23/04/2021 - 21:19

مِهن الطبقة الوُسطى... عُرضة للتلاشي

الحركة العمالية ليست سوى عنصر ضروري في المساواتية السياسية، ولم تعد كافية كمركز طبيعي لها. ولنجاح أي تيار مساواتي سياسي في الحقبة ما بعد الصناعية، من الضروري أن يتبنى اليسار سياسة إيجابية تجاه الطبقة الوسطى

مِهن الطبقة الوُسطى... عُرضة للتلاشي

في أحد شوارع تل أبيب (توضيحيّة - أ ب)

في ما يلي ترجمة بتصرّف، خاصّة بموقع "عرب 48" لمقال كتبه غوران ثربورن، وهو أستاذ فخري في العلوم الاجتماعية بجامعة "كامبريدج"، والذي نُشرت أعماله بما لا يقلّ عن أربع وعشرين لغة وتشمل "اللامساواة في العالم"، و"آسيا وأوروبا في العولمة"، و"بين الجنس والقوة".


يتغذى انعدام المساواة المتفاقم منذ عام 1980، من الطبقة العُليا في المجتمعات، أي من العشرة بالمئة الأغنى فيها، وتحديدًا أولئك الواحد بالمئة من أثرى الأثرياء ومن القلة القليلة منهم المتربعة على أعلى هرم "ثروة فرعونيّة". ورغم أن ليس كل التسعين بالمئة المتبقين من سائر البشرية، محرومين، إلا أن الاقتصاد تخلّى عن جميعهم. وساهم هذا النبذ في زيادة التقارير الصحافيّة والمؤلفات الأكاديميّة النقديّة اللاذعة في النصف الشماليّ من الكرة الأرضيّة، في موجة معاكسة، ومثيرة للاهتمام، لأحلام "الطبقة الوسطى الصّاعدة" في الجنوب العالميّ، وتَوْقِها للاستشارات التجاريّة والمصارف الإنمائيّة.

ساعيان إلى تعزيز العزيمة البرجوازيّة وسط أزمة ثقة داخليّة تعانيها الليبراليّة، يحتفي مؤلفا كتاب "الديمقراطيّة والازدهار"؛ توربين إيفرسن وديفيد سوسكيس، بما يُطلقان عليه وصفَ "الديمقراطيات الرأسماليّة المتقدمة"، ويبديان في كتابهما ولاءً أكبر للرأسماليّة من الديمقراطيّة التي يرونها مسؤولة عن انعدام المساواة، كما أنّهما يشدّدان على أن "جوهر الديمقراطيّة" هو "النهوض بمصالح الطبقة الوسطى".

(أرشيفية - أ ب)

يجادل إيفرسن وسوسكيس، وكلاهما خبيران اقتصاديان مؤسسان بارزان، أن الطبقة الوُسطى تنحاز إلى رأسمالٍ من خلال آليتيْن أساسيتيْن؛ أولًا عبر "الإدماج في تيّار الثروة" الناتج عن تراكُم رأس المال. وثانيًا من خلال دولة الرفاه الاجتماعيّ، إذ يضمن نظام الضرائب فيها، "تقاسمَ" مكاسب اقتصاد المعرفة "مع الطبقات الوسطى".

و"الاشتمال" و"التقاسم" بين الرأسماليين والطبقة الوسطى، هما العنصران اللذيْن وجدت الأبحاث الأخيرة حول عدم المساواة، أنهما مدمرين.

لا شكّ في أن العقيدة النيولبراليّة أبدت تفضيلًا معينًا لمصالح الطبقة الوُسطى في بدايتها، إذ عاد فتح الخدمات العامة أمام سيطرة القطاع الخاص ببعض المكاسب على الشرائح المحظوظة من الطبقة الوُسطى. وقدم التمويل العامّ لأماكن التعليم الخاص المجانيّ، من خلال نظام القسائم المدرسيّة في السويد مثلًا، فرصةً لأولياء الأمور من الطبقة الوسطى، لإرسال أطفالهم إلى مدارس رفيعة المستوى لا تدخلها إلّا قلّة من أطفال المهاجرين وأبناء الطبقة العاملة. أما الرعاية الاجتماعيّة المقدَّمة من الشركات، فقد حظيت بشعبيّة أقلّ، وبخاصّة أنها أكثر عُرضة للفضائح العامّة، ولكنها لا تزال مقبولة على كثيرين باعتبارها سلوكًا مصاحبًا مألوفًا لسياسات التقشُّف والنّقص في الخدمات العامّة.

ومع كل ذلك، يزداد إقصاء الطبقة الوُسطى من الإسكان الحضريّ الممتاز، ناهيك عن اتساع الفجوات في الدخل والثروة، ويحصل كل هذا بينما تترسخ أفكار حماية البيئة أعمق من أي وقت مضى في نفوس أبناء الطبقة الوسطى المتعلمة، الذين أصبحوا يضعون نجاة الكوكب والاستدامة البيئية فوق مصالح رأس المال.

تدهور متسارِع

إنّ وجود متوسّط توزيع الثروة في نقطة الوسط بالتحديد، يعني أن النسبة بين مدخول أغنى أفراد المجتمع ومتوسط الثروة، هي مقياس جيّد للصدع الذي يفصل أثرى أثرياء المجتمع عن الطبقة الوُسطى. وفي الولايات المتحدة، قفزت هذه النسبة من 11:1 عام 1980، لـ26:1 في عام 2016. وفي بريطانيا والسويد، قفزت هذه النسبة التي كانت منخفضة نسبيًا (3:1)، إلى نحو 10:1 في الفترة ذاتها، كما ارتفعت هذه النسبة في ألمانيا، بينما انخفضت قليلًا في فرنسا عن نسبتها المرتفعة أصلًا، 11:1.

وبسبب هذا التباعد المتزايد بين مداخيل الطبقتين العُليا والمتوسطة، تقلّص حجم الطبقة متوسطة الدخل في دول منظّمة التعاون الاقتصاديّ والتنمية "أو إي سي دي"، وهي مؤلفة من أولئك الذين يجنون مداخيلَ تتراوح بين 75 و200 مرّة من متوسط الدخل، وبالتالي قُيِّدت فرص الصعود لهذه الطبقة أيضًا، وتباطَء الوصول إلى التعليم العالي منذ عام 1975، في حين ازداد خطر التدهور الاجتماعي بشكل ملحوظ منذ العام 2010، ولا سيّما في بريطانيا.

في أحد شوارع لندن (توضيحية - أ ب)

واستمرّ تباعُد الطّبقة العُليا عن الوُسطى في جائحة كوفيد-19، بل وتسارع في عدّة دول، ففي الولايات المتحدة، ارتفعت ثروة أصحاب المليارات بنحو 44 بالمئة من منتصف آذار/ مارس 2020 وحتى نهاية شباط/ فبراير 2021، في ذات الفترة التي كان يعاني 50 بالمئة من حملة الشهادات الجامعية، من مصاعب في تغطية تكاليفهم الأسرية العادية. ومع نهاية تموز/ يوليو 2020، ازدادت ثروة أصحاب المليارات البريطانيين بمقدار 35 بالمئة خلال عام واحد فقط، بينما أعلن خُمس أصحاب الدخول المتوسطة عن انخفاض في مدّخراتهم، ولم تزدد مدّخرات نصفهم.

فشل بايدن

يُحرم أبناء الطبقة الوسطى من نظام تعليم نخبوي تزداد حصريته للطبقة العُليا، والذي يمتد من رياض الأطفال وحتى أفضل الجامعات الانتقائية. وهذا نتيجة الاستثمارات الاقتصادية التي لا تُضاهى التي ينفقها أهالي الطبقة العليا من أجل إعداد أبنائهم لشغل أبهى الوظائف في سوق العمل.

ووفقًا لحسابات أستاذ القانون في جامعة "ييل"، ديفيد ماركوفيتس، تبلغ هذه الاستثمارات في تدريب النخبة التي تفوق متوسط الإنفاق على التعليم، قيمة معادلة لحصول شخص على ميراث قدره 16.8 مليون دولار. والنتيجة هي أن "الأطفال الأثرياء الآن يتفوقون على أطفال الطبقة المتوسطة في اختبار سات بما يعادل ضعف تفوق أطفال الطبقة الوسطى على الأطفال الذين نشأوا في حالة فقر".

فشلت مبادرة "وحدة الطبقة المتوسطة" التي أطلقها جو بايدن، عندما كان نائبا للرئيس الأميركي الأسبق، باراك أوباما، في ما يتعلّق برعاية الطفل ومنالية التعليم الجامعي، فضلا عن التأمين الصحي. ولم تنعزل النخبة الاقتصادية العُليا (الواحد بالمئة) عن الطبقة الوسطى على مستوى الولايات المتحدة فحسب، بل تفوقت على جميع الطبقات الغربية العليا الأخرى، لتصيغ ما يبدو وكأنه طبقة خاصة بها.

فائض العمالة

في جميع دول "منظمة التعاون الاقتصاديّ والتنمية"، يواجه الأطفال الطموحون فرصًا أقل للارتقاء الاجتماعي. ليس ذلك فحسب، إذ يتبدّد جوهر الوظائف التي يشغلها أبناء الطبقة الوسطى أيضًا، فتقليديًا تأخذ عمالة الطبقة الوُسطى ثلاثة أشكال رئيسية: العمل الحر (التوظيف الذاتي)، والعمل المكتبي في بعض السلطات المفوّضة، والمهن على مختلف أشكالها. وعلى مر الزمن، تراجعت أعداد وأهمية البرجوازيات الصغيرة التي تعمل لحسابها الخاص، والتي عادة ما يتمركز عملها حول امتلاك المتاجر، والأراضي الزراعية.

(Pixabay)

ومع ذلك، سجلت بريطانيا زيادة في أصحاب المهن الحرّة ممّن يملكون أعمالًا تجارية، منذ بداية القرن الواحد والعشرين. ولكن هذا النمو حاصل في أوساط التجار من أصحاب المشاريع أحادية المالك، ويمكن القول إن معظم هؤلاء كانوا أقرب إلى البريكاريا منهم إلى البرجوازية الصغيرة تاريخيًا، وهي طبقة تقلص أعداد المنتمين إليها بشكل هائل، إذ وقف متوسط دخلهم السنوي بين عامَي 2015 و2016، عند 21 ألف جنيه إسترليني، وهو ثلث متوسط دخل الموظف.

وأما موظفو المكاتب والمدراء من الرّتب الدنيا، فيتعرضون لما أطلق عليه ديفيد بويل بحنكة، "للإدارة العلمية الرقمية" (أو "التايلورية الرقمية")، قبل أن يُستغنى عن خدماتهم بشكل تام، وهو ما يحصل بالفعل مع عدد كبير من موظفي البريد والبنوك. والنتيجة أن الوظيفة المكتبية التي ميزت عمال الياقات البيضاء مرّة، لم تعد ملاذًا آمنًا نسبيًا من الطبقة العاملة، بل أصبحت هدف الأتمتة الرئيسيّ.

تميّز القطاع الكلاسيكي الثالث لوظائف الطبقة الوسطى المتمثّل في المهن، والوظائف المستندة إلى تعليم عال وطويل المدة، وقدرة الانشغال في أنواع معينة من المعرفة، بكونه غير متاح للعامة. ويشمل هذا القطاع المهن القديمة كالتدريس والطبابة والقانون، والخدمات المدنية أيضًا في دول عديدة، وهناك "شبه المهن" كالتمريض والعمل الاجتماعي في القرن العشرين، على سبيل المثال لا الحصر.

لفترات طويلة، كان قطاع الأعمال ورأس المال بشكل أعم، ينظر إلى المهن بعين الاحترام، ولم تمثل هدفًا مغريًا له، وغالبا ما صنّفت التقاليد الألمانية في القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين إلى أصحابها، بالبرجوازية المثقفة، والتي تساوت إلى حدّ ما مع البرجوازية الاقتصادية، من حيث المكانة الاجتماعية. وفصل علم الاجتماع المهن عن عالم الأعمال، باعتبارها موجهة نحو تنمية المعرفة والخدمة العامة، وليس الربح.

تقويض المهن

اليوم، تتعرض مهن الطبقة الوُسطى لهجوم شرس يجعلها عُرضة للتلاشي، في ما عدا المحامين. وهو هجوم يجري على عدّة أصعدة ولكن يُمكن تلخيصه بكونه غزوًا للإدارياتية. ويتضمن انخفاضًا نسبيًا بتقدير التخصص المعرفي، وفقدان الاحترام لها. وعمليًا، يتجلى ذلك أولًا، في تبعية المهنيين والمعلمين، والباحثين، والأطباء، والممرضات، والمهندسين، وغيرهم، للمديرين الإداريين في المدارس والجامعات والمستشفيات والمؤسسات التجارية.

الرئيس الأميركي، جو بايدن (أ ب)

تُضبط ممارسة المعرفة المهنية، من خلال تدقيق، وتقييم المديرين، بل وتُعاقب أيضًا. وينبع ذلك من انعدام ثقة مؤسسية بالاستقلالية المهنية والأخلاق المهنية. وتخضع الممارسات والأخلاقيات المعرفية المهنية، لحسابات التكلفة مقابل الفائدة، وغالبًا ما تُخترع هذه الحسابات خصيصًا، من شبه أسواق داخلية في القطاعات المختلفة، كما تفرض مثلًا، إدارات الجامعات رسومًا على أقسام الجامعة لاستخدام مباني الجامعة. هذا الاختلاق لمساحات تكلفة مقابل الفائدة، هو جزء من حملة معادية للمهن بحجة التجارة.

ويُدار فرض المعيار المثالي للنزعة التجارية، أي المضاد الوسيليّ للذهنية المهنية المتمثلة بالقيم الجوهرية، والمعرفة، وتلبية الاحتياجات، وحيادية القانون والتنظيم، عن طريق إضفاء الصبغة التجارية للقطاع الخاص على المدارس والمستشفيات والسجون، وما إلى ذلك، ومن خلال ما يسمى "أنموذج الإدارة العامة الجديدة" للمؤسسات الممولة من الضرائب. على المستوى الداخلي، يُفترض أن تعمل الأخيرة كشركات شبه سوقية، أي أن تشتري وتبيع الخدمات لبعضها البعض، بينما يتعين عليها أن توظف شركات خاصة لتقديم الخدمات العامة.

(Pixabay)

وبهذه الطريقة، أصبح التعليم والرعاية الصحية والرفاه الاجتماعي، مجالات مربحة لمراكمة رأس المال، جاذبةً لاهتمام "البرجوازية الاقتصادية"، مما أدى إلى هدم "البرجوازية الثقافية" في مساحاتها التقليدية.

ولا يعني ذلك أن مهن الطبقة الوسطى مثالية، فمع تحولها لروتينية، قد تصبح منغلقة، ومحافظة، وغير فعالة. ناهيك أن وصول المرء لمنصب مدرس أو طبيب أو موظف حكومي كان مدعاة للفخر والثقة بالنفس لدى أبناء الطبقة الوسطى. ولكن مشاعر الفخر والثقة بالنفس هذه، تُداس بالأقدام الآن في ظل تسليط سوط الإدارياتية الذي ينزع روح الزمالة. وفي حين تنجح قلّة ممّن يتحوّلون لمديرين ومهنيين "لامعين"، بالهروب إلى المأمن في الطبقة الوُسطى العُليا، فإن الأمر ليس بهذا البساطة بالنسبة للبقية، فالحاضر، وربما المستقبل أيضًا، يميّزه عدم الاستقرار والتدهور.

نحو نهج سياسي جديد

لم يعد ديالكتيك الرأسمالية الصناعية الذي حلله ماركس وتنبأ به بدقة مثيرة للإعجاب، ساري المفعول في شمال الكرة الأرضية كما لم يعد دقيقًا في جنوبها. إذ توقفت الرأسمالية ما بعد الصناعية، عن إنتاج طبقة عاملة متنامية وأكثر تركيزًا من أي وقت مضى. وانتهت هذه العملية في النصف الشمالي من الكرة الأرضية، في الفترة ما بين عام 1965 وعام 1980، عندما بلغ الوزن الاجتماعي للطبقة العاملة ذروته. أما في الجنوب العالمي، تعطل التوظيف الصناعي في التسعينيات، وتوقفت العمالة الصناعية، بما في ذلك البناء والتعدين، في عام 2010 تقريبًا.

وحتى لو تمكن اليسار من استعادة قطاعات الطبقة العاملة التي خسرها لليمين، فإن الحركة العمالية ليست سوى عنصر ضروري في المساواتية السياسية، ولم تعد كافية كمركز طبيعي لها. ولنجاح أي تيار مساواتي سياسي في الحقبة ما بعد الصناعية، من الضروري أن يتبنى اليسار سياسة إيجابية تجاه الطبقة الوسطى.

وهذه بحد ذاتها مسألة حساسة وصعبة للغاية، لأنه لا يمكن لنهج مساواتي تجاه الطبقة الوسطى، أن يتخلى عن الفئات الأكثر ضعفًا، ولا النصف السفلي من السكان، لصالح الخصخصة وركود الدخل، وتهميش حقوق الموظفين أمام أرباب العمل. ولا بدّ أن يتنافى مع نهج رئيس حزب العمال البريطاني الأسبق، توني بلير، والمنحى اليمينيّ للطبقة الوسطى الذي دمر الحزب الاشتراكي الفرنسي والحزب الاشتراكي الديمقراطي الألماني، وهو النقيض لتهميش الشعب والتذلّل لرأس المال مع منظور لا يعبّر سوى عن طموحات الطبقة المتوسطة العليا.

وتتمثل المهمة في إقناع الطبقة الوسطى، أو أجزاء كبيرة منها، بأفضلية المساواة والتضامن الإنساني على الامتيازات، والهدايا "النيو-فرعونية" لرأس المال وأبنائه. ولننطلق من حقيقة أن الرأسمالية ما بعد الصناعية تخلت عن الطبقة الوسطى واستبعدتها، مما أدى إلى اختلاق مجتمع أصبح الواحد بالمئة منه في كفة، والـ99 بالمئة الآخرين في كفة أخرى تمامًا. وأيًا كان من يحكم ديمقراطيات عالمنا الكئيبة، فهو بالتأكيد ليس الناخب المتوسط المتّسق مع تعريفات النظريات الاقتصادية للديمقراطية. وقد تكون عبارة "المتوسط انتهى" أدق ما يُمكن نقشه على قبر الطبقة الوُسطى في ظل النيوليبرالية.

اقرأ/ي أيضًا | أزمة "مكافحة الفساد"

التعليقات