تتميز حملات مكافحة التمرد التي شنها الغرب في العقود الأولى من هذا القرن بسرعتها، والتي أطلق عليها فيما بعد اسم «الحروب الأبديّة». كانت الحملة العسكرية التي شنّتها واشنطن في أفغانستان هي الأطول في تاريخ الولايات المتحدة، وفي النهاية كانت غير ناجحة: فعلى الرغم من طرد طالبان في بداية الغزو الأميركي، عادت الحركة في نهاية المطاف. ولا تقتصر هذه المشكلة على الولايات المتحدة وحلفائها. إذ شنت روسيا في فبراير/شباط 2022، غزوًا واسع النطاق لأوكرانيا، وكان من المفترض أن تجتاح البلاد في غضون أيام. أمّا الآن، حتى لو أمكن التوصل إلى وقف لإطلاق النار، فإن الحرب ستكون قد استمرت لأكثر من ثلاث سنوات، سيطر عليها خلالها القتال الطاحن والاستنزافي بدلًا من العمليات الجريئة والمغامِرة. وعلى نحو مماثل، عندما شنت إسرائيل غزوها لغزة ردًّا على هجوم حماس في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023 واحتجازها الرهائن، حثّ الرئيس الأميركي جو بايدن على أن تكون العملية الإسرائيلية «سريعة وحاسمة وساحقة». إلا إن النزاع استمرَ لمدة 15 شهرًا، وامتد إلى جبهات أخرى في لبنان وسوريا واليمن، قبل التوصل إلى وقف إطلاق نار هشٍّ في يناير/كانون الثاني 2025. وبحلول منتصف شهر مارس/آذار، اندلعت الحرب من جديد. وهذا يغفل العديد من النّزاعات في أفريقيا، بما في ذلك في السّودان ومنطقة الساحل، التي لا نهاية لها في الأفق.
بدأت فكرة أن الهجمات المفاجئة قد تُفضي إلى انتصارات حاسمة تترسخ في التفكير العسكري خلال القرن التاسع عشر. بيد أنّ القوات التي تتولى هذه العمليات أظهرت مرارا وتكرارا مدى صعوبة إنهاء الحرب في وقت مبكر ومرضي. كان القادة العسكريون الأوروبيون واثقين من أن الحرب التي بدأت في صيف عام 1914 يمكن أن «تنتهي بحلول عيد الميلاد»، وهي العبارة التي لا تزال تُستخدم كلما بدا الجنرالات متفائلين للغاية، غير أن القتال قد استمر حتى نوفمبر/تشرين الثاني 1918، وانتهى بهجمات سريعة ولكن فقط بعد سنوات من حرب الخنادق المدمرة على طول خطوط المواجهة الثابتة تقريبًا. اجتاحت ألمانيا في عام 1940 معظم أوروبا الغربية في غضون أسابيع من خلال الحرب الخاطفة (Blitzkrieg)، حيث جمعت بين القوات المُدرّعة والطيران الحربي. لكنها لم تستطع إتمام المهمة، وبعد تقدم سريع أولي ضد الاتحاد السوفييتي في عام 1941، وجدت نفسها منخرطة في حرب وحشية أسفرت عن خسائر فادحة على كلا الجانبين، ولم تنتهِ إلا بعد ما يقارب أربع سنوات بانهيار الرايخ الثالث انهيارًا تامًا. وبالمثل، فإن قرار القيادة العسكرية اليابانية بشنّ هجوم مفاجئ على الولايات المتحدة في ديسمبر 1941 انتهى بهزيمة كارثية للإمبراطورية اليابانية في آب/أغسطس 1945. وفي كلتا الحربين العالميتين، لم يكن مفتاح النصر يكمن في البراعة العسكرية بقدر ما كان في الجلَد الذي لا يُقهر.
ورغم هذا التاريخ الطويل من الصراعات المُمتدة، فإن الإستراتيجيين العسكريين يواصلون تشكيل تفكيرهم وفق تصوّر الحروب القصيرة، التي يُفترض أن تُحسم فيها الأمور خلال الأيام، بل الساعات الأولى من القتال. وفقًا لهذا النموذج، لا يزال بالإمكان وضع إستراتيجيات من شأنها أن تترك العدو مندهشًا من سرعة الهجوم واتجاه ووحشيته. ومع وجود احتمال دائم بأن تجر الولايات المتحدة إلى حرب مع الصين بسبب تايوان، فإن جدوى مثل هذه الإستراتيجيات أصبحت قضية ملحة: فهل تستطيع الصين الاستيلاء على الجزيرة بسرعة، باستخدام القوة الخاطفة، أم أن تايوان، بدعم من الولايات المتحدة، ستكون قادرة على وقف مثل هذا الهجوم منذ بدايته؟
من الواضح أنه في ظل التوترات المتزايدة بين الولايات المتحدة ومجموعة متنوعة من الخصوم، وجود اختلال خطير في التخطيط الدفاعي. فاعترافًا بالنزعة المتأصلة في الحروب نحو الاستطالة، بدأ بعض الاستراتيجيين في التحذير من أخطار الوقوع في مغالطة «الحرب القصيرة»؛ إذ إن التركيز على هذا النمط من الحروب يدفع بالمخططين العسكريين إلى الاعتماد المفرط على خطط المعركة الأولية، التي قد لا تتحقق على أرض الواقع—مع ما يترتب على ذلك من عواقب وخيمة. ويرى أندرو كريبينيفيتش أن الحرب الطويلة الأمد بين الولايات المتحدة والصين سوف «تتضمن أنماطًا من القتال لا يمتلك الطرفان خبرة كبيرة بها»، وأنها قد تشكل «الاختبار العسكري الحاسم في عصرنا». كما إن الفشل في الاستعداد للحروب الطويلة يخلق يُنتج مواطن ضعف من نوع آخر؛ فالانتقال من حرب قصيرة إلى حرب طويلة يتطلب من الدول أن تفرض متطلبات مختلفة على جيوشها، وعلى مجتمعاتها ككل. كما سيتعيّن عليها إعادة تقييم أهدافها، وما هي مستعدة لتقديمه من أجل تحقيق تلك الأهداف.
وبمجرد أن يقبل المخططون العسكريون أن أي حرب كبرى معاصرة قد لا تنتهي بسرعة، فسوف يُطلب منهم تبني عقلية مختلفة؛ فالحروب القصيرة تُخاض باستخدام أي موارد متاحة في اللحظة الراهنة، أمّا الحروب الطويلة فتتطلب تطوير قدرات تتماشى مع الضرورات التشغيلية المتغيرة، كما يتضح من التحول المستمر في حرب الطائرات المُسيَّرة في أوكرانيا. وقد تتسبب الحروب القصيرة باضطرابات مؤقتة فقط في اقتصاد الدولة ومجتمعها، ولا تستدعي خطوط إمداد موسعة؛ في المقابل، تتطلب الحروب الطويلة إستراتيجيات للحفاظ على الدعم الشعبي، واستمرار عمل الاقتصاد، وتوفير وسائل آمنة لإعادة التسليح، وإعادة التزوّد، وتعويض الخسائر في صفوف القوات. وتتطلب الحروب الطويلة أيضًا التكيف والتطور المستمر: فكلما طال أمد النّزاع، زاد الضغط من أجل الابتكارات في التكتيكات والتقنيات التي قد تؤدي إلى تحقيق تقدم كبير. وحتى بالنسبة لقوى عظمى، فإن الفشل في الاستعداد لمواجهة هذه التحديات ومن ثم عدم القدرة على مواجهتها، قد يكون كارثيًا.

ولكن من العادل أيضًا أن نتساءل عن مدى واقعية التخطيط لحروب لا نهاية واضحة لها. فثمة فرق كبير بين الحفاظ على حملة طويلة ضد التمرد، وبين الاستعداد لصراع ينطوي على خسائر مستمرة وكبيرة في الأرواح والمعدات والذخيرة على مدى زمني ممتد. بالنسبة لإستراتيجيي الدفاع، قد تكون هناك أيضًا عقبات كبيرة أمام هذا النوع من التخطيط: فالجيوش التي يخدمونها قد تفتقر إلى الموارد اللازمة للاستعداد لحرب طويلة. والجواب على هذه المعضلة لا يكمن في الاستعداد لحروب غير محددة المدة، بل في تطوير نظريات للنصر تكون واقعية في أهدافها السياسية ومرنة في سُبُلِ تحقيقها.
مغالطة الحرب القصيرة
إن مزايا الحروب القصيرة —النجاح الفوري بتكلفة معقولة— واضحة للغاية إلى درجة أنه لا يمكن تقديم أي مبرر للدخول عمدًا في حرب طويلة. وعلى النقيض من ذلك، فإن مجرد الاعتراف بإمكانية إطالة أمد الحرب قد يبدو وكأنه يثير الشكوك حول قدرة الجيش على تحقيق الانتصار على الخصم. إذا كان لدى الإستراتيجيين ثقة ضئيلة أو معدومة في إمكانية إبقاء الحرب المحتملة قصيرة الأمد، فربما يكون من الحكمة اتباع السياسة الحكيمة الوحيدة في هذا الصدد، وهي عدم خوضها على الإطلاق. ومع ذلك، بالنسبة لدولة مثل الولايات المتحدة، قد لا يكون من الممكن استبعاد النزاعِ مع قوة عظمى أخرى ذات قوة مماثلة، حتى لو لم يكن النصر السريع مضمونًا. ورغم أن الزّعماء الغربيين لديهم نفور مفهوم من التدخل في الحروب الأهلية، فمن الممكن أيضًا أن تصبح تصرفات عدو دون-الدولة مستمرة وضارة إلى الحد الذي يجعل العمل المباشر للتعامل مع التهديد أمرًا ضروريًا، بغض النظر عن المدة التي قد يستغرقها ذلك.
ولهذا السبب، لا يزال الإستراتيجيون العسكريون يُشكّلون خططهم على أساس حروب قصيرة، حتى عندما لا يمكن استبعاد احتمال نشوب نزاعٍ طويل الأمد. خلال الحرب الباردة، كان السبب الرئيس وراء عدم تخصيص الجانبين موارد واسعة النطاق للتحضير لحرب طويلة هو الافتراض بأن الأسلحة النووية سوف تُستخدم عاجلًا وليس آجلًا. وفي العصر الحالي، لا يزال هذا التهديد قائمًا. ولكن احتمال تحول نزاعٍ بين القوى العظمى إلى شيء أشبه بالحروب العالمية الكارثية التي شهدها القرن الماضي أمر مخيف —مما يزيد من إلحاح الخطط المصممة لتحقيق نصر سريع باستخدام القوات التقليدية.
إن الاستراتيجيات المستخدمة لتنفيذ هذا النمط المثالي من الحرب تركز في المقام الأول على التحرك السريع، مع عنصر المفاجأة وبقوة كافية لإرباك العدو قبل أن يتمكن من تنظيم ردّ فعّال. وغالبًا ما يتم تقييم تقنيات القتال الحديثة بناءً على مدى قدرتها على تحقيق نصر سريع في ميدان المعركة، وليس بناءً على مدى إسهامها في تأمين سلام دائم. خذ على سبيل المثال الذكاء الاصطناعي: فوفقًا للتفكير السائد، فإن تسخير الذكاء الاصطناعي سيُمكّن الجيوش من تحليل أوضاع المعركة، وتحديد الخيارات المتاحة، ثم اختيار هذه الخيارات وتنفيذها في غضون ثوانٍ معدودة. وقد تُتخذ قرارات حيوية قريبًا بسرعة فائقة، إلى درجة أن المسؤولين عنها—فضلًا عن العدو—لن يدركوا بالكاد ما الذي يحدث.
لقد ترسّخت فكرة السرعة إلى درجة أن أجيالًا من القادة العسكريين الأميركيين اعتادوا أن يرتجفوا لمجرد ذكر «حرب استنزاف»، متمسّكين بفكرة المناورة الحاسمة طريقًا لتحقيق انتصارات سريعة. أما المعارك الطويلة المُنهكة من النمط الجاري حاليًا في أوكرانيا—حيث يسعى كل طرف إلى إنهاك قدرات الطرف الآخر، ويُقاس التقدّم فيها بعدد القتلى والمعدات المدمّرة والمخزونات المستنزفة من الذخيرة—فهي ليست فقط محبطة للدول المتحاربة، بل تستنزف وقتًا وموارد هائلة. وفي أوكرانيا، أنفقت كلا الجهتين موارد استثنائية، دون أن تقترب أيٌّ منهما من تحقيق شيء يمكن أن يُشبَّه بالنصر. ولا تُخاض جميع الحروب بهذه الكثافة العالية كما في الحرب الروسية-الأوكرانية، لكن حتى حروب العصابات الطويلة قد تُخلّف آثارًا مرهقة، وتؤدي إلى تصاعد شعور بالعبث، إلى جانب التكاليف المتزايدة.
ورغم أنه من المعروف أن الهجمات المفاجئة الجريئة غالبًا ما تحقق نتائج أقل كثيرًا مما تتعدُ به، وأن بدء الحروب أسهل كثيرًا من إنهائها، فإن الإستراتيجيين ما زالوا يشعرون بالقلق من أن الأعداء المحتملين قد يكونون أكثر ثقة في خططهم الخاصة لتحقيق النصر السريع، وسوف يتصرفون وفقًا لذلك. وهذا ما يُحتّم عليهم التركيز على المرحلة الافتتاحية المرجّحة لأي حرب. قد يفترض البعض، على سبيل المثال، أن الصين لديها إستراتيجية للسيطرة على تايوان تهدف إلى مباغتة بالولايات المتحدة وهي غير مستعدة، مما يُجبر واشنطن على الرد بطرق إما أنها لا تُجدي نفعًا، أو من شأنها أن تُفاقم الوضع سوءًا. استباقًا لهجوم مفاجئ من هذا النوع، كرّس الاستراتيجيون الأميركيون وقتًا طويلًا لتقييم الكيفية التي يمكن بها للولايات المتحدة وحلفائها دعم تايوان في إحباط الخطوات الأولى للهجوم الصيني—كما فعلت أوكرانيا في وجه روسيا في فبراير 2022—ثم لجعل استمرار الصين في تنفيذ عملية معقّدة بعيدًا عن برّها الرئيسي أمرًا بالغ الصعوبة. ولكن حتى هذا السيناريو قد يؤدي بسهولة إلى إطالة أمد النّزاع: فإذا نجحت التحركات المضادة الأولى التي تقوم بها القوات التايوانية وحلفاؤها الغربيون، وانزلقت الصين في مأزق دون أن تنسحب، فإن تايوان والولايات المتحدة ستجدان نفسيهما أمام معضلة التعامل مع وضع تكون فيه قوات صينية موجودة فعليًا على الجزيرة. وكما تعلّمت أوكرانيا، من الممكن أن ينغمس طرف في حرب ممتدة بسبب خطأ في تقدير المخاطر ارتكبه خصمٌ متهوّر.
ولكن هذا لا يعني أن الصراعات المسلحة الحديثة لا تنتهي أبدا بانتصارات سريعة. في يونيو/حزيران 1967، استغرقت إسرائيل أقل من أسبوع لهزيمة تحالف من الدول العربية بشكل حاسم في حرب الأيام الستة، وبعد ثلاث سنوات، عندما تدخلت الهند في حرب بنغلاديش من أجل الاستقلال، استغرقت القوات الهندية 13 يومًا فقط لهزيمة باكستان. أما انتصار المملكة المتحدة على الأرجنتين في حرب الفوكلاند عام 1982، فقد تحقق أيضًا في وقتٍ وجيز نسبيًا. غير أنه، ومنذ نهاية الحرب الباردة، باتت الحروب التي تبدأ بنجاحات أولية ثم تتعثر، أو تفقد الزخم، أو لا تُحقق ما يكفي من الأهداف—فتتحول إلى نزاعاتٍ أشد استعصاءً وتعقيدًا—أكثر عددًا بكثير.

[Kفي الواقع، بالنسبة لبعض أنواع المتحاربين، قد تُشكّل إشكالية الحروب الطويلة ميزة إستراتيجية مهمة. فالمتمردون، والإرهابيون، والثوار، والانفصاليون قد يباشرون حملاتهم وهم يدركون أن تقويض البُنى السلطوية الراسخة يتطلب وقتًا، ويراهنون على أنهم سيتمكنون ببساطة من الصمود لفترة أطول من أعدائهم الأقوى. وقد تدرك جماعة ما، تُوقن بأنها لن تنتصر في مواجهة سريعة، أن فرص نجاحها ستكون أكبر في نضال طويل وشاق، حيث يُنهَك العدو ويخسر معنوياته. ولهذا، خاضت حركات التحرر من الاستعمار في القرن الماضي، ومؤخرًا بعض الجماعات الجهادية، حروبًا استمرت لعقود، لا بسبب قصور في إستراتيجيتها، بل لأنها لم تكن تملك خيارًا آخر. وعند التعرّض لتدخل عسكري من جيش أجنبي قوي، غالبًا ما تكون أفضل إستراتيجية لمثل هذه الجماعات هي ترك العدو يَملّ من صراع غير حاسم، ثم العودة في الوقت المناسب—كما فعلت حركة طالبان في أفغانستان.
وعلى النقيض من ذلك، تميل القوى العظمى إلى افتراض أن تفوقها العسكري الكبير سوف يتغلب بسرعة على خصومها. ويؤدي هذا الإفراط في الثقة إلى فشلها في إدراك حدود القوة العسكرية، فتضع أهدافًا لا يمكن تحقيقها—إن أمكن أصلًا—إلا من خلال نزاعٍ طويل الأمد. والمشكلة الأكبر أن التركيز على النتائج الفورية في ساحة المعركة قد يُفضي إلى إغفال العناصر الأوسع اللازمة لتحقيق النجاح، كتهيئة شروط سلام دائم، أو إدارة بلد مُحتل أُطيح بنظامه المعادي دون أن يُنصّب فيه بعدُ نظام شرعي بديل. وبالتالي، فإن التحدي الحقيقي لا يكمن فقط في التخطيط لحروب طويلة بدلًا من قصيرة، بل في التخطيط لحروب تنطلق من نظرية نصر قابلة للتنفيذ، وذات أهداف واقعية، مهما استغرق تحقيقها من وقت.
عدم الخسارة لا يعني الفوز
إن الإستراتيجية الفعالة للخوضِ حربٍ لا تعتمدُ فقط على الأسلوب العسكرية، بل كذلك على الغاية السياسية. فمن الواضح أن التحركات العسكرية تكون أنجح حين تقترن بطموحات سياسية محدودة. فقد نجحت حرب الخليج عام 1991 لأن إدارة جورج بوش الأب لم تهدف إلا إلى طرد العراق من الكويت، دون السعي لإسقاط الديكتاتور العراقي صدام حسين. وربما كان غزو روسيا لأوكرانيا عام 2022 ليحقق نجاحًا أكبر لو ركّز على منطقة دونباس فقط، بدلًا من محاولة فرض السيطرة السياسية على البلاد بأكملها.
ومع الطموح المحدود، يصبح من الأسهل أيضًا الوصول إلى تسويات. فـنظرية النصر القابلة للتطبيق تقتضي وجود إستراتيجية تتوافق فيها الأهداف العسكرية مع الغايات السياسية. وقد يكون الحل الوحيد في بعض الحالات هو الهزيمة الكاملة للعدو، وفي هذه الحال يجب تخصيص الموارد الكافية لتحقيق ذلك. أما في أوقات أخرى، فقد يُطلق العمل العسكري مع توقّع راسخ بأنه سيُفضي إلى مفاوضات مبكرة. هذا ما كانت تعتقده الأرجنتين في نيسان/أبريل 1982 حين استولت على جزر الفوكلاند. وحين أمر الرئيس المصري أنور السادات قواته بعبور قناة السويس في تشرين الأول/أكتوبر 1973، كان هدفه خلق الظروف الملائمة لبدء محادثات مباشرة مع إسرائيل. ورغم أن قواته أُجبرت على التراجع، فإنه حقق مبتغاه السياسي.
إن الاستخفاف بالموارد السياسية والعسكرية للعدو هو أحد الأسباب الرئيسية لفشل إستراتيجيات الحرب القصيرة. فقد افترضت الأرجنتين أن المملكة المتحدة سوف تقبل الأمر الواقع عندما استولت على جزر فوكلاند، ولم تتخيل أن البريطانيين سوف يرسلون وحدة حربية لتحرير الجزر. وكثيرًا ما تُشنّ الحروب استنادًا إلى اعتقاد خاطئ بأن سكان الدولة العدوّة سينهارون بسرعة تحت وطأة الهجوم. وقد يفترض الغزاة أن جزءًا من السكان سيرحب بهم، كما حدث في غزو العراق لإيران عام 1980، وكذلك في الغزو الإيراني المضاد للعراق. وقد بَنَت روسيا هجومها واسع النطاق على أوكرانيا على قراءة خاطئة مماثلة: إذ افترضت وجود أقلية مضطهدة—أي المتحدثين بالروسية—ستُرحب بقواتها؛ وأن الحكومة في كييف تفتقر إلى الشرعية ويمكن الإطاحة بها بسهولة؛ وأن وعود الغرب بدعم أوكرانيا لن تكون ذات أثر يُذكر. غير أن أيًا من هذه الافتراضات لم يصمد أمام أيام الحرب الأولى.
عندما تفشل خطة الحرب القصيرة في تحقيق النصر المنشود، فإن التحدي الذي يواجه القادة العسكريين يتمثل في إعادة مواءمة الوسائل مع الغايات. أدرك الرئيس فلاديمير بوتن بحلول أيلول/سبتمبر 2022 أن روسيا تواجه خطر هزيمة مذلة ما لم تتمكن من إرسال المزيد من الجنود إلى الجبهة ووضع اقتصادها على أهبة الاستعداد للحرب الشاملة. وباعتباره زعيم دولة استبدادية، كان بوسع بوتن أن يقمع المعارضة الداخلية ويحافظ على السيطرة على وسائل الإعلام، ولم يكن عليه أن يقلق كثيرا بشأن الرأي العام. ومع ذلك، كان في حاجة إلى رواية جديدة. وبعد أن أكّد قبل الحرب أن أوكرانيا ليست دولة حقيقية وأن قادتها «النازيون الجدد» استولوا على السلطة من خلال انقلاب في عام 2014، لم يستطع أن يُفسّر لماذا لم تنهَر البلاد أمام ضربة روسية ساحقة. لذا غيّر بوتين روايته: فأوكرانيا، بحسب مزاعمه، كانت أداة في يد دول حلف الناتو، وعلى رأسها الولايات المتحدة والمملكة المتحدة، تستخدمها لملاحقة أهداف معادية لروسيا.
على الرغم من أن الكرملين قدم الغزو في البداية باعتباره «عملية عسكرية خاصة» محدودة، فقد صوره الآن بوصفهِ نزاعًا وجوديًا. وهذا يعني أن الهدف لم يعد مجرد كبح جماح أوكرانيا وإسكاتها، بل إثبات لدول حلف الناتو أن روسيا لن تُهزم بالعقوبات الاقتصادية ولا بإمدادات الأسلحة المرسلة إلى أوكرانيا. ومن خلال توصيف الحرب بأنها دفاعية، كانت الحكومة الروسية تخبر شعبها بمدى المخاطر التي أصبحت على المحك، بينما كانت تحذرهم في الوقت نفسه من أنهم لا يستطيعون الآن أن يتوقعوا نصرًا سريعًا. وبدلًا من تقليص أهدافها للاعتراف بالصعوبات التي تكتنف هزيمة الأوكرانيين في المعركة، قام الكرملين بتوسيع نطاقها لتبرير الجهود الإضافية. فمن خلال ضمّ أربع مقاطعات أوكرانية إضافية إلى جانب شبه جزيرة القرم، والاستمرار في المطالبة بحكومة خاضعة في كييف، جعلت روسيا من إنهاء الحرب أمرًا أكثر تعقيدًا، لا أسهل. وتُجسّد هذه الحالة الصعوبة البالغة في إنهاء الحروب التي تسير على نحو سيئ: إذ إن احتمال الفشل غالبًا ما يُنتج هدفًا سياسيًا إضافيًا—وهو الرغبة في تجنّب الظهور بمظهر الضعف أو العجز. وقد كانت الاعتبارات المرتبطة بالسمعة أحد الأسباب التي دفعت الحكومة الأميركية إلى التمسك بالبقاء في فيتنام طويلًا، حتى بعد أن أصبح واضحًا أن النصر لم يعد في المتناول.
يتطلب استبدال نظرية نصر فاشلة بأخرى أكثر واقعية ليس فقط إعادة تقييم القدرات الحقيقية للعدو، بل أيضًا الاعتراف بالثغرات الكامنة في الافتراضات السياسية التي شكّلت الأساس للخطوات الأولى من الحرب. فلو افترضنا أن مساعي الرئيس الأميركي دونالد ترامب لفرض وقفٍ لإطلاق النار تُؤتي ثمارها، وأدّت إلى تجميد الحرب عند خطوط التماس الحالية، فقد تتمكن موسكو من تصوير مكاسبها الإقليمية كنوع من النجاح، لكنها لن تستطيع الادعاء بتحقيق نصر حقيقي ما دامت أوكرانيا لا تزال تملك حكومة مستقلة وموالية للغرب. وحتى لو قبلت أوكرانيا مؤقتًا خسائرها الإقليمية ولكنها لا تزال قادرة على بناء قواتها والحصول على شكل من أشكال الضمانات الأمنية بمساعدة شركائها الغربيين، فإن النتيجة سوف تظل بعيدة كل البعد عن المطلب الروسي المعلن عنه مرارًا وتكرارًا بإقامة أوكرانيا محايدة منزوعة السلاح. وستجد روسيا نفسها حينها مسؤولة عن إدارة وتمويل أراضٍ مدمّرة تسكنها فئة شعبية ناقمة، إلى جانب اضطرارها للدفاع عن خطوط وقف إطلاق نار طويلة ومعرّضة للاختراق.
ورغم أن روسيا لم تتمكن من الفوز بالحرب، فإنها لم تخسرها حتى الآن. لقد أُجبرت على الانسحاب من بعض الأراضي التي احتلتها في وقت مبكر من الحرب، ولكن منذ أواخر عام 2023 حققت مكاسب بطيئة ولكن مستمرة في الشرق. ومن ناحية أخرى، لم تخسر أوكرانيا أيضًا، إذ نجحت في مقاومة المحاولات الروسية لإخضاعها، وأجبرت روسيا على دفع ثمن باهظ مقابل كل ميل مربع استولت عليه. والأهم من ذلك كله أنها ما زالت دولة قائمة وفاعلة.
لا نهاية في الأفق
يُعدّ التمييز في التحليلات المتعلقة بالحروب المعاصرة بين «الانتصار» و«عدم الهزيمة» أمرًا بالغ الأهمية، وإنْ كان من الصعب استيعابه. فالفارق بينهما ليس بديهيًا، نظرًا للافتراض الشائع بأن لكل حرب منتصرًا، ولأن أحد الأطراف قد يبدو، في أي لحظة، وكأنه بصدد تحقيق النصر —حتّى إن لم يكن قد انتصر فعليًا. إن حالة «عدم الهزيمة» لا يمكن التعبير عنها بشكل جيد بمصطلحات مثل الجمود والطريق المسدود، لأن هذه المصطلحات تعني تحركًا عسكريًا ضئيلًا. يمكن أن يكون كلا الجانبين «غير مهزومين» عندما لا يتمكن أي منهما من فرض النصر على الآخر، حتى لو كان أحدهما أو كلاهما قادرًا في بعض الأحيان على تحسين مواقفه. ولهذا السبب فإن المقترحات الرامية إلى إنهاء الحروب الطويلة الأمد تأخذ عادة شكل دعوات لوقف إطلاق النار. غير أن الإشكال في اتفاقيات وقف إطلاق النار أنها غالبًا ما تُعتبر من قِبل الأطراف المتنازعة مجرّد هدنة مؤقتة في القتال. وقد لا تؤثر كثيرًا على جوهر النزاع، بل تمنح كلا الجانبين فرصة لإعادة التجمّع والاستعداد للجولة التالية. فوقف إطلاق النار الذي أنهى الحرب الكورية عام 1953 استمر لأكثر من سبعين عامًا، ومع ذلك لم يُحسم النزاع، وما زال الطرفان يستعدان لاحتمال اندلاع حرب جديدة.
لا تزال معظم نماذج تحليل الحرب تفترض وجود تفاعل بين قوتين مسلحتين نظاميتين. وبموجب هذا الإطار، فإن النصر العسكري الحاسم يأتي عندما تصبح قوات العدو غير قادرة على مواصلة القتال، وينبغي أن تترجم هذه النتيجة إلى نصر سياسي أيضًا، لأن الجانب المهزوم ليس لديه خيار سوى قبول شروط المنتصر. بعد سنوات من التوتر والقتال المتقطع، قد يتمكن أحد الجانبين من الوصول إلى وضع يسمح له بادعاء تحقيق نصر لا لبس فيه. ومن الأمثلة على ذلك الهجوم الذي شنته أذربيجان على إقليم ناغورنو كاراباخ في عام 2023، والذي لعلّه أنهى حربًا استمرت ثلاثة عقود مع أرمينيا.
ومن ناحية أخرى، حتى إذا ظلت القوات المسلحة لدولة ما متماسكة إلى حدّ كبير، فقد تتصاعد الضغوط على حكومتها للبحث عن مخرج من النزاع، نتيجة التكاليف البشرية والاقتصادية المتراكمة. وقد تغيب إمكانية تحقيق نصر حقيقي من الأساس، كما أدركت صربيا خلال حربها ضد حلف الناتو في كوسوفو عام 1999. كما يمكن أن يؤدّي تغيّر النظام السياسي في أحد أطراف النزاع إلى إنهاء مفاجئ للقتال. غير أن الحروب الطويلة، عندما تنتهي، تميل إلى ترك إرثٍ مريرٍ ودائمٍ.
حتى في الحالات التي يُمكن فيها التوصل إلى تسوية سياسية—وليس مجرد وقف لإطلاق النار—قد لا يُفضي ذلك إلى حلٍ فعلي للنزاع. فإعادة ترسيم الحدود، وربما تقديم الطرف المهزوم تنازلات اقتصادية وسياسية كبيرة، قد تُولّد مشاعر سخط ورغبة في الانتقام لدى السكان المهزومين. وقد تظلّ الدولة المهزومة مصمّمة على استعادة ما فقدته، كما كان حال فرنسا بعد خسارتها لأراضي الألزاس واللورين لصالح ألمانيا عام 1871 في أعقاب الحرب الفرنسية-البروسية. وفي حرب الفوكلاند، زعمت الأرجنتين أنها كانت تستعيد أرضًا فقدتها قبل قرن ونصف. وفوق ذلك، فإن الأراضي التي يستولي عليها المنتصر ويقوم بضمّها، ستبقى بحاجة إلى حكم فعلي وإجراءات أمنية. وإذا لم يُخضع السكان المحليون، فقد تتحوّل عملية الاستيلاء الناجحة في ظاهرها إلى وضع متفجّر من الإرهاب والتمرد.
وعلى النقيض من النماذج التقليدية للحرب، التي عادةً ما تكون لها نقطة بداية واضحة وتاريخ نهاية محدد، فإن النزاعات المعاصرة غالبًا ما تتّسم بحوافّ ضبابية. فهي تميل إلى المرور بمراحل متعدّدة، قد تشمل فترات من الحرب يعقبها هدوء نسبي. خذ على سبيل المثال النّزاع بين الولايات المتحدة والعراق: هُزمت القوات العراقية في عام 1991 بسرعة على يد تحالف تقوده الولايات المتحدة، في حرب بدت في ظاهرها قصيرة وحاسمة. غير أن قرار الولايات المتحدة بعدم احتلال البلاد آنذاك أبقى صدام حسين في الحكم، وأدى تمرده المستمر إلى شعور بأن الحرب لم تُحسم بعد. وفي عام 2003، أعادت الولايات المتحدة غزو العراق في عهد الرئيس جورج دبليو بوش، وحققت انتصارًا سريعًا آخر، وهذه المرة أُطيح بنظام حزب البعث بقيادة صدام. لكن عملية استبداله بنظام جديد فجّرت سنوات من العنف الطائفي المدمر، بلغ في بعض مراحله حدّ الحرب الأهلية الكاملة. ولا تزال بعض آثار ذلك الاضطراب مستمرة حتى اليوم.
نظرًا لأن الحروب الأهلية وعمليات مكافحة التمرّد تُخاض وسط السكان وبينهم، فإن المدنيين هم من يتحمّلون العبء الأكبر من الأذى الناتج عن هذه الحروب —ليس فقط من خلال الوقوع في براثن العنف الطائفي المتعمّد أو تبادل النيران، بل أيضًا بسبب اضطرارهم إلى النزوح عن منازلهم. وهذا أحد الأسباب التي تجعل مثل هذه الحروب تميل إلى إنتاج نزاعات طويلة الأمد وفوضى مستمرة. وحتى عندما تقرر قوة متدخّلة الانسحاب، كما فعل الاتحاد السوفييتي، ولاحقًا التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة في أفغانستان، فإن ذلك لا يعني نهاية النزاع —بل فقط تحوّله إلى أشكال جديدة.
كانت لدى الولايات المتحدة في عام 2001 خطة واضحة لـ «حرب قصيرة» للإطاحة بطالبان، وقد نفّذتها بنجاح وكفاءة نسبية باستخدام القوات النظامية جنبًا إلى جنب مع التحالف الشمالي بقيادة أفغانستان. لكن لم تكن هناك إستراتيجية واضحة للمرحلة التالية. ولم تكن المشكلات التي واجهتها واشنطن ناجمة عن خصم عنيد يقاتل بجيوش نظامية، بل عن عنف مستشرٍ، غير نظامي، ينبثق من قلب المجتمع المدني، وكان تحقيق أي نتيجة مرضية مرهونًا بأهداف مراوغة، كتحقيق الحوكمة الرشيدة وتوفير الأمن للسكان. ومع غياب القوى الخارجية الداعمة للحكومة، استطاعت حركة طالبان أن تعود، واستمر تاريخ النزاع في أفغانستان.
إن انتصار إسرائيل في عام 1967 —والذي كان حالة نموذجية للنصر السريع— تركها أيضًا تحتل مساحة كبيرة من الأراضي مع سكان ساخطين، مما خلق الظروف لاندلاع العديد من الحروب اللاحقة، بما في ذلك الحروب التي تفجّرت عقب هجمات حركة حماس في 7 أكتوبر 2023. ومنذ ذلك الحين، خاضت إسرائيل حملات عسكرية ضد الحركة في قطاع غزّة—الذي كانت قد انسحبت منه عام 2005—وضد حزب الله في لبنان، حيث خاضت عملية عسكرية فاشلة في عام 1982. وقد اتخذت الحملتان شكلًا متشابهًا، يجمع بين عمليات برية تستهدف تدمير منشآت العدو، بما في ذلك شبكات الأنفاق، وضربات جوية ضد مخازن الأسلحة، ومنصات إطلاق الصواريخ، وقادة الجماعتين. وأسفرت كلتا الحربين عن أعداد هائلة من الضحايا المدنيين، وتدمير واسع النطاق للمناطق والبنى التحتية المدنية. ومع ذلك، يُمكن اعتبار الوضع في لبنان نجاحًا نسبيًا، لأن حزب الله وافق على وقف إطلاق النار بينما كانت الحرب لا تزال مستمرة في قطاع غزة—وهو أمر سبق أن أعلن رفضه له. في المقابل، فإن وقف إطلاق النار المؤقّت في قطاع غزّة لم يُعدّ انتصارًا، لأن الحكومة الإسرائيلية كانت قد حدّدت هدفها المعلن في القضاء التام على حركة حماس، وهو ما لم يتحقق. وفي مارس، وبعد فشل المفاوضات، استأنفت إسرائيل الحرب دون امتلاك إستراتيجية واضحة لإنهاء النّزاع إنهاءً حاسمًا. وعلى الرغم من الإنهاك الكبير الذي تعانيه، لا تزال حماس تحتفظ بقدرتها على العمل، وفي ظل غياب خطة متفق عليها لحكم غزة مستقبلًا، أو بديل فلسطيني مناسب، ستظل الحركة قوة مؤثرة.
تبدو الصراعات الممتدة متوطنة في أفريقيا. فأفضل مؤشّر على احتمال اندلاع العنف مستقبلًا هو وجود عنف في الماضي. تشتعل الحروب الأهلية في أنحاء القارة، ثم تخمد مؤقتًا، وهي غالبًا ما تعكس انقسامات عرقية واجتماعية عميقة، تُفاقمها التدخلات الخارجية، بالإضافة إلى نزاعاتٍ أكثر فجاجة على السلطة. ويؤدي هذا الاضطراب الكامن إلى حالة من النزاعِ المستمر، يكون للأفراد والجماعات مصلحة مباشرة فيه، ربما لأن القتال يُوفر دافعًا وغطاءً في الوقت ذاته للاتجار بالأسلحة والبشر والسلع غير المشروعة. وتشمل الحرب الجارية حاليًا في السودان نزاعًا داخليًا وتحالفات متبدّلة، بدأ بإطاحة نظام قمعي على يد تحالف معارض، سرعان ما انقلب على نفسه، مما أدّى إلى حرب أشد ضراوة. كما تتورط فيها أطراف خارجية مثل مصر والإمارات العربية المتحدة، التي يبدو أن اهتمامها ينصبّ على منع خصومها من تحقيق مكاسب، أكثر من سعيها لإنهاء العنف وتهيئة الظروف للتعافي وإعادة الإعمار.
وكأنما لتأكيد القاعدة، فإن اتفاقات وقف إطلاق النار ومعاهدات السلام—حين تحدث—غالبًا ما تكون قصيرة الأجل. فقد وقّعت الأطراف السودانية أكثر من 46 اتفاق سلام منذ استقلال البلاد في عام 1956. وغالبًا ما يُنظر إلى الحروب بوصفها تبدأ عند اندلاع المواجهة العسكرية المباشرة، لكن التوتّرات التي تسبق الحرب وتلك التي تليها تُعد جزءًا من العملية ذاتها. فبدلًا من النظر إلى الحروب كأحداث منفصلة ذات بداية ووسط ونهاية، قد يكون من الأدق فهمها بوصفها نتيجة لعلاقات سياسية سيئة ومختلّة يصعب إدارتها بوسائل سلمية.
نوع مختلف من الردع
إن الدرس الرئيس الذي يمكن للولايات المتحدة وحلفائها استخلاصه من تجربتهم الواسعة في الحروب الطويلة هو أن من الأفضل تجنبها. فإذا وجدت الولايات المتحدة نفسها منخرطة في صراع طويل الأمد مع قوة عظمى أخرى، فسيتعيّن تعبئة الاقتصاد والمجتمع بالكامل في وضعية حرب. وحتى إذا انتهت مثل هذه الحرب بنتيجة تُشبه النصر، فمن المرجّح أن تكون آثارها مدمّرة على السكان، وأن تُستنزف الدولة إلى الحد الذي تفقد فيه أي قدرة فائضة. علاوة على ذلك، ومع شدة الحروب المعاصرة، وسرعة الاستنزاف، وارتفاع كلفة الأسلحة الحديثة، قد لا يكون تكثيف الاستثمار في المعدات والذخائر كافيًا للاستمرار في حرب مستقبلية لفترة طويلة. وعلى أقل تقدير، سيتعيّن على الولايات المتحدة وشركائها تأمين مخزونات كافية مسبقًا تُمكّنهم من الصمود في القتال لفترة كافية، ريثما تبدأ تعبئة شاملة وجذرية على نطاق واسع.
وهناك أيضًا، بطبيعة الحال، خطر اندلاع حرب نووية. ففي مرحلة ما من حرب طويلة الأمد تشمل روسيا أو الصين، قد يكون إغراء استخدام الأسلحة النووية أمرًا لا يقاوم. ومن المرجح أن يؤدي مثل هذا السيناريو إلى إنهاء حرب تقليدية طويلة الأمد بشكل مفاجئ. بعد سبعة عقود من النقاش حول الإستراتيجية النووية، لم تُصغ حتى الآن نظرية موثوقة لتحقيق نصر نووي على خصم قادر على الرد بالمثل. وكما هي الحال مع إستراتيجيي الحرب التقليديين، ركز المخططون النوويون على السرعة وتنفيذ ضربات افتتاحية قوية، تهدف إلى تدمير وسائل الردع لدى العدو، أو القضاء على قيادته، أو على الأقل إرباكها وإخافتها لإحداث شلل في اتخاذ القرار. ولكن كل هذه النظريات بدت غير موثوقة وتخمينية، لأن أي ضربات أولى سوف يتعين عليها أن تتعامل مع خطر إطلاق العدو للصواريخ عند الإنذار، فضلًا عن وجود أنظمة كافية قادرة على الصمود في مواجهة رد فعل مدمر. ولحسن الحظ، لم تُختبر هذه النظريات على أرض الواقع. إن الهجوم النووي الذي لا يؤدي إلى تحقيق نصر فوري، بل يؤدي بدلًا من ذلك إلى المزيد من التبادلات النووية، قد لا يطول أمده، ولكنه بلا شك سيكون قاتمًا. ولهذا السبب وصفت هذه الحالة بأنها حالة «الدمار المتبادل المؤكد».
ومن الجدير بالذكر أن أحد الأسباب التي دفعت المؤسسة الدفاعية الأميركية إلى تبني العصر النووي بحماسة كبيرة هو أن مثّل بديلًا للحروب العالمية المدمرة في أوائل القرن العشرين. وكان الإستراتيجيون يدركون تمام الإدراك أن المعارك حتى النهاية بين القوى العظمى قد تكون طويلة ودموية ومكلفة للغاية. ولكن كما هي الحال مع الردع النووي، قد تحتاج القوى العظمى الآن إلى الاستعداد بشكل أكثر وضوحا لحروب تقليدية أطول أمدا مما تفترضه الخطط الحالية —ولو لمجرد المساعدة في ضمان عدم وقوعها. وكما أظهرت الحرب في أوكرانيا على نحوٍ مؤلم، فإن القوى العظمى قد تتورط في حروب طويلة حتى من دون انخراط مباشر في القتال. وسوف تحتاج الولايات المتحدة وحلفاؤها إلى تحسين قواعدها الصناعية الدفاعية وبناء المخزونات للاستعداد بشكل أفضل لمثل هذه الاحتمالات في المستقبل.
غير أن التحدي المفاهيمي الذي تطرحه مثل هذه الاستعدادات يختلف عمّا يتطلّبه التحضير لمواجهة جبّارة بين قوى عظمى. فعلى الرغم من أن هذا الاحتمال قد يكون غير مستساغ، فإن على المخططين العسكريين التفكير في سُبل إدارة صراعٍ ينطوي على خطر الاستطالة، بنفس الطريقة التي سبق أن فكروا بها في إدارة تصعيد نووي محتمل. ومن خلال الاستعداد لاحتمال الحرب الطويلة، وتقويض ثقة أي معتدٍ محتمل بإمكانية خوض حرب قصيرة ناجحة، يمكن للإستراتيجيين في مجال الدفاع أن يوفروا شكلًا آخر من أشكال الردع: إنهم يُوجّهون تحذيرًا للخصوم مفاده أن أي نصر—حتى وإن تحقّق—سوف يُكلفهم ثمنًا باهظًا لا يُحتمل، عسكريًا واقتصاديًا واجتماعيًا.
تبدأ الحروب وتنتهي بقرارات سياسية. فغالبًا ما تنطوي القرارات السياسية التي تُفضي إلى اندلاع نزاع مسلح على افتراضٍ بأن الحرب ستكون قصيرة؛ أما القرار السياسي بإنهاء القتال، فعادةً ما يُجسّد التكاليف والعواقب الحتمية لحربٍ طويلة الأمد. وبالنسبة لأي قوة عسكرية، فإن احتمال الانخراط في نزاعٍ طويل أو غير منتهٍ، وما يرافقه من عدم استقرار اقتصادي وسياسي كبير، يُعد سببًا وجيهًا للتردد قبل الدخول في حرب كبرى، والسعي إلى وسائل أخرى لتحقيق الأهداف المنشودة. لكنه يعني أيضًا أنه عندما لا يمكن تفادي الحرب، يجب أن تكون أهدافها العسكرية والسياسية واقعية وقابلة للتحقيق، ومحددة بطريقة تتيح بلوغها بالإمكانات العسكرية المتوفرة. فواحدة من أبرز إغراءات القوة العسكرية أنها تعِدُ بإنهاء النزاعات بسرعة وحسم، لكن الواقع يُثبت أن ذلك نادرًا ما يتحقق.
التعليقات